اليوم، وقبل حلول اليوم الوطني الخامس والتسعين بيومين، نتأمل نحن السعوديين مسيرة وطنٍ وحَّده والدنا جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء، على الحق والواجب، وأكمله أبناؤه البررة من بعده، حتى غدا اليوم أنموذجًا متفردًا لدولةٍ قادرة على أن تُراجع ذاتها، وتُعيد ترتيب أوراقها، دون أن تهتز ثوابتها أو يتغير جوهرها.. من أبرز ما يُميز هذه اللحظة التاريخية، «مائةٌ إلا خمسة أعوام»، أن قيادتنا الرشيدة لا تتعامل مع الخطط والبرامج وكأنها نصوصٌ مقدسة، بل تنظر إليها باعتبارها وسائل لتحقيق الغايات الكبرى؛ وفي الخطاب الملكي الأخير، وعلى لسان سمو ولي العهد تأكيدٌ على هذه العزيمة: «لن نتردد في إلغاء أو إجراء أي تعديل جذري لأي برامج أو مستهدفات تبين لنا أن المصلحة العامة تقتضي ذلك»، وهي عبارة تختصر فلسفة القيادة في هذه المرحلة؛ شجاعة في المراجعة، وجرأة في التصحيح، ووضوح في التوجه. المرونة ليست علامة ضعف، بل دليل قوة؛ فهي التي تحافظ على البوصلة، وتمنع من الاصطدام، والأمم التي تُصرّ على السير في مسارات جامدة، وإن تغيّرت الظروف، سرعان ما تتآكل من الداخل، أما نحن، فنتقدم لأننا نملك شجاعة الاعتراف بما يجب تعديله، ونملك من الإرادة ما يجعلنا نضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار؛ وما يجعل هذه المرونة ذات معنى، هو أن المواطن غايتها النهائية، وكل تعديل ومراجعة في البرامج والمسارات، ليست غايةً في ذاتها، بل وسيلة لتجويد حياة المواطن، وتمكينه من أن يكون شريكًا في التنمية، لا مجرد متلقٍ لثمارها؛ فالمواطن هو المقياس الذي تُوزن به النجاحات، وهذا هو جوهر العقد الاجتماعي بين القيادة والشعب، والتنمية ليست أرقامًا في تقارير، بل انعكاس مباشر على حاضر الناس ومستقبلهم. في اليوم الوطني الخامس والتسعين، يزداد عمق قيمة المعاني السالفة؛ فنحن لا نحتفل بالذكرى على طريقة من يعدّ السنين، بل نحتفي بها بما تحمله من دروس، وأعظمها أن هذا الوطن لم يقف يومًا عند لحظةٍ واحدة، بل كان في حركةٍ دائمة، من التأسيس إلى التوحيد، ومن البناء إلى النهضة، ومن الثبات إلى المرونة؛ سرديةٌ واحدة عنوانها، أن المملكة لا تعرف الجمود، ومن شواهد ذلك ما عايشناه مؤخرا في اتفاقية الدفاع الإستراتيجي المشترك بين بلادنا وجمهورية باكستان الإسلامية التي نصت على أن «أي اعتداء على أي من البلدين اعتداء على كليهما»، وهي خطوة تعكس أن المرونة أيضا لا تعني الانكفاء، بل تتجسد في بناء تحالفات تعزز الأمن، وتردع الاعتداءات. أختم بأنه ما بين «الموحد» الذي رأى أبعد من زمنه، ومولاي خادم الحرمين الشريفين الذي رسّخ الحزم والعزم، وسيدي ولي العهد الذي يقرأ الغد بعين البصيرة، تسير بلادنا على خيطٍ متصل، يزداد صلابة كلما طال به الزمن، فنحن أمام مرحلة لا يُقاس فيها النجاح بما تحقق فحسب، بل بما نملك من قدرةٍ على التكيف، وإرادةٍ على المراجعة، وعزمٍ على الانطلاق من جديد، وهذه هي الرسالة الأعمق ليومنا الوطني؛ وستظل قوة المملكة في تعدديتها وتنوعها، وطموحها وأصالتها، وإدراكنا أن الاعتزاز بالوطن ليس في التصفيق لكل إنجازٍ فقط، بل في إدراك أن الإنجاز الأعظم هو بقاء الوطن متجددًا في قوته، متماسكًا في وحدته، ثابتًا في قيمه، مرنًا في مساراته، وبأمر الله ستظل بلادنا في مقدمة الأمم، كما أراد لها موحد كيانها، وكما رسم ويرسم لها قادتها؛ وكل عام والجميع بخير.