حين نتأمل المشهد الصحي في المملكة اليوم، من نظم البيانات الذكية إلى التوسع في مراكز الرعاية الأولية، تبدو لنا هذه الإنجازات كأشجار وارفة نمت في صحراء قاحلة. لكن ما نراه اليوم ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لجذور ضاربة في عمق تاريخ الدولة السعودية الحديثة، جذور بُنيت على مفهومٍ بسيط لكنه بالغ الأثر: الوقاية قبل العلاج. في عام 1925، لم يكن مصطلح "الصحة السكانية" متداولًا، لكنّ الملك المؤسس عبدالعزيز -ببصيرته السياسية والاجتماعية- أمر بإنشاء مصلحة الصحة العامة في مكةالمكرمة، مستشرفًا ما ستحتاجه البلاد من حماية صحية لحجاجها وسكّانها. لم يكن هذا القرار تنظيميًا فحسب، بل كان إعلانًا مبكرًا بأن الإنسان في قلب المشروع الوطني. توالت بعدها الخطوات: تنظيم المهن الصحية، وافتتاح مدارس التمريض والصحة العامة، ومكافحة الأوبئة بحملات تحصين شاملة. لم تكن هذه الممارسات وقتها تُسمى "سياسات صحية سكانية"، لكنها حملت جوهر الفكرة: صحة المجتمع تُبنى عبر تحصين أفراده، لا بعلاجهم بعد المرض فقط. مع الزمن، تغيرت خارطة التحديات. لم تعد الأمراض المعدية وحدها تطرق أبواب العيادات، بل ظهرت أمراض العصر: السكري، والسمنة، وأمراض القلب، وضغوط الحياة اليومية. تحوّل المشهد من مواجهة الطاعون والجدري إلى مواجهة الأمراض الصامتة التي تتسلل إلى الجسد من أسلوب الحياة. ومع كل تحوّل، كانت المملكة تراجع سياساتها، وتعدّل بوصلتها نحو نموذج أشمل: نموذج الصحة السكانية. بحلول عام 2016، ومع انطلاق رؤية 2030، كان واضحًا أن المملكة لم تعد تكتفي بتوسيع عدد الأسرّة والمستشفيات، بل شرعت في تغيير المفهوم ذاته. الصحة لم تعد مسؤولية وزارة فقط، بل مسؤولية وطن. وصار المواطن ليس متلقيًا للرعاية، بل شريكًا في تشكيل ملامحها. ارتفع متوسط العمر المتوقع إلى 75 عامًا، وزاد الإنفاق الصحي ليبلغ قرابة 9 % من إجمالي الميزانية. ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة؛ 23 % من البالغين في المملكة مصابون بالسكري، ومعدلات السمنة تفرض نفسها كأولوية لا تقبل التأجيل. لقد أصبحنا نعيش في زمن تُقاس فيه قوة الدول بقدرتها على استباق المرض، لا علاجه فقط. فالاقتصاد يرتبط بالإنتاجية، والإنتاجية تبدأ من الجسد السليم والعقل الهادئ. وهنا تتجلى الصحة السكانية لا كبرنامج صحي، بل كركيزة تنموية. واليوم، ومع تأسيس وكالة مستقلة تُعنى بالصحة السكانية داخل وزارة الصحة، لم يعد الحديث عن صحة المجتمع ترفًا فكريًا أو طموحًا مستقبليًا، بل أصبح التزامًا مؤسسيًا وهيكليًا واضحًا. إنها لحظة فاصلة، كتلك اللحظات التي تنتقل فيها الأمم من ردّ الفعل إلى صناعة الأثر. فهل تكون هذه الوكالة الناشئة هي الشعلة التي تعيد رسم علاقة المواطن بمنظومته الصحية؟ أم أننا لا نزال بحاجة إلى ما هو أعمق من الهيكلة... إلى وعي وطني يتبنى الوقاية أسلوبًا للحياة، لا مجرد استراتيجية؟ *مستشارة صحة عامة