ذات يوم وفي أحد اللقاءات الاجتماعية، قابلتُ امرأة دون وجود معرفة مسبقة بها، لفتتني بعض تصرّفاتها مع طفلتها، فاستقرّ ذهني لا إراديًّا عليها، كان صوت خوفها وحرصها على طفلتها أعلى صوت سمعته في المكان، رغم تفاوت الأحاديث وتشابكها وتداخلها. اهتمامٌ ملحوظ ومبالغٌ به، بدت وكأنها غير قادرة على الخوض في نقاش مع أي شخص أو النظر إليه؛ لفرط انتباهها لطفلتها! مضيتُ من الاجتماع وكأنّ شيئًا لمْ يكن؛ لتُخبرني إحدى معارفي بعدئذٍ بأنّ هذه المرأة فقدت طفلتيها سابقًا في فترات زمنية مختلفة، وكلاهما كانتا في عمر مقارب لعمر طفلتها الحالية -حفظها الله-، والمُفجع أكثر أن سبب الفقدان في كلتا الحالتين هو ارتفاع مفاجئ في درجة حرارة الجسم، مما أدى للوفاة! وفعلًا كما يُقال في المثل الشعبي المعروف "إذا عُرِف السبب بطل العجب". فهمتُ الآن الجُرح المدفون داخل عينيّ تلك الأم، اتضحت القصة التي أمسكت بزمام ردّات فعلها وأشعلت الهلع بداخلها. منذُ أنْ حدث ذلك الموقف وأنا أفكّر كيف أنّنا لا نرى الصورة الكاملة لحياة الآخرين! في حين أنّنا نطلق أحكامًا عليهم، ونستنكر تصرفاتهم! متغافلين تمامًا بأنّ الإنسان يتصرف بناءً على تجربته الفردية من أفكارٍ مُكتسبة ومشاعر مُخزّنة، علينا أن نعي في كلّ موقف ننتقِد به أفعال شخص ما بأنّنا لا نرى الصورة كاملة! ولو رأينا الصورة كاملة لوجدنا في الأمرِ اختلافًا عظيمًا. علينا أنّ نفهم بأنّ المعنى لا يطفو على السطح؛ لندرك الحقائق، وأنّ الحقائق غالبًا ما تغوصُ في الأعماق.