في هذا الزمن، يظهر الإنسان في هيئة جديدة، كائن يطل على العالم بأسره، ثم يعود ليبحث عن ملامحه بين هذا التدفق الذي لا ينقطع من الصور والكلمات. لم يعد مقيمًا في حدود المكان الذي نشأ فيه، ولا معتمدًا فقط على ما تركه الأجداد من عادات، صار جزءًا من شبكة هائلة، كأنها نهر يجري في صحراء لا نهاية لها، يحمل الملايين معًا في لحظة واحدة، فتصبح المسافات بلا قيمة، وتذوب الحدود، ويصير كل فرد شاهدًا وضيفًا في حياة الآخر. ومن هذه الحركة المتدفقة يتشكل عالم جديد، عالم يعيد رسم قواعده بعيدًا عن الانتماءات القديمة، ويستند إلى العقل والرؤية الواضحة للواقع. الحرية فيه تشرق كمسؤولية، والتفاعل يتحول إلى ساحة للمعرفة والابتكار، والحياة اليومية تصير كتابًا مفتوحًا لإعادة كتابة الذات وبناء المجتمع، في مشهد يربط الحاضر بالمستقبل. التقنيات الحديثة.. حواس لا تنام.. عيون لا تغفو.. تمنح الإنسان قدرة على أن يرى ذاته ويرى الآخر، أن يوازن المواقف ويقرأ الواقع بميزان جديد، كأنها مرآة تُجدد صور العالم في كل لحظة. لم تعد قيمة المرء رهينة لانتماء قديم أو لاسم قبيلة أو لمكان نشأة، إنما بما يقدمه من معرفة، وبأثره الذي يتركه في إطار مترابط، يسمع به الجميع ويشهد به الجميع. الموضوعية.. لم تعد مجرد كلمة تُردد في قاعات الفكر، وإنما صارت واقعًا تُعاد صياغته كل يوم. حدث ما كان ممهدًا في مسار طويل، وتحوَّلت النظرة من الحياد الصامت إلى القدرة على رؤية التفاصيل وفهم الاختلافات، ليصبح التنوع مصدرًا للتطور. المعلومات نمت كأنها كائن مستقل، تمنح الجميع فرصة لتحليل الواقع والتصرف بعقل نقدي، فينشأ من ذلك إطار يستوعب التعددية، ويضمن التوازن بين ما هو فردي وما هو مشترك، بحيث يحافظ الإنسان على هويته، ويصون في الوقت ذاته حقوق الآخرين، في نظام لا يعرف القيود التعسفية، ويترك للتنوع مساحته أن ينمو. وإذا كان الإنسان التقليدي قد عرف العالم بعين الجماعة، فإن الإنسان الرقمي يعيش بمنظور مختلف، عقل يميز بين الحقائق والأوهام، وروح فردية تبحث عن المعرفة. لم يأت هذا التحول بغتة، هو ثمرة تراكم طويل واحتكاك متواصل بين ثقافات وأفكار شتى، حتى برزت قيم حيادية تصلح للجميع، قيم تُعطي لكل فرد مكانه، وتتيح له المشاركة الفاعلة دون أن يطغى صوت على آخر، ودون أن تُفرض هوية جماعية تُلغي الإنسان في تعدده وفرادته. الهويات تشهد على التنوع.. والتنوع يشهد على بقاء الإنسان.. والإنسان يرى نفسه في مرآة الآخر، فيدرك أن الاختلاف ليس عائقًا، نور يكشف الطريق. المنصات الحديثة بدت كعالم واسع، يحمي الحقوق ويجمع المختلفين تحت سقف واحد، حيث تستطيع كل جماعة أن تمارس طقوسها، وتعلن تقاليدها، وتحتفل بموروثها، في انسجام لا يلغي أحدًا ولا يقصي أحدًا، بل يوازن بين حرية الفرد وواجب الجماعة، بين أصالة القديم وانفتاح الجديد. رحلة القيم في هذا العصر تبدو كرحلة الإنسان ذاته، من العشوائية إلى النظام، من التقليد إلى التجديد، من الفوضى إلى الوعي. هنا يظهر الفرد أكثر إدراكًا لقدراته، أكثر احترامًا لحقوق غيره، مشاركًا في بناء واقع جديد. المدينة الرقمية صارت واديًا حضاريًا، يعلو فيه العقل والثقافة، فيسكنه الإنسان دون أن يفقد هويته، ويشارك دون أن يفرض نفسه على الآخرين. التوازن صار القاعدة، القواعد المشتركة تحكم الجميع، والهويات الفرعية تبقى محفوظة، كأنها أشجار متعددة في واد واحد، لكل منها جذوره وامتداده، لكنها جميعًا ترتوي من نبع واحد. العلاقات بين الإنسان والمعرفة.. تعدد وتنوع وتناقض، وفي ذلك كل المعنى والقيمة، ففي هذا التنوع يولد الفهم، وتكبر منه القدرة على التعايش والعمل والإبداع، كما في الفرد الذي صار عنصرًا فاعلًا في شبكة مترابطة، يسهم بعقله وإبداعه في صناعة واقع جديد. التفاعل لم يعد محصورًا في المجالس المحلية أو القرى، بل امتد إلى ميادين افتراضية تضم ثقافات وتجارب متنوعة، كل مشاركة فيها تضيف بعدًا جديدًا، وتعمق فهم القيم العامة كأساس للتعايش والعمل والإبداع. القيم الحديثة.. إطار للعدالة والحقوق، تمنح كل مشارك فرصة الوصول إلى المعرفة والمشاركة في النقاش والتأثير في المجتمع دون قيود تقليدية. المعلومات المتاحة للجميع تضمن تكافؤ الفرص، وتخلق بيئة تعليمية وإبداعية تحفز الإنسان على التعلم والتطور. هذه البيئة.. قوة موحدة، تجمع المختلفين، وتوازن بين الفرد والجماعة، بين الحرية الشخصية والالتزام المجتمعي. ويعيش الإنسان في تناغم بين المحيط العام الذي يمثل الحقوق والواجبات المشتركة، والفضاء الخاص الذي يعكس الهويات الفرعية والثقافات الفردية. هذا التوازن يمنح كل فرد القدرة على أن يكون جزءًا من مجتمع واسع، محافظًا على هويته وإرثه الثقافي. المنصات الحديثة.. صارت فضاءات للتعلم والتجربة والتفاعل الحضاري، بعيدًا عن الانقسامات التقليدية، حيث تصبح العدالة والمساواة والمشاركة أساس كل نشاط، وتتحول العلاقات إلى شبكة متماسكة، تنبض بالقيم الإنسانية والمعرفية. هذا العصر.. عصر الإنسان الرقمي والمعرفة، أسميه ضمير العصر. ففي فضاءات المدينة الرقمية لم يسبق أحد إلى ما وصل إليه الإنسان الرقمي، لا في بلده، ولا في مجتمعه، ولا في فضائه الافتراضي. وحين واجه التحديات، تجلت إنسانيته، الإنسانية التي تأبى على نفسها أن يُحرم أحد من فرصة التعلم أو المشاركة، على مرأى العالم كله، دون أن يتحرك ضمير الإنسان ليُحدث فرقًا، ليصنع واقعًا معرفيًا جديدًا. حضور الإنسان الرقمي.. أدى دور كل ما نفتقده في العصور السابقة، عن القدرة على التفاعل والتبادل الثقافي، عن القدرة على التعلم والابتكار، في عالم لم يعد فيه أي عقل معزول، ولا أي فكرة تائهة دون أثر، بل كل مشاركة تُسهم في بناء شبكة حية من المعرفة والقيم المشتركة.