في صمت الرمال، وبين تضاريس الصخر، وجنون التنوع تتحدث المملكة العربية السعودية بلغة التاريخ، وموطن الحضارات المتعاقبة، وشاهد حي على ولادة الإنسان، وتطور العمران، وتلاقي الثقافات. تسعى المملكة، من خلال رؤية 2030، إلى إعادة تعريف موقعها الحضاري عالميًا كأرض زاخرة بالإرث الإنساني، والمادي والطبيعي، وقد باشرت الجهات المختصة، كمنظومة الثقافة، في خطوات نوعية للحفاظ على الآثار، وتسجيلها في قائمة التراث العالمي (اليونسكو)، لتصبح هذه المواقع رواة لقصة وطن لم ينقطع عن التاريخ. بين جدرانٍ من الطين، وقصورٍ حملت القرارات الأولى، ومساجد صدحت بالدعوة، يقف حي الطريف شامخًا في قلب الدرعية، شاهدًا على أول فجرٍ للدولة السعودية، الحيّ لا يتكلّم فقط عن الماضي، بل يُجيد استحضاره، ويحوّله إلى متحفٍ حيّ يروي سيرة المجد، ويرسم ملامح البدايات بثبات لا يهتز. كلمة التاريخ حي الطريف هو حي تاريخي يقع في الدرعية، بُني أواخر القرن الثاني عشر الهجري/منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، بأسلوب معماري نجدي نادر. وهو من أكبر الأحياء الطينية في العالم، ويحتوي على قصر سلوى الذي كان مقر الحكم للدولة السعودية الأولى، وجامع الطريف، أكبر مساجدها، والذي بناه الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، ثاني أئمتها الذي تولى الحكم عام 1179ه/1765م. وما بين الأزقة والمساحات، تنتشر نحو 13 قصرًا من قصور الأسرة المالكة، ومساجد ومبانٍ حكومية وإنسانية، شكّلت نواة لدولة حديثة. كلمة الصمود منذ أن استقر فيه الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، واصل حي الطريف لعب دوره كمقر لقيادة الدولة الأولى. وازدهر الحي واتسع في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز، ثم أصبح آخر حصن للدفاع عن الدولة في عهد الإمام عبدالله بن سعود. ففي عام 1233ه/1818م، حاصرت القوات العثمانية بقيادة إبراهيم باشا الدرعية ستة أشهر، ووجّهت مدافعها، بإشراف مهندسين أوروبيين، نحو الطريف تحديدًا، حيث كان الإمام يدير معركة البقاء. ورغم الدمار الكبير، بقيت أجزاء واسعة من الحي شامخة، دليلاً على صلابة الطين، وثبات الرجال، وقوة الرسالة. كلمة الحياة في عام 1440ه/2018م، افتتح خادم الحرمين الشريفين مشروع تطوير حي الطريف التاريخي، بهدف تحويله إلى مركز ثقافي سياحي دولي، يعكس مكانة المملكة وثراء تراثها. وجاء عام 1444ه/2022م ليشهد عودة الحياة للحي، حين فُتح رسميًا أمام الزوار، ليتجولوا بين الأزقة ذاتها التي شهدت بزوغ الحكم، ويتنفسوا عبق التاريخ كما عاشه الأوائل. كلمة الاحتفاء حي الطريف اليوم ليس أطلالًا، بل رواية حية تُسرد عبر مجموعة من المعارض الحديثة: معرض الدرعية بقصر سلوى: يعرض تاريخ الدولة الأولى، وقصتها في الحكم والإدارة. معرض الحياة الاجتماعية: يبرز تفاصيل الحياة اليومية لأهالي الدرعية. المعرض الحربي: يوثق أدوات القتال وقصة الدفاع البطولي عن الدولة. معرض الخيل العربية: يُجسد شغف السعوديين بالخيول الأصيلة، وطرق رعايتها. معرض التجارة والمال: يعرض العملات، الأوقاف، والأسواق، كما كانت آنذاك. كلمة العالم في عام 1431ه/2010م، دخل حي الطريف التاريخ من أوسع أبوابه، حين تم تسجيله في قائمة مواقع التراث العالمي باليونسكو، كثاني موقع سعودي بعد موقع الحِجر. وكان هذا الاعتراف تتويجًا لعقود من العناية، حيث أولاه الملك سلمان بن عبدالعزيز اهتمامه منذ أن كان أميرًا للرياض، حين ترأس اللجنة التنفيذية العليا لتطوير الدرعية عام 1419ه/1998م. وواصل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هذا الاهتمام، فضمّن الطريف في برنامج خاص ضمن أعمال هيئة تطوير بوابة الدرعية، التي يرأس مجلس إدارتها. كلمة لا تنتهي حين تمشي في حي الطريف، فأنت لا تعبر حيًّا أثريًا فحسب، بل تسير داخل رواية الوطن. في كل حجر قصة، وفي كل جدار نبض، وفي كل ركن قرار، وهنا كلمة المجد، وسرد الدولة، ومتحفٌ مفتوحٌ على التاريخ.. يروي حكاية بدأت من الطين، وباقية خالدة من أجل الإنسان.