في حُجرة العناية الحثيثة حيث السماء تحاول أن تطبق على أنفاس الأرض، وهما معاً تصنعان صندوقاً من العزلة أو ربما علبة ثقيلة من الصمت، لكنها برغم كل ذلك قد وسعت طفولتي بغمضة عين ونسخت حياتي بسطر لا يجرؤ على رؤية سطر الغد الذي يليه. للمرة الأولى لبستُ رداء أول من وطأت أقدامه سطح القمر وتلمّست شعوره، وحدّقتُ عبر نظارة من غاص لأعمق بقعة في غياهب أكثر المحيطات ظلاماً، أو ربما كمن تلفّت حوله فأدرك جلوسه على المقعد اليتيم بين أخيلة فارغة على رقعة ملساء تعكس وتحاكي وحشة الصحراء بعد الغروب، تنازلت الأضواء عن جزء يسير من كبريائها المعهود، وصمتت تلك القطّة المزعجة قرب نافذتي بسبب نومها أو رحيلها عن المكان أو الحياة، امتزجت الألوان وسقطت على جدار الزمن الطويل في مخيلتي، فتحمّستُ لرؤية الصورة وما أن ابتدأت الحكاية حتى عرفتُ أنها حياتي وسردية عمري. سأخبر نفسي هذه المرة عني وأدعوها لتخبرني عنها، وأبدأ من أمي وأنتهي مع أمي النائمة قربي، ففوق سرير غلّفته بضعة من الأغطية البيضاء التي تمنيت حياكتها من أدق وأرفع وأنبل شرايين جسدي، وكرات طُلبَ منها قتل التيبّس وطعن التقرّح لكنها قد رفعت راية العجز، وبالقرب من عمودٍ فضّي حملت مخالبه المعقوفة أكياساً تشبه ساعات الرمل التي لا تُقلب إلا مرة واحدة، في سقوط كل قطرةٍ وفي انتحار كل حبة رمل وفي تململ كل ثانية أقلّب في خاطري صفحة جديدة، كنت كقطار هائم لا يمتلك حق التوقف فوق سكته المنحدرة، وبمحاذاة ستارة زرقاء ترتفع عجلاتها المتراصة فوق رأسها وتدّعي طيّاتها الخجل والرقّة، لتندفع فجأة بجنونٍ وهي تغيّر مسارها كطفل أرعن يظنّ أن حدوده تنتهي عند أطراف الدنيا، غايتها الحشمة لستر من عرّاهم الوهن ومزّق ثيابهم القدر، ترقد أمي بعيون مغمضة يصعد فيها المرض على أكتاف النوم، ورموش صَمغُها الدمع المنفلت من مجراه المسدود، وخصل الشيب القصيرة تناجي الجدائل الغليظة التي كانت تتسلل من تحت شالها المنعقد دوماً خلف رأسها، وأصابعها المتصلّبة التي حملتني وأمسكتني ولاطفتني ألف مرة، وندب وبقع وفقاعات ونتوءات عبثت بها الإبر الرحيمة في رحلة البحث عن جداول دمها الرفيعة تحت جلدها الرقيق، قلت لتلك البارعة «فاطمة» ألا تؤلم يدها فابتسمت وقالت: لا تخف، لقد قضيت عمري في ملازمة حديثي الولادة، فلامست أمي بمنتهى اللين والسحر، حسبتها تعزف لحناً على أوتار قيثارة لطفها، نظرت إلى أقدام أمي فتذكرت نشوتي وأنا أسرق الدفء منها حتى لو أيقظتها لكنها الآن قد أصبحت باردة، سمعتهم يصفوني بمرافقها وهم لا يعرفون أنها مرافقتي ورفيقتي، وأحضروا لي أريكة قوامها زوج من الكراسي المتقابلة بالقرب منها فكانت قِبلتي، كانوا يظنون حاجتي للسبات ورغبتي باستبدال مشاهدة جنتي وحديقتي وزهرتي بنوع رخيص من العمى، من سيعلم يا نفسي أنني كنت أتمنى انزلاق جسدها قليلاً لأظفر باحتضانها وزحزحتها إلى قمة مخدتها المعطّرة كما كانت، ومن سيفهم سعادتي بالإنصات لجزء يسير من بكائها من أجل سماع صوتها وتخيّل الكلمات المرادفة لحروفها المتناثرة، ومن سيعيش معي تلك اللحظة التي امتزج فيها طعامها مع سيمفونية عطاسها، فرَمَت قطعة صغيرة من غذائها الأسطوري على شفتي الراكعة في ساحة قصرها، فقنصتها وأطبقت فمي عليها ومضغتها وشبعت بها وقلت لنفسي: لقد أطعمتني أمي! في إحدى زوايا الغرفة شاشة معلّقة تتدلى منها حزم من الأسلاك التي أكرهها وأغار منها بنفس المقدار، يطنّ طنينها ويئن أنينها بعد كل دقيقة فتخطف بصري وتأسر انتباهي، وأنبوب من الهواء الذي يرتكز ثقباه تحت مظلة أنفها الصغير، كم تمنيت مدّه بروحي وكل أنفاسي، على تلك الشاشة إشارات لامعة تتراكض صوب اليسار بوتيرة منتظمة كغسيل أمي المثبت بملاقطها الخشبية على حبلها الذي طالما عجزت عن مطاولته، وطوابق من الأرقام الملونة أحدها يقيس ضربات قلبها، فكيف يُكال ويُقاس قلبها بسنينه الضوئية في مجرّة حبي لها، ورقم مزدوج يشير لحدود ضغطها، رغم أن دمها لم يعرف الانفعال ولم يُشعرني يوماً بالتوتر ولم أجد فيه ومعه غير التحمّل والصبر، وآخر يختبر الأوكسجين المخزّن لديها في تواتر الشدّ والجذب بين مدّ شهيقها وجَزر زفيرها، وأنا ما زلت ذلك الطفل الذي يستطيع الإبحار برئتيها الغنيتين مهما ارتفعت الأمواج وتساقطت معها الأمطار دون أن أغرق. اقتربتُ منها وقبّلتها على جبينها المخملي، ثم بُحت لها بأجمل الأسرار في أذنها الناعمة، قلت لها: إنني أحبك كثيراً يا أمي، التفتت إلي بصمت وبدأت عيونها بوشوشة عيوني: لا تقلق، سأكون بخير.