ظهرت في الآونة الأخيرة مع تعدد وسائل التواصل الاجتماعي ومع المشاريع المتنوعة الواعدة فئة من الناس يقدمون نموذج الحرية المالية على طريقة المحاكاة، وهي عبارة عن ترديد الأقوال والاقتباسات من الكتب المختومة بختم الأكثر مبيعاً فلولا عباراتها الرنانة وقصصها الشيقة وأسلوبها المنمق ولا نغفل الذائقة التسويقية لما بيعت بهذه الطريقة. ترويج وتسطيح الحرية المالية عن طريق بناء حقيبة تدريبية أصولها تجارب التجار وخصومها محافظ المتدربين هو تزوير للواقع وتجميل غير مبرر لتبني تلك الحرية المزعومة على أحلام وطموحات الشباب المتحمس لبناء مستقبله. هل تستطيع الثقة باختصاصي تغذية يعاني من البدانة؟ إذن كيف تثق بأطروحات أي شخص يبدأ مشواره الريادي الحالم بعد وظيفته التي تشكل مصدر دخله الأساسي. الحرية المالية ليست كلمة تطلق جزافاً دون احتواء لخطوطها الطولية ودوائرها العرضية، وليست تنظيراً أو أشخاصاً امتهنوا التسويق وأجادوا فن التواصل البصري واحتوتهم المكاتب المستأجرة والقاعات التدريبية مدفوعة الثمن قبل البدء من قبل الطامحين الذين انطلت عليهم الإعلانات الممولة عبر السوشيال ميديا. ليس هناك حرية مالية مطلقة، بل عمل مستمر على الدوام أقوى الشركات العملاقة سقطت وأفلست، بل إن من كل 100 مشروع لا ينجح إلا القليل ومن القليل من لا يستمر ويصمد إلا الأقل. ليست دعوة للتشاؤم، ولكنه تحذير يجب أن يوضع من بائعي الوهم في قاعاتهم التدريبية بأن الدخول على مسؤوليتك الشخصية. قراءة كتاب أو كتابين لقصص نجاح وترديد المحتوى على طريق رسم ووضع منهجية وخطة سير للحرية المالية هو تلاعب صريح للمبادئ والقيم. طريق التجارة والأعمال يبدأ مع الرجال الذين وضعوا حياتهم على المحك وللمنجزين والشغوفين بما يعملون ليس لديهم الوقت الكافي للتنظير ولا للتشدق بأحاديث مكررة ومعروفة للعموم. الادخار والعمل في نفس المجال الذي تريد بناء تجارتك فيه أو بيع خدماتك التي تتقنها حتى تبني نموذجك المالي، تلك البديهيات تغلف في عبارات منمقة حتى تجذب شريحتها المستهدفة وتقوض عليها بعموميات الأفكار فتسهل الحيلة وتنتهي المهمة. بل إن العديد من الكتب الذي أشبعت مجال الثراء المالي تجد أصحابها لا يمتون بصلة إلى عالم المال والأعمال إلا من خلال بيع تلك الكتب البالية والتي ترنم وتغنى بموسيقى العبارات التحفيزية وسوف أعرج على كتاب الأب الغني والأب الفقير لرجل الأعمال روبرت كيوساكي والذي قدم فيه خلاصة تجاربه وتفكيره وحقق مبيعات مذهلة، هذا النموذج يحتذى به لأنه يقدم تجربته ويضعها في قالب عام ولكن يمكن البناء عليها وتطويعها حسب وضعك المالي والاقتصادي، وقد نال الكتاب صدى عالياً وترجم إلى عدة لغات وأصبح الكتاب يدر دخلاً على مؤلفه لأنها تجربة واقعية وليست عبارات يؤخذ بعضها من كتابه ويضاف عليها ويزاد من بعض الكتب الأخرى وتقدم في دورة خالية من أي معايير ذاتية التحقيق ولكن على مبدأ تجميع القصاصات وتعليبها ووضعها في البوست المناسب وتقليب صفحات الغير بمنهجية فارغة التأطير والتطبيق. تجدهم ينتقدون النظام التعليمي وأنه نظام غير نافع ولا يشجع على الإبداع وأن المدرسة لا تعلم التجارة الصحيحة لأن نظامها تلقيني، وهنا أقول بأن النظام التعليمي منهجي وأصيل قائم على تنوع العلوم المختلفة نظام يعلمك الانضباط أولاً ابتداء من طابور الصباح إلى جرس انتهاء كل حصة إلى مرور الأوقات المختلفة نظام متنوع العلوم والمعارف. كيف تدرك اتجاهاتك وشرقك من غربك وأنت لم تدرس الجغرافيا، بالإضافة إلى الكيمياء والفيزياء والرياضيات التي تنمي العقل ليس هناك منهج إلا ويكمل المناهج الأخرى ويطورها والعلم يبدأ بالقراءة والاستيعاب وبعدها الانطلاق والإضافة، فالبداية تكون من حيث انتهى الآخرون. المرحلة الجامعية وانتهاؤها ببحث يجعلك قادراً على طرح نتاجك العلمي والمعرفي لكي تضيف إبداعك وكما يقال من لم يزد في الدنيا فهو زائد عليها، إما وضع النظام التعليمي كشماعة تعلق بها إرهاصاتك لكي تنال حصتك السوقية عبر طرح أفكار الآخرين وخبراتهم بطريقة مكررة وحشوية أمر غير مقبول. النظام التعليمي هو من أخرج التجار الذي لم تستوعبهم القاعات التدريبية بقدر معترك الحياة الذي بنى المجتمع وأفاد الوطن دون أن ينمذجوا التجارة ويضعوها الحل الأول والأخير لعيش حياة كريمة، بل تجدهم يتحدثون عن المصاعب والتحديات التي قابلتهم وتغلبوا عليها بتوفيق الله وثم عصاميتهم وإصرارهم. وهنا أذكر بروفيسور التسويق فيليب كوتلر في جامعة نورث ويسترن والذي تعد نظرياته التسويقية وأطروحاته رائدة في مجال التسويق وقد لا تجد له شركة يسوق لخدماتها أو حتى يطبق نظرياته وإنما استشاري يشار له بالبنان، لأن لديه رؤية منهجية قائمة على أبحاث علمية راسخة فهي نتيجة العديد من الدراسات التي تختزل جوهر مداراته الفكرية حتى أصبح أيقونة تسويقية مخضرمة في مجال التسويق ولا تجد مسوق لا يقرأ أو يستوعب نظريات فليب كوتلر الرائدة في مجال التسويق. وكما يقول سقراط: (لا شي يتم تعلمه بشكل جيد مثل ما تم اكتشافه) الاكتشافات تبني على المعارف المكتسبة وليس ترديد تجارب الغير وتبنيها ووضعها في دورات لا تسمن ولا تغني من جوع لحرية مالية مزعومة بمسيات واهية وأحلام عابثة. * متخصص في علم الاجتماع