ما إن انتهيت من قراءة رواية سيرية كان ساردها ابن القرية الذي عاش فيها طفولته ثم تحول إلى المدينة إلا وأثارت لديّ تساؤلاً عميقاً: هل مازال جدل القرية والمدينة حاضرا في الذات الإنسانية أم أندثر؟ وهل مازالت الرواية -في وقتنا الحاضر- تنبئ عن وجود هذه الجدلية؟ حقيقة الإجابة على هذا التساؤل ليس بسيطاً ب(نعم) أو (لا)، وإنما تتطلب قراءة في تحولات الوعي في الذات الإنسانية وانعكاساتها على ما تكتبه، وفيما إذا كانت هذه المفارقة لا تزال تعني شيئا في زمن ما بعد الحداثة والعولمة والمدينة الرقمية أم لا؟ الجدل بين القرية والمدينة في خمسينات وستينات وحتى سبعينات القرن العشرين كان يشكل جوهراً وجودياً في الذات الإنسانية وفيما تكتبه من سيرتها بسبب التحولات الكبرى حينها: الهجرة إلى المدن، الحداثة، تعدد الثقافات، تغيير المجتمعات، وظهر ذلك في روايات طه حسين، توفيق الحكيم، الطيب صالح وغيرهم، فأصبحت هذه الجدلية ظاهرة في الوعي الإنساني كمجالين رمزيين -ليس جغرافيين فحسب- يعكسان صراع الذات بين الانتماء والانعتاق، بين الجذر والرحيل، بين الأصل والتحول. فالقرية تمثل في هذه السير الطفولة الأولى، الدفء، البساطة، البراءة، الرقابة الاجتماعية، سلطة الموروث، الخوف من المختلف، بينما المدينة تستدعي معنى الاكتشاف والانفتاح والاختلاف والتعدد والحرية، والقلق. هذا التقابل وجدناه جلياً ومركزياً في روايات عاش أصحابها في القرن العشرين، فتبدو القرية عندهم ملاذاً وجودياً بينما المدينة تمثل اختناقاً حضارياً، فتأرجحت ذواتهم في قلقها الوجودي وبحثها عن المعنى. لكن... هل من الممكن أن نجد هذه الجدلية (الديالكتيك) بنفس المعنى في روايات القرن الواحد والعشرين أم تغيرت ملامحها؟! أعتقد أن هذ الجدل بين القرية والمدينة لن ينتهي مادام الإنسان لم يتوقف عن التساؤل عن معنى الانتماء والهوية والحرية.. *أستاذ الأدب والنقد المساعد بجامعة الملك فيصل