بيان الخارجية السعودية ليس وثيقة سياسية عابرة، بل علامة فارقة في لحظة يمنية دقيقة.. علامة تقول إن زمن خلط القضايا بالميليشيا، والحقوق بالسلاح، يقترب من نهايته، وإن الطريق الوحيد المفتوح هو طريق الدولة مهما بدا شاقًا، لأنه وحده القادر على إنقاذ القضايا العادلة من مصير الاختطاف، واليمن من مصير التفتّت.. لا يتعامل بيان وزارة الخارجية السعودية الأخير مع تحرّكٍ عسكري عابر بوصفه واقعةً أمنيةً معزولة، ولا يكتفي بتسجيل موقفٍ تكتيكي حيال تطورٍ ميداني، بل يتقدّم باعتباره قراءة سياسية مسؤولة لمسارٍ كامل حاول، على مدى سنوات، تحويل "عدالة القضية" إلى تفويضٍ مفتوح لفرض الأمر الواقع، وإحلال منطق القوة محلّ السياسة، والادعاء بالتمثيل بدلًا عن التوافق. في هذا البيان، لا تخاطب الرياض حدثًا منعزلًا في حضرموت أو المهرة، بل تخاطب مسارًا مختلًّا حاول أن يعيد تعريف القضايا العادلة بمنطق الغلبة، وأن يمرّر التوسّع العسكري بوصفه استحقاقًا سياسيًا، وكأن الجغرافيا تُمنح لمن يصل إليها أولًا، لا لمن يتوافق عليها ويمثل أهلها ضمن إطار الدولة. الرسالة السعودية هنا سيادية بامتياز. سيادية لا بمعناها العسكري، بل بمعناها السياسي والأخلاقي: الفصل الصارم بين مشروعية القضايا وشرعية الوسائل، وبين الحق في التمثيل السياسي وبين التغوّل بالقوة.. فالقضية الجنوبية، بكل تعقيداتها التاريخية والاجتماعية، ليست موضع إنكار في البيان، لكنها في الوقت نفسه ليست رخصة مفتوحة لاختزال الجنوب في فصيل، ولا لتسويق السلاح بوصفه أداة تعبير سياسي. وحين تقول الرياض إن التحركات العسكرية في حضرموت والمهرة تمت بشكل أحادي ودون تنسيق، فهي لا تصدر حكمًا إداريًا، بل تعيد تثبيت قاعدة جوهرية: لا شرعية لأي فعل سياسي خارج الدولة، ولا غطاء لأي سلاح يتحرك دون توافق وطني وإقليمي، مهما حمل من شعارات، ومهما ادّعى تمثيل المظلومية. حضرموت والمهرة لم تُذكرا في البيان بوصفهما "جغرافيا جنوبية" فحسب، بل كعقدتي توازن إقليمي واستقرار وطني. فهاتان المحافظتان ظلّتا، رغم هشاشة الدولة، نموذجًا نسبيًا للاستقرار، ومساحة حسّاسة لتوازنات تتجاوز الداخل اليمني إلى الإقليم بأسره. وأي عبث أحادي بهما لا يُنذر بتوسيع نفوذ سياسي، بل بتفجير الجنوب من الداخل قبل أن يخدم قضيته، وبفتح جبهات صراع داخلية لا رابح فيها. هنا تحديدًا يتقدّم البيان من التحذير إلى إعادة الضبط. فالمملكة، التي بذلت جهودًا طويلة للحفاظ على وحدة الصف، ولمّ الشمل، ومنع الانزلاق إلى اقتتال داخلي، تقول بوضوح إن الطريق إلى السلام لا يمر عبر المعسكرات، ولا عبر فرض الوقائع، بل عبر التوافق، والحوار، والعودة إلى منطق الدولة. ولذلك لم يأتِ البيان بلغة الوعيد، بل بلغة التصحيح، كمن يضع الجميع أمام مرآة المآلات لا أمام فوهة السلاح. ما تقوله الرياض بوضوح: لا جنوب يُختزل، ولا قضية تُحتكر، ولا مستقبل يُبنى خارج الدولة والتوافق. وهذه ليست رسالة تحذير، بل محاولة أخيرة لإعادة ضبط مسار اليمن كله قبل أن تنزلق القضايا العادلة إلى مصير الاختطاف. فالتحرّكات الأحادية، مهما رفعت من شعارات، لا تصنع عدالة، بل تعيد إنتاج الظلم بصيغة جديدة. ولعل أكثر ما يميّز البيان أنه يرفض المقايضة بين الأمن والسياسة. فلا أمن يُفرض على حساب التوافق، ولا سياسة تُمارس تحت ضغط السلاح. ولهذا شددت المملكة على أهمية التعاون بين كافة القوى والمكونات اليمنية، وعلى تغليب المصلحة العامة، وضبط النفس، لأن البديل عن ذلك ليس انتصار طرف، بل انهيار ما تبقى من السلم المجتمعي. في عمق هذا الموقف، تبدو السعودية وكأنها تقول لليمنيين جميعًا: إن القضايا العادلة لا تحميها البنادق، بل تحميها الدولة، وإن الجنوب، كما الشمال، لا يُبنى بالاستقواء بل بالشراكة.. وإن من يظن أن التاريخ يمنحه تفويضًا أبديًا ينسى أن التاريخ ذاته لا يعترف إلا بمن يصنع السلام لا بمن يوسّع الخرائط. بيان الخارجية السعودية، بهذا المعنى، ليس وثيقة سياسية عابرة، بل علامة فارقة في لحظة يمنية دقيقة.. علامة تقول إن زمن خلط القضايا بالميليشيا، والحقوق بالسلاح، يقترب من نهايته، وإن الطريق الوحيد المفتوح هو طريق الدولة، مهما بدا شاقًا، لأنه وحده القادر على إنقاذ القضايا العادلة من مصير الاختطاف، واليمن من مصير التفتّت.