في ظل الأرباح الخيالية التي تجنيها شركات التبغ العالمية، التي تتجاوز 700 مليار ريال سنويًا، يدفع العالم ثمنًا باهظًا على المستويين الصحي والاقتصادي، فبينما تُسجّل ثمانية ملايين وفاة سنويًا بسبب التبغ، يُهدر مئات المليارات من العملات الصعبة على منتجات تُضعف الإنتاج وتُنهك الأنظمة الصحية في بلدان العالم، وفي المملكة، فإن التدخين الذي تصفه وزارة الصحة ب"الآفة الخطرة"، ففي عام 1961 كان متوسط سعر الطن 8000 ريال، فيما يتضاعف منذ ذلك الحين كل عام تقريبا وصولا لما تشير له دراسة نفذها برنامج مكافحة التدخين التابع لوزارة الصحة، إذ بلغ متوسط سعر الطن عام 2006 نحو 38.084 ريالا، فيما تضاعف السعر وصولا للعام الحالي بقفزات كبيرة سواء نظير رفع الضرائب على التدخين داخل المملكة بهدف الحد من انتشار التدخين أو رفع الأسعار من الجهات المنتجة دوليا، بيد أن ذلك لم يحد من الاقبال على التدخين الذي يعد أحد أهم عوامل الصرف اقتصاديا، وأحد أهم المدمرات للصحة العامة للأشخاص، إذ لا يمثل فقط أزمة صحية، بل نزيفًا اقتصاديًا مستترًا يضرب الأفراد والدولة على حد سواء. نفقات طائلة تتحمّل المملكة نفقات طائلة لعلاج أمراض مزمنة مرتبطة بالتدخين، كأمراض القلب، الأورام، وأمراض الجهاز التنفسي، إذ تشير دراسات عالمية إلى أن ما يصل إلى 15 % من إجمالي ميزانيات الصحة في بعض الدول يُنفق على أمراض التبغ، فيما تتصاعد تكاليف الرعاية سنويًا في المملكة، ما يضع مزيدًا من الضغط على موارد القطاع الصحي العام والخاص، وبخاصة أن معدلات الوفيات الناتجة عن التدخين عالميا تفوق ال6 ملايين إنسان، فيما يتوقع أن تصل عام 2030 إلى 8 ملايين وفاة، ما يؤكد مضاعفة العلاجات الخاصة بأمراض التدخين، الأمر الذي يوجب مكافحته للحد من تحقق الخسائر في الأرواح وفي الاقتصاد. خسائر الشركات والأفراد وتشير الإحصاءات إلى أن التدخين يتسبب في الحد من الإنتاجية، ويسبب الغياب المتكرر عن العمل بسبب تداعيات التدخين يُؤدي إلى تراجع في كفاءة الأداء الوظيفي وزيادة نسب الإحالة للتقاعد المبكر، كما يمثل تهديدًا لرأس المال البشري الوطني، ما يُعيق تحقيق أهداف رؤية 2030 المرتبطة بالكفاءة والإنتاجية. ويلعب التدخين دورا هاما في استنزاف دخل الأسرة، إذ أكد مدخنون ل"الرياض" إنفاقهم المتوسط الشهري ب600 ريال، ما يعادل سنويا نحو 7200 ريال، ما يعني استنزافًا سنويًا للفرد، إذ يمثل نسبة معتبرة من دخل الأسر محدودة ومتوسطة الدخل، ويعتبر ذلك إنفاقًا غير منتج، إذ يُزاحم أولويات مثل التعليم، الصحة، الغذاء، والسكن، ويُفاقم من الهشاشة الاقتصادية للأسرة. تأثير على الناتج المحلي ورأى خبراء اقتصاديون أن التدخين يسهم في تحقق تأثير سلبي على الناتج المحلي والنمو المستدام، إذ تؤدي أمراض التبغ إلى الحد من العمر الإنتاجي للأفراد، ما يُقلل من متوسط إسهامهم في الناتج المحلي، فتتكبد الدولة خسائر غير مباشرة في القوى العاملة، وتُستنزف مواردها في مجالات لا تعود بعائد إنتاجي، في المقابل، فإن الأرباح التي تجنيها الشركات العالمية لا تُعاد استثمارها محليًا، بل تُحوّل إلى الخارج، ما يزيد من العجز في الميزان التجاري لمنتجات التبغ. ويخلف التدخين آثارًا مادية في الأماكن العامة، ما يزيد من تكاليف التنظيف والصيانة، إذ تحتاج البلديات إلى ميزانيات إضافية لتنظيف أعقاب السجائر في الشوارع والحدائق والمدارس، كما أن التلوث الناتج عن التدخين يضر بجودة الحياة الحضرية ويؤثر سلبًا على جاذبية المدن السعودية للعيش والاستثمار، ولا تقتصر مضار التدخين على المدن اقتصاديا، بل تشكل عبئا على متزايدا على أنظمة التأمين والتقاعد، إذ يُصنف المدخنون ضمن الفئات ذات الخطر التأميني الأعلى، ما يؤدي إلى ارتفاع أقساط التأمين الصحي للأفراد والشركات، ما يُرتب عبئا ماليا إضافيا على شركات التأمين، قد ينعكس على تكلفة التأمين على المجتمع بأسره، كما أن المدخنين أكثر عرضة للتقاعد المبكر، ما يُثقل أنظمة التقاعد والتأمينات الاجتماعية. خسائر اجتماعية اقتصادية ويسبب التدخين خسائر نتيجة وفاة أحد الأبوين أو إصابته بمرض مزمن نتيجة التدخين، إذ يحدث ذلك خللًا ماليًا طويل الأمد في الأسرة، فيتأثر إنفاق الأسرة على العلاج والدعم الطبي، عوضًا عن الاستهلاك للمنتج، كما يُعمق من دائرة الفقر الاقتصادي والاجتماعي، وتتأثر الاستثمارات البشرية طويلة الأمد مثل تعليم الأبناء، نتيجة تراجع الموارد الأسرية بسبب التبغ. وقال رجل الأعمال عبدالله آل نوح: "للتدخين أضرار في أبعد عدة، ومنها أنه يجمع بين البعد الصحي والاقتصادي، ويفرض على القطاع الخاص مسؤولية مضاعفة تجاه رفاه المجتمع واستدامة الاقتصاد"، مضيفا "لا شك أن التدخين يمثل تحديًا مزدوجًا في بيئة العمل. فمن جانب، تؤثر العادات المرتبطة بالتدخين، كفترات الاستراحة المتكررة وانخفاض مستويات اللياقة البدنية، على إنتاجية الموظفين، وتقلل من قدرتهم على مواكبة متطلبات الأداء العالي. ومن جانب آخر، تتحمل المنشآت تكاليف إضافية نتيجة ارتفاع معدلات الغياب المرضي، وزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية، إلى جانب المخاطر المرتبطة بتأمينات الحياة والصحة. وتشير الدراسات إلى أن الموظف المدخن قد يكلّف الشركة ما بين 15 % إلى 20 % أكثر من زميله غير المدخن في مصاريف الرعاية الصحية والتأمين". وتابع "من الملاحظ أن فرض الضرائب على منتجات التبغ قد نجح جزئيًا في تقليل الاستهلاك، خاصة في أوساط الشباب وذوي الدخل المحدود. غير أن هذه السياسة واجهت تحديات تتعلق بمرونة الطلب على هذه المنتجات، حيث لا يزال بعض المستهلكين يعتبر التدخين عادة يصعب التخلي عنها رغم ارتفاع الأسعار. من هنا، يمكن القول إن الضرائب وحدها ليست كافية لتحقيق الأهداف الصحية المطلوبة، بل يجب دمجها مع برامج توعوية ورقابية صارمة، وإتاحة بدائل صحية فعالة"، مشيرا إلى أهمية حوافز القطاع الخاص للاستثمار في برامج مكافحة التدخين، وقال: "أرى أن للقطاع الخاص حافزًا اقتصاديًا حقيقيًا للاستثمار في مثل هذه البرامج، سواء من خلال خفض التكاليف الصحية المباشرة، أو عبر تعزيز سمعة الشركة ككيان يهتم بصحة موظفيه ومجتمعه. فعلى المدى البعيد، تسهم بيئة العمل الخالية من التدخين في تقليل حالات الانقطاع عن العمل، ورفع معدلات الولاء الوظيفي، وتحقيق نتائج مالية أفضل من خلال تحسين الأداء العام وخفض النفقات الطبية"، مضيفا "أؤمن بأن مسؤولية التصدي للتدخين تتجاوز السياسات الصحية الحكومية لتشمل دور القطاع الخاص في بناء بيئات عمل صحية، وهو ما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني ككل". وقال رجل الأعمال عبدالمجيد النمر: "إن التدخين لا يقتل فقط، بل يُضعف الاقتصاد، وهو نزيف مستمر يبدأ من الجيب وينتهي بخسارة النمو والاستثمار"، مشيرا إلى أن مكافحته ليست مجرد خيار صحي، بل ضرورة اقتصادية لحماية حاضرنا ومستقبلنا، فيما شدد الكاتب عيسى المزمومي على أهمية مكافحة التدخين، وقال:"إن التدخين يُشكّل عبئًا ماليًا كبيرًا على الفرد، إذ تُقدّر التكلفة السنوية لمدخّن يستهلك علبة يوميًا بنحو 7200 ريال وفق اسعار السوق الحالية في المتوسط، وهو مبلغ يمكن توجيهه نحو تحسين جودة الحياة، سواء في مجال التعليم أو الادخار أو الرعاية الصحية". وأوضح أن المشكلة لا تتوقف عند الكلفة المباشرة لشراء السجائر، بل تتعداها إلى خسائر اقتصادية غير مباشرة تتراكم على مدى السنوات، منها ارتفاع تكاليف العلاج من الأمراض المزمنة المرتبطة بالتدخين، وتراجع القدرة الإنتاجية، وزيادة احتمالات الغياب عن العمل بسبب التدهور الصحي، ما ينعكس سلبًا على دخل الفرد واستقراره المهني. كما أن المدخن يكون أكثر عرضة لفقدان الوظيفة أو التقاعد المبكر، في وقت تزداد فيه الأعباء على ميزانية الأسرة التي تجد نفسها مضطرة لتحمّل تكاليف صحية مفاجئة وأدوية باهظة الثمن. وأضاف: "إن هذه الخسائر المالية لا تُدرك في بدايتها، لكنها مع مرور الوقت تُشكّل عبئًا حقيقيًا يمكن تفاديه بقرار واعٍ يتمثل في الإقلاع عن التدخين، الذي لا يُعد قرارًا صحيًا فحسب، بل هو خطة مالية واستثمار شخصي يعود نفعه على الفرد وأسرته ومستقبله. وختم بالقول إن التوعية الاقتصادية بمخاطر التدخين لا تقل أهمية عن التوعية الصحية، لأنها تمس جوهر استقرار الأسر وقدرتها على النمو وتحقيق أهدافها في ظل المتغيرات الاقتصادية الراهنة". عيسى المزمومي عبدالله آل نوح عبدالمجيد النمر