فاز الرئيس رجب طيّب أردوغان بولاية رئاسية جديدة، في جولة الإعادة الأحد، أمام زعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو، الذي يرأس تحالفًا من ستة أحزاب سياسية. وقد وعد أردوغان مواطنيه في أثناء حملته الانتخابية وفي خطاب النصر، بنقل تركيا إلى المئوية الثانية من تاريخها الحديث. وجاء فوز أردوغان، على الرغم من استطلاعات الرأي التي كانت ترجح فوز رئيس تجمع "طاولة الستة" وعلى الرغم من تمنيات كثيرين بأن "يغرق في مستنقع من صنع يديه"، كما قالت صحيفة صنداي تايمز البريطانية، واتهامات آخرين بأن الانتخابات تعكس "توجهًا مقلقًا نحو بروز الديمقراطية المتشددة" كما رأت صحيفة الواشنطن بوست الأميركية. وقد نجا أردوغان من أنياب الذئب بصعوبة، لأن الانتخابات جرت والبلاد ما تزال تعاني من آثار كارثة الزلزال المدمر في فبراير الماضي، الذي ترك 50 ألف قتيل وخسائر مادية تقدّر ب 43 بليون دولار، ومن مستويات تضخم عالية، وتدني قيمة الليرة التركية، ناهيك عن مشكلات سياسية مع الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة وبعض دول الجوار. كانت هذه المشكلات والمتاعب الاقتصادية، بحسب محللين كثيرين، كفيلة بإسقاط أردوغان، لكنه استثمر خبرته السياسية والماكنة الإعلامية الرسمية، في مخاطبة مشاعر الناخبين لينتصر على منافسه، الذي قدم الأمنيات ووعد بالتقارب أكثر مع الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة، بالإضافة إلى طرد اللاجئين السوريين، وإعادة آيا صوفيا إلى متحف بعدما حوّله أردوغان إلى مسجد. وفي الحقيقة أن المعركة الانتخابية كانت بين برنامجين، أحدهما يؤكد على أصالة الهوية الوطنية، واستقلالية القرار والمواقف، ورفض التبعية، والانحياز للمحيط الإقليمي، والتوجه الإسلامي ومحاربة الأفكار الغربية، المتناقضة مع هذا التوجه مثل المثلية الجنسية، والآخر برنامج خليط من الأفكار اليسارية والعلمانية والقومية وعلى الرغم من إغراء البرنامج الأول، إلا أنه لا يعنى التحرر من "الكمالية" لأن أردوغان لا يستطيع إزالة صورة أتاتورك من على جدران المؤسسات الرسمية والبرلمان، مثلما أزال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مثلاً، صور لينين وستالين. وقد يكون فوز أردوغان نتيجة لبعض الإنجازات التي حققها، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية، وتحويل إسطنبول من مدينة تفيض بالنفايات إلى واحدة من أنظف مدن العالم، وكذلك تحويل تركيا إلى قوة عسكرية شبه مستقلة عن حلف النيتو، بل وجعلها مستعدة إلى حد الاصطدام مع الحلفاء مثلما جرى عندما تدخل لصالح أذربيجان، في نزاعها مع أرمينيا المدعومة من روسيا، أو التوغل في شمال سورية ومحاربة الأكراد المدعومين أمريكيًا، أو شراء منظومة إس-400 الروسية، كما استغل عضوية حلف النيتو لمنع انضمام السويد إليه، بسبب دعمها للمعارضين الأكراد، وربما للمساومة من أجل الحصول على طائرات إف-16 من الولاياتالمتحدة. ما يهمنا في فوز أردوغان، هو انعكاس سياسته على العلاقات مع الدول العربية. بعد فوزه، تلقىّ أردوغان برقيات تهاني من دول كثيرة حول العالم، ومنها تهنئة خادم الحرمين الملك سلمان وولي العهد محمد بن سلمان، بالإضافة إلى قادة دول مجلس التعاون الخليجي والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. ومع أن العلاقات بين تركيا وهذه الدول شهدت فترات شد وجذب، إلا أن المراقبين يعتقدون بأنها ستتعمق خلال الخمس سنوات القادمة من حكم أردوغان، الذي يحتاج إلى مساعدة هذه الدول للخروج من أزمته الاقتصادية، التي قد تؤدي إلى تآكل قاعدته الشعبية، وخروج تظاهرات تنادي بالإطاحة به، وهذه قد تكون أخطر من المحاولة الانقلابية الفاشلة ضده في عام 2016، وهذه قد تحمل معها تحولات أخطر من نتائج الانقلابات العسكرية الست، التي شهدتها تركيا منذ عام 1980. كانت المملكة من بين الدول التي وقفت إلى جانب تركيا في الماضي، وأودعت خمسة بلايين دولار في الخزينة التركيا، وفي عام 2022 تبادل سمو ولي العهد والرئيس أردوغان الزيارات التي نقلت العلاقات بين البلدين إلى مستويات متقدمة، في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية. لكن هذه العلاقات قد تمر باختبار فيما يتعلق بالأزمة السورية، فالمملكة، التي أصبحت لاعبًا مهمًا على الساحة الإقليمية والدولية، دعمت عودة سورية إلى الجامعة العربية في الوقت الذي ما تزال فيه العلاقات بين تركيا والنظام السوري متوترة، لكن القواسم السياسية المشتركة بين المملكة وتركيا لإعادة الهدوء والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، في عالم يتقاتل بعنف على تقاسم النفوذ، قد تؤدي إلى حلول لصالح شعوب المنطقة. كما أن زيارة سلطان عمان هيثم بن طارق آل سعيد إلى طهران، وما تردد من حديث عن وساطة لحل الخلافات بين إيران ومصر، تدعم جهود قيادة المملكة في هذا السياق. خلال عقدين من الزمان من سيطرته وحزبه على المشهد السياسي التركي، كانت بعض سياساته ومواقفه تبدو متناقضة، لكنها في الحقيقة تعبّر عن عقلية هذا الرئيس البراغماتية والميكافيلية بما يخدم مصلحة بلاده، فهو يعرف بأن السياسة هي فن الممكن، وهي تتغير لكن المصالح تظل ثابتة. وكما يقول مثل أذربيجاني :" طالما يوجد مشمش في الحديقة، فسوف نستمر في إلقاء السلام على بعضنا كل يوم. ولكن التحايا سوف تتوقف عندما تموت شجرة المشمش".