أمير القصيم يرأس اجتماعًا مع وزير الاستثمار لبحث الفرص الاستثمارية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي متقاعدي إمارة منطقة الجوف وقطاعات وزارة الداخلية بالمنطقة    إطلاق تطبيق المطوف الرقمي في الحرم    تطبيق علاج وقائي للحد من تطور السكري    ارتفاع النفط والذهب    51 اتفاقية لتنمية ريادة الأعمال    15 % نمواً في الربع الثالث.. 88.3 مليار ريال مبيعات إلكترونية    الشيباني: العلاقات مع روسيا تدخل مرحلة إستراتيجية جديدة.. الداخلية السورية تتهم «قسد» بالتجنيد الإجباري في حلب    صندوق الطائرة الأسود قرب أنقرة.. تركيا تعلن العثور على جثة رئيس الأركان الليبي    نقاشات أمنية وسياسية تسبق لقاء نتنياهو وترامب.. حدود جديدة لإسرائيل مع غزة    المملكة في صدارة الدول بالترفيه الرقمي ب34 مليون مستخدم    إثارة دوري روشن تعود بانطلاق الجولة ال 11.. النصر والهلال يواجهان الأخدود والخليج    في دوري أبطال آسيا 2.. النصر يدك شباك الزوراء العراقي بخماسية    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. تقليد نهيان بن سيف وشاح الملك عبدالعزيز    سلطان عمان يمنح قائد الجوية السعودية «الوسام العسكري»    هندية تصلح عطلاً برمجياً في حفل زفافها    «الجوازات» تصدر 17.767 قراراً إدارياً بحق مخالفين    استدعاء 40 شخصاً نشروا «محتوى يثير التأجيج»    موسم جازان هوية ثقافية ومنافسة شبابية    لوحات مجدي حمزة.. تجارب من واقع الحياة    درة تعود للدراما ب«علي كلاي»    40 ألف متدرب مخرجات الأكاديمية الصحية    وزير الشؤون الإسلامية يستقبل سفير المملكة بنيبال    تنفيذاً لتوجيهات خادم الحرمين وولي العهد.. وزير الداخلية يطلع على مبادرات الجوف التنموية    الإطاحة بطبيبة المشاهير المزيفة    غالتييه: أحترم النجمة.. وهدفنا الفوز    الفتح يكثف تحضيراته للأهلي    "خيسوس": قدمنا أداءً مميزاً رغم التوقف الطويل    عبدالعزيز بن سعود يلتقي أهالي منطقة الجوف    السعودية تشكل المشهد التقني    أوروبا تندد بحظر أميركا منح تأشيرات لشخصيات من القارة    14 دولة تدعو إسرائيل إلى وقف التمدد الاستيطاني    الشتاء والمطر    المعركة الحقيقية    الرئيس الفلسطيني يعلن برنامج إصلاح وطني شامل    11 شكوى يوميا بهيئة السوق المالية    الصالحاني يضع أسس البداية عبر «موهبتك لا تكفي»    معرض «وِرث» ينطلق في جاكس    «النسر والعقاب» في ترجمة عربية حديثة    السعودية تتصدر سوق القهوة ب 5100 علامة تجارية    نائب أمير تبوك يواسي أسرة الخريصي في وفاة الشيخ أحمد الخريصي    مرحوم لا محروم    الشباب يعلن غياب مهاجمه عبدالرزاق حمد الله لقرابة شهرين    نيفيز يُشعل الصحف الأوروبية.. انتقال محتمل يربك حسابات الهلال    النيكوتين باوتشز    القبض على (3) باكستانيين في جدة لترويجهم (3) كجم "حشيش"    أمير الشرقية: تلمس الخدمات من أولويات القيادة    هياط المناسبات الاجتماعية    مساعدات إنسانيّة سعودية جديدة تعبر منفذ رفح متجهة إلى غزة    أمانة القصيم تصادر 373 كيلو من المواد الغذائية الفاسدة خلال الربع الأخير للعام 2025م بمحافظة الرس    سفير المملكة في جيبوتي يسلّم درع سمو الوزير للتميّز للقحطاني    فيصل بن بندر يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية "مكنون" لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض    كلية الطب بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تحتفي ب50 عامًا من العطاء في يوبيلها الذهبي    الجوازات تصدر 17.767 قرارا إداريا بحق مخالفين لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود    10.5 مليون ريال إيرادات السينما السعودية في أسبوع    القيسي يناقش التراث الشفهي بثلوثية الحميد    الضحك يعزز صحة القلب والمناعة    المشروبات الساخنة خطر صامت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرواية الحديثة في السعودية ورقة تصويت في المزاد الاجتماعي
نشر في الرياض يوم 03 - 03 - 2011

قد تشكّل المرويات الرسمية بعض ملامح المجتمعات والأمم، ولكن السرديات الشعبية هي التي تهبها معالمها الحقيقية وتحقنها بالحيوية، لأنها تنهض على رؤية مجتمعية عبر فردية، غير خاضعة للإرغامات. ومن هذا المنطلق يمكن قراءة جانب هام من الهبّة الجماهيرية لكتابة الرواية مع بداية التسعينيات من القرن الماضي، فما تراكم من إصدارات، تحت مسمى الرواية، يمكن إدراجه في سياق المحاولات لإعلاء صوت الفرد، وتأسيس مدونة ناقضة، أو ربما موازية للتاريخ الرسمي، كما تقتضي الاشتغالات الحداثية، حيث تم التخفّف من سطوة الشعر، الذي كان يحتل المشهد كخيار أول من خيارات الحداثة الأدبية مع ميل واضح لتمديد مفاعيله في كافة مظاهر الحياة، حتى لحظة استئناف ظاهرة الكتابة الروائية. هكذا انبثقت الرواية الحديثة في السعودية كانتفاضة تعبيرية تتجاوز الأدبي إلى الحياتي، بما تمثّله من وعي مضاد ينهي مرحلة الشفاهية، وما تحمله من سمات وحس التأريخ. ومن ذات المنظور جاءت الطفرة الروائية، لتتحول إلى مصب للحداثة، الاجتماعية منها على وجه الخصوص، حيث تتعارك مختلف القوى في مواجهة حامية عنوانها (المجتمع المدني) وهو الفضاء الثقافي الذي تتحرك فيه الرواية، الأمر الذي يفسر تطابق المضامين ما بين الفعل الروائي، والمقالات الصحفية، وحتى ما يُنتج على مستوى الدراما، وإن تواطأت كل تلك الخطابات الجميع على المعالجة السطحية، النيئة والمستعجلة، للظواهر، بعد اغترافها بشكل مباشر من مفارقات الأحداث اليومية. إن التفكير في كتابة رواية لا يقتصر على الموضوع المراد معالجته، وطريقة صياغته، ولكنه يشمل طبيعة التفكير الذي يستحوذ على كاتبها، وهو أمر يستدعي فحص الأنساق والصيغ الفكرية والمفهومية الكامنة والمتحركة في صميم الرواية في السعودية، حيث تتوفر منتجات روائية جديرة بالمساءلة، يستلزم وضعها على القاعدة العريضة للرواية العالمية ومسار تطورها نحو الحداثة، لا بمعنى إخضاع المنجز الروائي لمستوجبات النظرية وافتراضاتها، وليس دفعاً للروائيين والروائيات للانصياع لها كدليل أو كخارطة للكتابة الروائية المثالية، ولكن من منطلق موضعتها بشكل شفاف على خلفية صيرورة الرواية كمنتج إنساني مشترك. وهذا التجادل لا يتم إلا من خلال النفاذ إلى وعي الكتّاب واختبار استراتيجيات نصوصهم، للوقوف على ما آلت إليه أحوال الرواية كمنتج سردي، والطرق الأدائية التي اعتمدها الروائيون والروائيات لتوسيع دائرة اشتغالاتهم، وهذا هو المدخل الإجرائي لقراءة تاريخها، وقياس المسافة بينها وبين الحداثة، أي مقاربة تاريخ مساءلاتها وحفرياتها والبؤر التي اشتبكت بها، بما هي فضاء من فضاءات الحرية، لاختبار أحقيتها المعلنة بتصدّر المشهد، ومعاينة المكانة المؤكد عليها - من الوجهة الإعلامية - في خطاب الحداثة، على اعتبار أنها جنس أو خطاب استحواذي، فيه من القدرة على مزج العوالم، وتهجين الأشكال، وتمثيل مختلف النبرات واللغات. هنا مكمن تماديها، أو طبيعتها الصعبة، والمغرية في آن باعتمادها كوسيلة مثالية للتعبير. فربما كان التنادي الجمعي نحو الرواية يشير إلى نزعة واعية للاشتراك في تشكيل ظاهرة أدبية بمعناها الإبداعي، ولكنه ليس بالقدر الذي بدت فيه الرغبة للتعبير عن الهواجس الذاتية وتحطيم التابوات، حيث كانت هي المحرك الأقوى، إذ يُلاحظ اتكاء أغلب الكتّاب على الوظيفة الإثباتية للكتابة، التي شكلت بدورها أحد أهم الدوافع للكتابة الروائية، حيث اندفع طابور طويل من الكتّاب والشعراء وحتى المصنّفين خارج السياق الأدبي للزحف باتجاه الرواية، مع بروز حالة قرائية عريضة، لا تقل أهمية في تعزيز مقومات الطفرة الروائية، حيث تشكّلت حالة من التلقي التقويمي لدى شريحة واسعة من القراء، الذين أسسوا بالفعل لمجتمع روايات. وخلال فترة وجيزة، قياساً إلى حقب الصمت المزمنة، استقبل المشهد متوالية من الروايات التي تنادي بالمساواة بين الرجل والمرأة، وتطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية، وتلهج بتعزيز قيم المواطنة، وتهتف بشعارات الاعتراف بالآخر بكل أطيافة المناطقية والمذهبية والعرقية، وتسن شرعة التمرد على أعراف القبيلة، إلى آخر عناوين المجتمع المدني، مع إصرار واضح على التقدم بلا هوادة في المناطق المحرمة، وتفكيك المقدس الاجتماعي، وعلمنة مظاهر الحياة، من خلال زمرة من الروائيات والروائيين الذين أشعلوا شمعة التنوير من طرفيها لتسريع عملية التحديث والمدْينة. حيث قدموا أنفسهم كمواطنين كونيين، أشبه ما يكونون بطبقة من النبلاء والمناضلين الحقوقيين، المنذورين لحركة اجتماعية تاريخية، يمكن بموجبها إحداث هزة في الوعي الجمعي. وقد نهضت تلك الرؤية الطهورية للنص الأدبي، على تمجيد الذات، وادعاء البطولة، والتماس الصوري مع قيم التسامح والتسالم، والتبرؤ المجاني من مقومات الضعف البشري الأصيلة في الإنسان، وبالتالي أسهمت في التمهيد لاختلال بنائي في موجة الرواية الحديثة في السعودية، حيث تفشّت في المشهد ذوات روائية مغالية في التباهي بأخلاقيتها ومعرفيتها، لتضع المجتمع برمته تحت طائلة مساءلاتها الناقدة، وتدفعه لأن يحدّق في قاماتها السامقة والممتلئة بالرؤى والمقترحات والبشائر، فيما يفترض أن يكون الروائي على درجة من الكفاءة والحرفية لإغراء الناس بتأمل الكيفية التي يسرد بها حكاياته، ويقنع المتلقي بصدقية نصه، وهشاشة ذاته، وقدرته على إنتاج المعاني، وبأن ما يسرده لهو الدليل على حياة عاش متناقضاتها وفهمها، واستطاع بالتالي أن يحكي سيرة وعيه بها. الرواية موضوع خطابي في المقام الأول. وعند تشخيص المنازع الذاتية والموضوعية لكتّاب الرواية الحديثة في السعودية يمكن القول ان كل تلك العناوين المتداولة تشكل ركيزة هامة ومطلوبة من ركائز الخطاب الروائي، بعد حقبة طويلة من الصمت، وهي اندفاعة يمكن تفهّم مبرراتها، لولا أن الإفراط في تناول موضوعات الإثارة الرخيصة، والقضايا المبتذلة، جاء على حساب الفهم والأداء لهذا الجنس السردي، وبالتالي تعطلت مهمة الرواية كأداة من أدوات الحداثة، وكخطاب هدمي بنائي، حيث صارت الروايات تكرر نفسها، وكأنها رواية واحدة مكتوبة مرات متعددة وبأسماء مختلفة، مهمتها تسويغ العطالة الفنية. هكذا يمكن النظر إلى واقع الرواية في السعودية، وما آلت إليه فنياً وموضوعياً، فالشهادات الحقوقية والمناقبية التي تبارى معظم الروائيين والروائيات في الإدلاء بها ضرورية، ولكنها أحالت الفعل الروائي إلى متوالية من العناوين واللافتات والشعارات، بل أن معظمها بدت بمثابة دروس وعظية خالية من الوخزات الفنية، واللمحات الجمالية، وتحولت في الغالب إلى إسهاب كلامي لا يعرف الروائي من أين يمسك به، أو كيف يضبط محطاته، حيث تم اختصار مفعول الرواية ووظيفتها إلى مجرد ورقة تصويت في صندوق المزايدات الاجتماعية، ولم تعد مهمة الروائي تتجاوز لحظة الاشتراك في تظاهرة صوتية، والصراخ في ليل الظلامية دون تحديد الجهة المتوجب مقارعتها، أو الكشف عن الكيفية التي ينبغي بموجبها التجابه مع مفاعيل السلطة. ولا شك أن ثمة أسبابا لرهان الروائيات والروائيين على وعورة الموضوعات، إذ يبدو أنهم، قد أرادوا -بوعي أو لاوعي- أن يرتبط تاريخ الرواية الحديثة في السعودية باسئلتها المعلّقة، بحيث تأخذ شكل الاستفهامات المرتبطة بمنظومة من القيم اللامحسومة، أو تلك الأسئلة الإشكالية التي يُراد لها ألاّ تتزحزح من قاموس الثوابت المزمن. وقد نجحوا بالفعل في توطين الرواية في الحياة اليومية، والترويج لها كمنتج حداثي، بل تثبيتها كآلية فاعلة من آليات تصعيد الخيار الديمقراطي، لكنهم لم يتمثّلوا أجوبتها الفنية بالقدر الكافي، نتيجة انهمامهم بما يثيره الموضوعي على السطوح من سجالات وقتية، على حساب ما ينحته الجمالي في عمق النص والحياة على المدى البعيد. وربما غاب عن وعيهم أن الأدب هو الحياة منصّصة في عبارات. والرواية في جانب من أهم جوانبها الفنية تقوم على الرغبة في تمثّل الحياة وتمثلها. وبموجب هذا الإلحاح على التمثيل والتماثل يمكن التماس مع منجز الرواية الحديثة في السعودية، فما تراكم من منتجات تحت مسمى الرواية خلال العقدين المنصرمين، لم يكن إلا نتيجة طبيعية لسوء فهم عميق، ليس لمفهوم الرواية وحسب، بل لمعنى وجدوى الكتابة، الأمر الذي يفصح عن سر انزياح أغلب الروائيين والروائيات باتجاه ما يُعرف بالرواية الاحتجاجية، رغم أن التاريخ لم يسجل أن رواية ما من الروايات أحدثت ذلك الانقلاب الثوري في الحياة الاجتماعية، أو دفعت بالجماهير للخروج إلى الشارع. إن مفهوم الالتزام في الكتابة يعني أن تؤدي الوظيفة الكتابية بشكل جيد، لا أن تجعل من النص منصة خطابية للصراخ الاجتماعي أو السياسي، أو الأيدلوجي. وهو ما يعني أن الرؤية أو الثيمة الاجتماعية حالة متفرعة عن كليانية وشمولية الكتابة الروائية، وليس العكس. ولكن، يبدو أن أغلب الروائيين والروائيات اعتمدوا في رواياتهم حالة هرمية مقلوبة، فالجنوح نحو العناوين الاحتجاجية والموضوعات الساخطة، هو الذي دفع بالخطاب الروائي إلى الإستغراق في القضايا المتوّلدة من الاجتماعي، وبمقتضى ذلك الوعي المعكوس تم تقديم معظم الثيمات الاجتماعية والإعلاء من شأنها على حساب مجمل عناصر السرد، لدرجة أن الرواية تحولت إلى غرغرة خطابية بفعل تراكم الأفكار، رغم ما يحف بمصطلح الرواية الاجتماعية من تحفظات معلنة ومجادلة حد الاستهلاك، فكل رواية هي اجتماعية في المقام الأول، وتلامس بشكل أو بآخر هموم الناس. وأي قراءة فاحصة للمنجز الروائي وفق مساطر القراءة السردية، ستؤدي إلى الكشف عن تدني مستوى مراعاة الكتّاب لأدبية الكتابة، مقابل الرغبة الواضحة في الانتماء لفصائل التنوير، وتشكيل جبهات الدفاع عن قيم العلمنة والليبرالية، وتعزيز كتائب التغيير الاجتماعي، إذ لم تتم المواءمة بين المطلبين لتحقيق نصاب أدبي، يبدع في تحبيك الموضوعات المتفجرة، وعناوين المجتمع المدني، بحيث يستبطن السرد في طياته نبرات الاحتجاج، ويبددها بوعي وحرفية في ثنايا الحبكة، أو هذا ما يفترض أن تقوم عليه حجة الرواية، فالتحدي الحقيقي للروائي يتمثّل في قدرته على عرض الوجود الإنساني بشكل درامي، على خلفية اللوحة الشمولية للزمن، لا أن يكتفي بالخوض في الموضوعات الشائكة التي يلجأ إليها لتشكل رافعة لأدائه السردي المتهالك. ويبدو أن تحقيق النصاب الأدبي بمعناه الرفيع، لم يكن متيسراً لأن أغلب الروائيين والروائيات لم يتقاطعوا مع الاشتراطات الأخلاقية والفكرية لما يُعرف في سوسيولوجيا الأدب بالرؤية الذاتية للعالم، التي تشكّل جوهر الفعل الإبداعي، وبالتالي تعذّر تأوين البعد الفلسفي لتلك المحاولات السردية، وحدث ما يشبه الإنفصال بين اللغة الوصفية للروايات، القائمة على رؤى تسطيحية، مع ما يفترض أن تؤديه سردياً من مهمات إنسانية، بالنظر إلى أن معظم الذوات التي زحفت باتجاه النص الروائي، بما هو مصب التجربة الإنسانية، كانت على درجة من الفقر الرؤيوي، ولا تختزن في وجدانها إلا القليل من الخبرات الحياتية، ولم تتزود بما يكفي من تقاليد وعادات الكتابة، بل يعوزها الوعي بمعنى وجدوى النص الروائي الذي يقوّي صورة الذات عن نفسها. الحداثة في أبسط معالمها هي انوجاد الذات بتجلياتها المتعدّدة على خط الزمن. والذات الإبداعية المسكونة بحس الحداثة تُفصح بالضرورة عن رغبتها وقدرتها على الحضور من خلال نصها، لكن ما يُلاحظ في المنجز الروائي هو تفشي الموضوعات البرانية مقابل فقر في الطرح الحميمي والبوح الذاتي، وهو اتجاه لا يدلّل على منحى حداِثي النزعة، إذ لم يتم تفعيل التخييل الذاتي كحيلة سردية، لا كحالة من الانغلاق والتقوقع، والانطلاق من منصّته لإحداث تلك الرجّة الجمعية، التي تضع النص في حالة من التثوير، وتكفل تنشيط أحاريك الأدب بوجه عام، وهي حالة ارتكاسية لم تقلل من مفعول الرواية كخطاب منتج للمعاني والقيم وحسب، بل أثرت حتى على مفهوم البطولة داخل الروايات، وأصابت ثيماتها بالعطالة والتكرار والابتذال، كما أفشلت رهانات كتّابها على استكمال متطلبات الحركة الجتماعية التاريخية بمفاعيل ومستوجبات الكتابة الروائية. وعند الاقتراب من المدار الثقافي الذي تنحته الرواية في السعودية يُلاحظ اشتغال الروائيين والروائيات على مساءلة الواقع المادي للمؤسسة الدينية بدون القدرة
على التماس مع التباسات الوعي الديني بما هو مأزق فردي يلقى بظلاله على كل مظاهر الحياة. أما الترافع عن المرأة من منصة الرواية فتتعالى فيه أبواق النسوية للتملص من فروض استدعاء (الأنا) الأنثوية. كذلك يتم الترويج لفكرة الإعتراف ب (الآخر) بدون ارتداد مقنع ناحية مضائق (الأنا) واختناقاتها الوجودية، وكأن الروائي ممثلاً في أبطاله قد استكمل صورته، ولم يتبق منها سوى ترف التحاور مع الآخرين. كما يُلاحظ أن التصدي لسطوة القبيلة يأتي كردة فعل شكلية، لا تفصح عن المدى الذي تريده الذات المفردنة لإنجاز قفزتها من لحظة البداوة المتخثرة نحو التمدْين والحداثة. وهكذا يمكن تأمل جناية التعاطي مع المكان، حيث الميل إلى كتابة الرواية المناطقية عوضاً عن سحرية الكتابة المكانية. كذلك المدينة التي يفترض الخطاب الروائي أنها محل التصادم شأنها شأن الرواية، إنما تُروى بمزاج قروي، يغلب عليه الحس الرومانسي، بل ان التصادم داخل الفضاء الروائي غير موجود أصلاً، إلا على مستوي الملفوظات الرافلة في رثاء القرية ولعن المدينة.كل تلك المتوالية وغيرها من القضايا المعاد إنتاجها تؤكد أن الرواية الحديثة في السعودية، ومنذ استئناف فورتها في التسعينيات، توغلت في كل الدروب وأصبحت هي الوعاء الأشمل لكل فوارانات المجتمع، وما تمور به الجماعات من أزمات وإشكالات، حيث عرفت ألواناً متعددة من المعالجات والمنظورات، كما احتضنت عناوين عريضة وطويلة من المعضلات الاجتماعية، ولكنها لم تتشبّع بعد، على ما يبدو، بأحوال الخارج وأزماته. أو ربما توهم الروائيون والروائيات أن الاستنقاع في الهم الجمعي، والبرهنة الدائمة على الانشغال بهموم المجموع هو الكفيل بتقليص المسافة نحو الحداثة، أو هذا ما بدا أنهم يجيدونه بالفعل، ولذلك لم ينجزوا نقلتهم المرتقبة باتجاه ذواتهم، لتوليد طاقة تخييلية جديدة يتبأر بموجبها كل ذلك البراني على خلفية الذات، وتنمحي الحدود بين السارد والبطل، بمعنى أن المنظور الفردي في السرد مازال معطلاً، ولم يتم تفعيل جاذبيته بحيث يصبح الفرد هو مضمار تجميع التوتر ورصده وسبر التحولات والارتجاجات الاجتماعية والاقتصادية من خلاله. تكلمت الرواية الحديثة في السعودية كثيراً، لتدّلل من خلال الجرأة في التقاط الموضوعات وكثرة الطرق على المحرمات الاجتماعية، على أحقيتها بمنزلة مختبر الحياة الحديثة ومرآته العاكسة، فجمعت كل المكونات والظواهر الجماعية والهواجس والطموحات الاستيهامات، التي حاول الروائيون سردها في حبكات ومعالجات ومنظورات، ولكنها لم تتمكن من الانزياح عن الموضوعات الكلية المنغلقة إلى الفرديات المنفتحة. ويبدو أن الروائيين والروائيات ما زالوا على يقين بجاذبية الروايات التي تولي الفرد دوراً بطولياً اجتماعياً، ولم يقرروا بعد، اختراق المعطى الظاهر للواقع في شكله الخام، واستبدال تقليدية النزعة الموضوعاتية بتجنيحات محكي الذات، الذي يشكل رافداً تمويهياً متفرعاً من الأدب السيري بمعناه الحداثي، إذ لا يبدو أن هذا الاتجاه التعبيري نزعة أصيلة بالنسبة لهم، أو ربما ما زالوا يعيشون حالة رهاب مواجهة ذواتهم، وبالتالي فضلوا البقاء تحت سلطة التابوات الاجتماعية، التي يفترض أن يكون تحطيمها فصلاً من فصول الفعل الروائي الخلاق. الولع بالجواني ليس مجرد نزوة ذاتية، ولكنها نزعة حداثية أصيلة عالية الإيقاع من الوجهة الأنطولوجية، إذ تعطي للروائي فرصة التعبير عما يختزنه من قدرة على التنوع، ومواجهة العالم باللغة، على اعتبار أن الرواية مشروع للقول. وعليه، فإن تحشيد الأحداث في بؤرة الفرد المطحون بالأحداث العنيفة، والرغبات المستحيلة، والأنّات المحبوسة، يضفي على عناصر السرد قيمة مضاعفة، ويرفع منسوب التوتر الدرامي للنص. ولكن يبدو أن وعي الروائيين والروائيات ما زال على مسافة من توليد خطاب الذات، وتوطين المزاج الشخصي في النص، الذي يجمع بين سوسيولوجيا رؤية العالم والإحساس بالمكان، والتموضع بشجاعة في واجهة مفاعيل السلطة، ولذلك لم ينتقل مركز الجاذبية إلى حميمية وآفاق الأنوات المفردة، والمكوّنة بالضرورة في نهاية المطاف لمجموع. وعليه، لم تنفصل الرواية الحديثة في السعودية عن محيط وشروط الاجتماعي، ولم تنجز قفزتها المنتظرة باتجاه الأدبي لتكون هي البؤرة الجدلية البديلة، التي يؤكد الروائيون والروائيات، من خلال وجهتها الفنية، على الأهمية الكبرى في إعلاء وتصعيد قيمة الفرد، وبسط الوعي الذي يحمله في النص أو خارجه.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.