في الوقت الذي تمضي فيه المملكة بخطى متسارعة نحو تنويع اقتصادها وتحسين بيئة الأعمال، تُظهر المؤشرات الخاصة بالمحاكم التجارية بأن هناك ضغطًا متزايدًا من القضايا المرفوعة ضد شركات ومؤسسات القطاع الخاص والتي تنظرها المحاكم، ما يثير تساؤلات جادة حول جاهزية البنية القانونية داخل تلك الكيانات، وقدرتها على التكيف مع التحديات التنظيمية والتعاقدية. ورصدت "الرياض" أن إجمالي القضايا التجارية لعام 1444 التي قُيّدت في المحاكم بلغ 28,300 قضية، وهو رقم يُترجم إلى معدل يومي يبلغ 78 قضية، ما يشير إلى زخم كبير في حجم المنازعات داخل السوق السعودي، وتستحوذ منطقة الرياض وحدها على 11,249 قضية، أي ما يعادل 39.7 % من إجمالي القضايا المسجلة في المملكة خلال العام، فيما جاءت محافظة جدة في المرتبة الثانية ب 6,685 قضية، تمثل نحو 23.6 %، ثم المنطقة الشرقية التي سجلت 5,241 قضية بنسبة تصل إلى 18.5 % من الإجمالي العام. أما مكةالمكرمة، فسجلت 1,329 قضية بنسبة تعادل 4.7 %، تليها المدينةالمنورة ب 1,236 قضية تمثل 4.4 %، في حين توزعت بقية القضايا على مناطق أخرى بنسب أقل. وتعكس هذه الأرقام أن نحو 80 % من النزاعات التجارية تتركز في ثلاث مناطق، ما يعكس طبيعة النشاط الاقتصادي فيها، في الوقت نفسه يسلط الضوء على الحاجة الملحّة لتعزيز الحوكمة القانونية داخل شركات تلك المناطق، لا سيما في ظل تطور البيئة التشريعية وتزايد التزامات الحوكمة والامتثال. وشدد خبراء في القانون التجاري أن على الشركات العمل الجاد والمهني في التعاقدات التي تجريها لتتجنب أحكام قضائية ملزمة قد تعرضها لخسائر في حال ثبت أن الحق ليس معها، وقال المستشار القانوني المحامي هشام الفرج: "للقضايا بشكل عام تأثير على الوضع المالي إيجاباً أو سلباً، و بالفعل ممكن أن تصل إلى تهديد استمرارية الشركة لحاجة المطالبة القضائية لوقت طويل نسبيا بين الأخطار أو المصالحة والتقاضي بدرجاته المختلفة، ومن ثم التنفيذ فيتأثر التدفق المالي للشركات وقد يصل بها الأمر للإفلاس في حال عدم وجود مدير مالي ومحام متمكن لمساعدتهم". وأضاف "بالأصل أن التحكيم حل سريع للأطراف حيث من المفترض أن تعقد عدة جلسات بينها مواعيد قريبة والإجراءات به سريعة وبمجرد صدور الحكم يكون ملزماً للأطراف فلا يمكن الاعتراض عليه إلا في حالات بسيطة وهي حالة بطلان حكم التحكيم، إلا أن الواقع العملي يوضح طول عملية التحكيم حاليا ووجوب انتظار شهرين بعد صدوره لطلب تذييله بالصيغة التنفيذية وتكاليفه تعتبر كثيرة خصوصاً مع القضايا عالية الخطورة فلو فرضنا نزاعاً على مبلغ 500 ألف ريال فستكون التكاليف وفقاً لحاسبة المركز السعودي للتحكيم التجاري 43.883 ريالا باعتبار أن المحكم فرد. وأما وفقاً لمركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون الخليجي فستكون التكاليف لذات النزاع 61 ألف ريال، وهذه التكاليف تدفع بشكل مقدم، أما التكاليف القضائية لدى القضاء السعودي فوفقاً لحاسبة التكاليف القضائية التابعة لوزارة العدل ستكون 15 ألف ريال، وهذه التكاليف يتحملها الطرف الخاسر في نهاية الدعوى ومع القفزات الحاصلة في القضاء أصبحت سرعة البت القضائي في القضايا تتفوق في كثير من الأحيان على التحكيم. وفي سياق تحليله للأسباب التي تدفع الشركات نحو خسارة القضايا أو الوقوع فيها أصلًا، أكد المحامي يزيد السواط، المتخصص في الشؤون القانونية التجارية، أن الغياب المؤسف للمستشارين القانونيين المتخصصين في نشاط الشركات، أو الاعتماد على محامين غير ملمين بطبيعة النزاعات التجارية، يؤدي غالبًا إلى نتائج سلبية. كما أشار إلى أن بعض الشركات تعتمد على نماذج عقود جاهزة دون تخصيصها لطبيعة العلاقة التعاقدية، وهو ما يُعد مدخلًا لثغرات قانونية قد لا تُكشف إلا عند التقاضي. وأبان بأن الحوكمة القانونية ليست مجرد إجراء تنظيمي، بل هي منظومة متكاملة من السياسات والإجراءات والتوثيق والتدريب، تبدأ من مرحلة ما قبل التعاقد ولا تنتهي إلا عند إغلاق العلاقة التجارية بصورة محمية قانونيًا، مؤكدا أن وجود مستشار قانوني دائم داخل الشركة، وإن كان ضرورة لا غنى عنها، إلا أنه لا يُغني عن بناء منظومة قانونية داخلية مكتوبة ومفعّلة تضمن إدارة المخاطر وتحمي مصالح الشركة على المدى الطويل، مضيفا "أن كثيرًا من النزاعات يمكن تفاديها لو أن الشركات سعت إلى الحل الودي عند نشوء الخلاف، بدل التسرع في رفع القضايا، لافتًا إلى أن القضاء، رغم تطوره وتسارعه عبر منظومة "ناجز"، يبقى خطوة مكلفة زمنيًا وماليًا ومعنويًا". وتابع "وجود قضايا تجارية على الشركات ومؤشراتها لا تدعو للقلق بقدر ما تستدعي التأمل والتحرك، فازدياد القضايا التجارية يعكس فجوة في البنية القانونية داخل الشركات. وعليه، فإن تحسين جودة العقود، وتكامل الحوكمة، وتفعيل الاستشارات القانونية المتخصصة، يجب أن تكون أولويات لأي شركة تسعى للاستدامة وحماية أرباحها وسط سوق باتت فيه القوانين أكثر دقة، والمحاسبة أكثر حضورًا".