القلق والتوتر والترقب، حالات من الصراع الذاتي الذي ينتاب بعضها أو جلها شخصية المؤلف قبل وأثناء وبعد إصدار منتجه الأول، مجرد التفكير بالكتابة والتأليف قد يستغرق من الوقت ما يماثل تنفيذها، ما بين الفكرة والمنتج النهائي مراحل مدها وجزرها يأخذ به من قاع البحر إلى سطحه، وموجاته تحاصره من الجهات الأربع، حتى وهو يرى كتابه بين أيدي القراء يتوجس خيفة ولا ينفك هذا الهاجس إلا حين يقرأ أصداءه في عيونهم؛ حول هذه التجربة يقول نجيب عصام يماني -كاتب-: ولادة إصدار جديد عن أي كاتب تشبه مراحل المخاض فالكاتب يعيش في قلق نفسي دائم لا يهنا معه براحة، ويميل إلى العزلة والتفكر والتدبر، يعلل النفس بالآمال كيف سيكون شكل المولود، هل سيأتي سليماً معافا كامل الأوصاف حسن الخلقة ليس فيه عيب أو هنة. هل سيعجب من يراه ويتلهف عليه، يضعه بين يديه يقلبه، يسهر على فهمه. من سيبارك له إنتاجه ومن سينتقده.. تجربة شخصية عشتها عند أول إصدار لي. حتى أني كنت أترك كل شيء وأذهب إلى المطبعة لمتابعة كتابي قبل دوام موظفيها أنتظر في سيارتي أو بجوار الحارس يدفعني شعور غامض أن أرى إنتاجي، أن ألمسه وأملأ عيني منه، هي لحظات صعبة ومثيرة. تمر في حياة أي كاتب قدر الله عليه أن يحمل أمانة الكلمة وقيمة الحرف ناهيك عن سكاكين النقاد وآراء الآخرين، وهي ما تسمى بفترة اكتئاب الكاتب. وترى الكاتبة أريج الجهني أن التفرغ للكتابة وتحمل تبعاتها الاجتماعية والنفسية أمر ليس باليسير، بل فكرة تعرية العقل وعرض أفكاره للجماهير قد تكون نوعا من أنواع المقامرة، لذلك فالكاتب يعيش في قلق دائم خاصة ان كان يقترب من أعشاش الدبادبير أو يفتح تابوهات تعايش معها الناس دون محاولة جادة للخروج منها، الكتابة هم ومهمة بل يختصر هيبتها الفيلسوف دوستويفيسكي حينما قال: «إن أعظم جيش تواجهه هو جيش الأفكار»، فالفكرة منذ لحظة ولادتها في ذهن الكاتب حتى خروجها تبقيه بحالة ترقب، خاصة عندما يمتلك الكاتب الوعي والحصافة التي تمنعه من التقليل من قدرات القراء بل يضع أفكاره محط اختبار وينتظر منهم تقويمها، والوصول لهذه المرحلة نضج فكري متقدم يتطلب الصبر والمرونة. أما الشاعر الدكتور أحمد قران الزهراني فيقول: لا شك أن تجربة الإصدار الأول تختلف عن المراحل التي تليها حيث الخوف واللهفة والترقب في البدء، والخوف من شكل الإصدار وإخراجه وطباعته ثم الخوف من الأخطاء التي قد تحدث ثم الخوف من حالة التلقي لهذا المولود الذي سيدخل صاحبه إلى عالم جديد فيه كل التوجهات والأفكار والآراء، الذي يجعل منه حديث الكتاب والنقاد والمبدعين سلبا وإيجابا. هي حالة تشبه حالة الفرح بكل تفاصيلها وتعبها حالة النشوة التي يشعر بها المؤلف لا تشبهها حالة حيث هذا الإصدار يخرج صاحبه من حيز خاص إلى مساحات عامة، إنها لحظة تشبه لحظة الميلاد. الناقد والكاتب الفلسطيني حسين المناصرة يعتبر تجربة الإصدار الأول تحيل إلى اكتشاف الذات المنشئة أو المبدعة، وهي تسهم في بناء الخطوة الأولى نحو الآخر في إنتاج الكتاب، بغض النظر عن منظور الآخر أو حميمية علاقته بالكتاب؛ ويضيف: صحيح أن كثيرا من المبدعين بعد أن توهجت تجاربهم الإبداعية تنكروا للكتاب الأول، وبعضهم أخفاه.. لكن في حقيقة أمرهم كانوا مدركين جيدا أن الإصدار الأول هو خطوة الولادة الأولى المفعمة بمشاعر الحب أو الكره.. فالأمر بينهما واحد.. فالمهم أن الكتاب الأول صدر، وأن هذا الكتاب يخولك بأن تغدو صاحب هوية ثقافية لم تعد تقبل الرفض.. فالكتاب كتاب، سواء أحصل على جائزة نوبل أو وضع على رف مكتبة، ولم يطلع عليه أحد؛ وأكمل: كان الكتاب الأول بالنسبة لي مسرحية بعنوان: «في طريقهم إلى الجنون» صدرت عام 1994، وكان أهم عمل ترويجي قمت به لحظة صدورها أنني أهديت رابطة المسرحيين الأردنيين عشرة نسخ، وبعد ذلك مثلت المسرحية مرتين في مهرجانين مسرحيين عام 1999 و2005. ويقول الشاعر الدكتور يحيى الزبيدي: الأمر ليس مجرد كتاب أو ديوان يمكن أن يضاف للمكتبة بقدر ما هو إثبات ذات وانطلاقة نحو آفاق أرحب وأعمال أجمل وأقوى في المستقبل. وقد يضطر بعضهم للمراجعات الدقيقة جدا ويعرضه على المختصين الذين يثق بهم سعيا لدرجة الكمال ولو استغرق ذلك مدة أطول، ونظرا لعدم وجود جهة مختصة تتبنى فكرة دعم ورعاية العمل الأول إلا ما ندر تظل هناك اجتهادات شخصية قد تفتقر للخبرة. كما أن بعض المؤلفين يؤجل حكمه على نتاجه إلى أن يسمع ويرى أصداء وآراء وانطباعات الآخرين بعد عملية النشر. د. يحيى الزبيدي د. أحمد قران نجيب عصام يماني