كان السؤال الذي يتكرر عليّ بعد مشوارٍ طويل في الكتابة تجاوز الثلاثين عامًا: هل لديك إصدارات مطبوعة؟ سؤال بسيط في ظاهره، لكنه يحمل في طيّاته معنىً كبيرًا، كأن لا شيء يوثق المسيرة أو يشهد على التجربة سوى كتابٍ مطبوع يحمل اسمك وفكرك بين دفّتيه. رغم انغماسي في عالم الصحافة والكتابة لسنوات، ورغم رغبتي العميقة في أن ترى أفكاري النور في كتب، إلا أنني ظللت أؤجل هذه الخطوة، أراقب زملائي وهم يصدرون مؤلفاتهم واحدًا تلو الآخر، أتابع إنجازاتهم بشغف، وأشعر في كل مرة أنني على مشارف القرار... ثم أعود لأجّله. كثيرون حفّزوني: أصدقاء، وكتّاب، ومتابعون. قالوا إن الكتاب الأول مثل المولود الأول، تترقبه بشوق، ويليه كل شيء بسهولة ويسر، قالوا إن التأخير يُهدر الحقوق ويُشتت الإرث الكتابي، وإن الكتاب المطبوع ليس مجرد منتج، بل هو محطة اعتراف، ودفعة معنوية، وبداية طريق. وفي لحظة صفاء قررت أن أخطو خطوتي الأولى. بحثت عن دار نشر مناسبة، ووفّقني الله بصديق أديب يدير دار نشر باحتراف ومحبة. عشت معه كل تفاصيل التجربة، من اختيار العنوان والغلاف إلى تدقيق النص وتجهيز الطبعة. تعلمت من تلك الرحلة الكثير، واكتسبت خبرات سأحملها معي في كل إصدار قادم. الآن، بعد صدور كتابي الأول، أدركت كم كنت مؤجلًا لفرحة مستحقة، كانت ردود الفعل جميلة، مشجعة، بل مُلهِمة. شعرت أن جزءًا مني قد اكتمل، وأن الكتاب المطبوع ضرورة لكل كاتب يريد أن يُخلّد أثره، ويحفظ نتاجه، ويعزز حضوره. وأنا أخرج من هذه التجربة، لم أخرج فقط بكتاب مطبوع، بل بعدد من المعارف والتجارب التي صنعت فرقًا حقيقيًا في وعيي الكتابي. تعلّمت، واستمتعت، وازددت يقينًا بأن عيش كل خطوة في مسار الإصدار هو ما يمنح التجربة معناها وعمقها. حين تكون مسؤولًا عن تفاصيل عملك، من الفكرة حتى الطباعة، تشعر بأنك أنصفت نفسك، وقدّمت لها ما تستحق. ليس مجرد إصدار يحمل اسمك، بل عمل يشبهك، يعكسك، ويحمل شيئًا منك. وماذا بعد الإصدار الأول؟ تتولد بداخلك رغبة ملحّة في أن تُكمل المشهد، أن تشارك في معارض الكتب، أن تحتفل بتدشين كتابك في حفل يليق بفرحة الانتظار الطويل، أن ترى التفاعل أمامك حيًا، ملهمًا، دافعًا. بعيدًا عن الجهد الفكري، أو البذل المالي، تكتشف أن التجربة بأكملها تعيد تشكيلك: تجعلك أكثر وعيًا، أكثر حرصًا على التنوّع، وعلى الاستمرار في العطاء، لا لمجرد النشر، بل لأنك عرفت طعم البداية... وعشقت الطريق. تجربة الإصدار الأول منحتني وهجًا لا يخفت، وحماسة لا تهدأ، ودفعة صادقة نحو المزيد من النضج والشغف والطموح. واليوم، أنظر إلى مخطوطاتي القادمة بعينٍ مختلفة... عين عرفت الطريق، وتنتظر الرحلة التالية بترقب.