في الشهر الماضي، روجت العناوين الرئيسة في أميركا لمرونة سوق العمل بعد الوباء، بينما معدل البطالة يرتفع بهدوء إلى 4,2 في المئة مرتفعا 0,3 نقطة مئوية مقارنة بأبريل 2024 - مما ترك 7٫2 مليون أميركي عاطلين عن العمل، وهو شبيه بالقضاء على وظائف عام كامل في وادي السيليكون. لا يبدو ارتفاع 0٫3 نقطة مزلزلا. إنما إذا قورن بالتقارير المبكرة التي تفيد أن الشركات بدأت بالفعل في نشر أدوات الذكاء الاصطناعي ليس لتعزيز الإنتاجية فقط لكن لاستبدال الموظفين، فإننا نواجه حقيقة تقشعر لها الأبدان، فقد بدأت موجة جديدة شبيهة بموجات الميكنة في القرن الماضي إنما هذه المرة ليس المستهدف عمال المصانع بل موظفو المكاتب ذوي الياقات ناصعة البياض. وفقا لمعهد بروكينغز، يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يعطل ما لا يقل عن نصف المهام التي يؤديها 30 في المئة من العمال الأميركيين - وما لا يقل عن 10 في المئة من مهام 85 في المئة من العمال اليوم. ليست هذه التوقعات بإسقاطات بعيدة، بل هي أشبه باكتشاف السوس الذي يأكل في قواعدك بيتك وأنت مشغول في نقل أمتعتك. إذا كان ثلث القوى العاملة عاطلين في مؤسستك، فغالبا ستبدأ في الاستغناء عنهم. سيقول بعض عشاق التقنية، إن الذكاء الاصطناعي يخلق وظائف أكثر مما يدمرها، فالأدوار الجديدة مثل تنقيح البيانات أو هندسة التعليمات ستمتص العمال النازحين. هذا تصور مشبع بالتفكير الرغبوي، ففي كل دورة أتمتة كانت المحصلة الإجمالية خسائر وظيفية. ولدت ثورة الحاسوب الشخصي الملايين من وظائف دعم المستخدمين التي لم تستمر طويلا، لكنها لم تكن كافية لتعويض التسريح الجماعي لعاملي الطباعة وكتبة الملفات ومشغلي لوحات المفاتيح. لا شك أن التقنية وتحولاتها أمر متوقع، إنما ما نتحدث عنه هنا هو الكفاءة. وراء كل عاطل عن العمل يوجد خريج أنفق عمره على تخصص تضاءل فرصه في سوق العمل، حتى أصبحت الشهادة عبئا يحملها فوق ظهره، وآخر تجاوز ثلثي حياته المهنية ويفضل أن يخرج من سوق العمل لو استطاع على أن يتعلم مهارات جديدة. هناك واجب أخلاقي علينا جميعا لضمان ألا تذهب حياة الشباب وطاقاتهم وحياة الأسر التي يعولونها تحت عجلات الابتكار السريع، ولنتذكر أن مكاسب النمو الاقتصادي ليست نقاط مجردة نتابعها على منحنى الناتج المحلي الإجمالي، لكنه انعكاس لواقع الملايين التي تختفي ملامحهم في الزحام. في المملكة، احتفلنا أخيرًا بانخفاض معدل البطالة الإجمالي إلى 3٫57 ٪، وهو الأدنى منذ أكثر من عقد. ومع ذلك، لا تزال بطالة الشباب عند 14٫7 ٪ للسعوديين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا. هذا الأمر لا يمكن تجاهله، خصوصا وأن أصحاب العمل يحذرون من اتساع فجوات المهارات أمام موجة الذكاء الاصطناعي الممتدة من مجالس الإدارة إلى خطوط الإنتاج. بعبارة أخرى، انعكاسات موجة الذكاء الاصطناعي في العالم تتشكل في صور عديدة لكنها تشبه ملامح العائلة الواحدة. رؤية 2030 تحرك إبرة البطالة في الاتجاه الصحيح، إنما علينا أن ننتبه للمتغيرات، فالتقنيات ذاتها التي تهدف إلى تشغيل المرحلة التالية من النمو تهدد بتآكل المكاسب التي حققناها، وهي مكاسب يمكن أن تتراجع بأسرع مما يمكننا أن ندرب المواهب الجديدة. ليس الحل في مقاومة الذكاء الاصطناعي، بل في تسخير مكاسبه لدعم القوى العاملة. تخيل برنامجا لدعم كفاءة الذكاء الاصطناعي يقتطع نسبة بسيطة من وفورات الأتمتة ويوجهها إلى إعادة تأهيل الموظفين. هذا الحافز يدفع الشركات إلى تبني التقنيات الجديدة مع الوفاء بمسؤوليتها المجتمعية. علينا التركيز على المهارات العملية، مثل الإشراف البشري على الذكاء الاصطناعي، وتنظيم البيانات، وتقييم النماذج المخصصة، ومعالجة الثغرات الأخلاقية. كما يمكن تعزيز برنامج ساند بتمديد فوائده لأسابيع إضافية للراغبين في مسارات التدريب المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، مع ربط استمرارية الدعم بإتمام الدورات بنجاح، لضمان ألا تتحول شبكة الأمان إلى منطقة راحة دائمة، بل إلى جسر نحو الفرصة التالية. وأخيرًا، لا بد للحكومة والقطاع الخاص من إقامة تحالفات للتلمذة الصناعية تضمن تحويل ما لا يقل عن 80 ٪ من المتدربين إلى وظائف دائمة خلال ستة أشهر من انتهائهم من البرنامج. يستوحي هذا النموذج من برامج التأهيل المماثلة مثل التي صممت في الولاياتالمتحدة للعائدين من الخدمة العسكرية، وهي برامج تضمن أن يؤدي كل مقعد تدريبي مباشرة إلى مسار مهني مستدام. إن التصدي لتحدي الذكاء الاصطناعي يتطلب سرعة في تبنّي الحلول وفاعلية في إعداد الكوادر. إذا استغرقنا الوقت في انتظار قوى السوق الطبيعية أو عجزت معاهد التدريب عن ملاحقة التطور، فقد نكرر أخطاء الثورات الصناعية السابقة، لكن هذه المرة في مراكز البيانات ومكاتب التنفيذيين. التحدي الحقيقي ليس سرعة اعتمادنا للتقنية، بل مدى استعدادنا لقيادتها. ختاما، الفرصة متاحة اليوم للتأكد من أن ثورة الذكاء الاصطناعي في المملكة تصبح قصة نجاح شاملة لا تنحصر في الأرقام والمؤتمرات. يجب على صُناع القرار والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية توحيد الجهود الآن، بوضع إطار زمني واضح للتنفيذ ومؤشرات أداء مُلزمة، مع مراجعة مستمرة للتقدم وتعديل المسارات عند الحاجة. هكذا فقط نضمن أن يكون لكل شاب سعودي مكان في اقتصاد المستقبل، وأن تستمر رؤيتنا 2030 في تحريك مكونات الاقتصاد وأدواته لمواكبة التحولات التقنية الكبرى في العالم.