دخل للكتابة من باب السؤال: كيف لكاتب أو شاعر أن يحمل قريته الصغيرة وحبيبته الجميلة إلى العالم كلّه؟! بعد تأمل وصل إلى قناعة بأنّ «رسول حمزاتوف» استطاع بكلماته أن يوصل قريته إلى العالم، فكانت كما يقول فكرة الكتابة لديه. تلك باختصار كانت قصّة الأديب «سعيد معلف» ومعها العديد من الآراء حول الكتابة والقراءة والتأمل ودور النشر في هذا الحوار الذي لا تنقصه الجرأة. • لمن تكتب ابتداءً؟ •• لذاكرة أبي المتناثرة في فلسطين منذ عام 67، لثأره العربي القديم، لحنجرته لئلا تذبل فيها الحقول، لأمي الأمّية التي لا تقرأ إلا آيات الجبال، والأودية، والأمطار، والريح، وملامحي التي اتشحت بالسواد، والتي تضيق أكثر كلما مات فيها مسن أو مسنّة، للمرأة من أجل ألا تكف الأمطار على كلماتي، للحب خوفاً من تلاشي الأشجار. أنا أكتب لأنني لا أمتلك حنجرة للغناء كأسلافي، ولكي لا تُتْلِف المدن الطارئة حواسي، وأموت غرقاً في داخلي. • ما تكتبه ويتلقفه متابعوك في تويتر بدهشة وإعجاب ويُتداول على نطاق واسع.. هل تصنّفه على أنه شعر أم قصة أم ماذا؟ •• أعتقد أنه حان الوقت لتتمرد اللغة على القوالب أيّا كانت هذه القوالب شعراً أم قصة أم رواية، فإذا سلّمنا أن اللغة كائن حي ينمو ويكبر ويتلاشى ثم يموت، فلماذا نقولبها في تابوهات؟!. الكتابة قلق وجودي، قلق متمرد، ركض وراء المعنى الغائر جداً وراء الكلمات. ما أكتبه متمرد على هذه التصنيفات، أحاول الإطاحة بالأُطُر الكتابية الأدبية حين أكتب؛ لأفرج عن اللغة الأدبية المعتقلة قروناً طويلة. • الحقول والنساء والأغنيات والجبال.. مفردات تحضر بكثرة في ما تكتب.. لماذا؟ •• لأجل ألا تنال مني المدن، ولئلا يموت أجدادي مرة أخرى. إن بيئتنا الجبلية الوعرة بما فيها من حقول ونساء وأغنيات وما فيها من أمطار وريح وقلق تضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع الطبيعة، تغذي فيه قلق الوجود ووحشة المعرفة وتملؤه بالجمال الروحي هذا الجمال إن لم يسعَ لتوظيفه والحفاظ عليه ستنال منه المدن؛ ولذلك أكتب عن هذه المفردات لأحمل قريتي في قعر المدن، ولأحاول أن أُبقي الطبيعة في داخلي أينما ذهبتُ، ولأنني لم أعد فلاحاً كأجدادي، ولأجل أن أجعل الناس ترى قريتي بعدسات اللغة. • المرأة التي تكتب عنها في جلّ نصوصك يتبادر للقارئ أنها غادرت هذا الزمن.. هل هذا حنين أم فقد؟ •• في البدء أنا من قوم أرادوا أن يمنحوا الأنثى وساماً أبدياً فاخترعوا كلمة هائلة، كلمة تمضي مع القرون كالسلالات، كلمة عصية على نظرية أن الكلمة كائن حي تولد ثم تموت، وهذه الكلمة هي «عرب ربي» التي يطلقونها كوسام سماوي على الأنثى التي تنتمي إلى الأرض طيناً وإلى السماء جمالاً وروحاً وبالتالي فأنا منهم. هؤلاء القوم لم يمنحوا أي شيء آخر في حياتهم هذا الوسام السماوي سوى للأنثى. المرأة التي أكتبها لا أكتب عنها إنما أصنعها من اللغة، أخرجها من المعنى، أحررها من الكلمات، فهي الملهمة، وهي المحرض الأول للغتي، أكتبها لمحاولة القبض على معناها. ولا أعتقد أن أي جبلي يخلو من فقد ما أو حنين ما، وما كل هذه الرقصات والأغنيات والأهازيج التي تملأ القرى إلا نتاج الفقد والحنين، فهو فقد مغلف بحنين، وحنين مغلف بفقد، ولا محرك ولا محرض إلى الجمال والإبداع ومحبة العالم سوى الحب. • لماذا شابٌ مثلك يكره المدن؟ •• ليس كرهاً بالمعنى المجرد لكلمة كره، إنما أنا ابن الطبيعة والأرياف، ولا شيء يقتل أبناء الأرياف والطبيعة كالمدن الطارئة التي تنمو كصدأ على حواف الجغرافيا، أكره الزيف وبيوت الصفيح التي تشبه ثلاجات الموتى، نحن بحاجة إلى أنسنة المدن كي نحبها، نحن بحاجة إلى أنسنة الإنسان قبل المكان، بحاجة إلى إيقاف التشوهات التي تطال المدن روحياً وبصرياً. • كيف دخلت عالم الكتابة؟ •• الكتابة دخلتْ عالمي لا العكس، ربما كانت البداية قديماً نوعاً ما حين اعتزلتُ كل شيء لسبع سنوات من أجل القراءة والتأمل ومواجهة نفسي، ومحاولة الخروج من القلق الوجودي حيال الحياة، ثم بعد ذلك جاءت الكتابة عَرَضاً كمحاولة لمحاورة عالمي الداخلي أولاً، ثم محاورة العالم الخارجي. أثناء هذه الرحلة تأملت كيف أن كاتباً أو شاعراً بمقدوره أن يحمل قريته الصغيرة وحبيبته الجميلة إلى العالم كله، تأملت طويلاً سيرة رسول حمزاتوف وكيف استطاع بكلماته أن يبث قريته على اللغة مباشرة أمام أنظار العالم فكانت الفكرة ثم الكتابة. • ماذا عن علاقتك بالوسط الثقافي ومؤسسات الثقافة كالأندية الأدبية وجمعيات الثقافة؟ •• تربطني علاقات جيدة مع الجميع من منسوبي هذه المؤسسات الذين وجدتُ منهم كل الدعم والتشجيع والمساندة، يُضاف لذلك أنني متابع جيد لما يُطرح على الساحة عبر هذه القنوات الثقافية وأحرص قدر المستطاع على أن أحضر الفعاليات والأمسيات بين فترة وأخرى، بل واقتناء جميع الإصدارات أولاً بأول، ومع ذلك فأنا مؤمن بأن الكتابة الإبداعية يجب أن تبدأ من الحقل من القرية من الريف من الهجرة، ولكن خارج أروقة المؤسسات الثقافية. • أصدرت كتابين «حبيبتي المطر» و«شامة» ومع ذلك ترى أن إصدارك لكتابك الأول يعدّ حماقة.. لماذا؟ •• لأنّ التأليف والنشر يعنيان أنكَ أشرعتَ نفسك للعالم، أو بمعنى أدق أخرجتَ داخلكَ للعيان. وفي ظل الحركة الكبيرة للنشر والإصدارات هذه الأيام والدور السيئ لبعض دور النشر في إصدار كل ما يصل إليهم دون تمييز بين ما يستحق وما لا يستحق من أجل الكسب التجاري البحت في ظل كل هذا يصبح الإصدار حماقة إن لم يستطع الكاتب أن يقول شيئاً ذا بالٍ في أُذُن العالم، شيئاً يستحق أن يُقرأ، ورغم ذلك فإن هذه الحماقة لا بد من ارتكابها مرات ومرات! • شبكات التواصل الجديدة هل اختصرت المشوار عليك وعلى كُتّاب شباب مثلك؟ •• شبكات التواصل إما أن تجعل من الكاتب مشهوراً في وقت وجيز قبل أن يشتد عوده وتكون لديه تجارب عميقة، وإما أن يتعرض الكاتب للسطو والسرقات الأدبية التي وللأسف باتت منتشرة حتى في بعض أوساط المؤلفين الكبار. ولذلك فإن شبكات التواصل تعطي صوت الكاتب وحرفه مجالاً واسعاً للانتشار والوصول، ولكنها في المقابل تجعله خاضعاً (شعر أو لم يشعر) لسلطة الجمهور، وهذا يؤدي بالتالي إلى ضعف عمله الإبداعي. • ماذا منحتك هذه الشبكات؟ •• شبكات التواصل الاجتماعي منحتني كما منحت الشباب فرصة الانتشار والوصول إلى حد ما، وهذه الفرصة (التي لم يجدها أساتذتنا الأدباء الكبار قديماً) تضعنا أمام مسؤولية كبيرة تجاه الكلمة، ولعل أعظم حسنات مواقع التواصل الاجتماعي أنها عرفتني بأناس أنقياء ومبدعين أثروا حياتي كثيراً، وهذا بحد ذاته مكسب بالنسبة لي أهمّ من فكرة الانتشار والشهرة.