تحتفل كبريات الدول بيوم مؤسّسيها وزعمائها، وتُخصص أيام ميلادهم عطلة رسمية، ومناسبة للاحتفالات الوطنية إلى جانب اليوم الوطني المعتاد في معظم دول العالم. ففي الولاياتالمتحدة يحتفل الأميركان ب"يوم الرئيس" ويمثّل ذلك يوم ميلاد أول رئيس أميركي للولايات المتحدة الأميركية، وهو جورج واشنطن؛ حيث يوافق ذلك اليوم الثالث من شهر فبراير من كل عام . وتكون هذه المناسبة إجازة وطنية للحكومة الفيدرالية وأجهزة الدولة كافة. كما تشهد المناسبة احتفالات وأنشطة في شتى الولايات وجميع المدن. وكذلك الحال في مملكة هولندا، التي صار اسمها الرسمي المعتمد (Netherlands) حيث يمثل "يوم الملك" أبهج المناسبات في البلاد، ويعد حدثاً وطنياً مهماً، تعطل فيه سائر الدوائر الحكومية، فضلاً عن أنّ المواطنين في هذا اليوم يُعفون من الضرائب. هذه المناسبات تمثل أحداثاً وطنية، تعيد صياغة الوعي الحضاري للأمة، وتجدّد ثوابتها وتعزّز رؤاها. ومن هذا المنطلق حبذا لو ثبّتت المملكة "يوم المؤسّس" ليناسب الخامس عشر من يناير، وهو يوم ميلاد جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، بحسب التقويم السعودي، تخليداً لذكرى هذه المناسبة المجيدة، بحيث تكون عطلة رسمية ومناسبة يُحتفل بها على غرار ما تشهده الدول الأخرى التي لا تنسى فضل المؤسّسين الأوائل، وتسعى لتحفر صورهم في ذاكرة الأجيال على مرّ العصور والدهور. ولتخصيص "يوم المؤسّس" مزاياه المتعددة؛ فهو يمثّل حدثاً استثنائياً في التاريخ، وبالتالي لا بد من غرس هذه اللحظة المشعّة في أذهان الناشئة ونفوسهم، كيلا تكون المناسبة أمراً طارئاً، كما حوادث الأيام العابرة، بل إن تكون لحظة انعطاف مهمة غيّرت مسار التاريخ، ورسمت أفق حضارة ومجد. هذا اليوم، سينغرس في ذاكرة الأجيال، باعتباره يمثل ذاكرة الوطن، وتاريخ الأمة، وتوحيد الكيان، وبروز المملكة كدولة حديثة، حيث كان الملك عبدالعزيز، بعد استعادة الرياض مُلك آبائه وأجداده، يبني دولة عصرية تقوم سياساتها على التعقّل والهدوء، ودراسة المعطيات الدولية بأسلوب منطقي ونظرة موضوعية، وفق ضوابط أساسية قوامها المبادئ الإسلامية السامية، والتراث العربي العريق، واعتماد السلام عقيدةً جوهرية في تعامله مع مختلف الدول، واحترامه سائر المواثيق، وتوقيره الأعرافَ الدبلوماسية والدولية . لقد أدرك الملك عبدالعزيز، بثاقب نظره، أهمية توحيد المملكة عام 1932م على أسس ودعائم متينة، في ظل ظروف صعبة وصراعات تاريخية بالغة التعقيد، حيث شهد مطلع القرن العشرين حربين عالميين، وانهيار أربع امبراطوريات كبيرة النفوذ مترامية الأطراف؛ هي الإمبراطورية القيصرية في روسيا، والإمبراطورية النمساوية- المجرية، والإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية العثمانية. في هذه الغضون، انهمك الملك المؤسّس في إعادة توحيد المملكة، وتخليصها من شوائب العصبية القبلية والحروب، وكل العوائق التي تقف في وجه هذا الهدف التاريخي النبيل. وكان من الطبيعي، في تلك الحقبة، أن يدله وعيه السياسي، وحسه الواقعي إلى أنّ الحكمة تقتضي الابتعاد عن العواصف السياسية الدولية، وتجنّب الانغماس في الشؤون والاصطفافات العالمية التي أدت بمصائر الكثير من الشعوب والدول إلى التهلكة، وقادت الإمبراطوريات الكبرى إلى التفسّخ. أصبحت المملكة، بفضل تلك البصيرة التاريخية الحكيمة، بنياناً شامخاً يرتكز على المبادئ الإسلامية والتقاليد العربية، مما طبع هذه الدولة الفتية بطابع مميز قلّ نظيره في الساحة الدولية. منذ قيام المملكة العربية السعودية، تحقّقت إنجازات مباركة بكل عزم وثبات على مر السنين، منذ عهد المغفور له الملك عبدالعزيز. وجاء من بعده من حمل هذه المسؤولية من أبنائه البرَرَة بكل أمانة واقتدار، وصولاً إلى القيادة الحكيمة لمولاي خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسيدي ولي عهده الأمين، وهما مفخرة للشعب السعودي وللأمتين العربية والإسلامية، في ظل عالم تطغى عليه متغيرات ومستجدات تجعل من الصعب على كثير من دول العالم مواكبة التطورات الدولية، من دون التفريط بالثوابت الأساسية، وهو ما نجت فيه المملكة المرة تلو الأخرى، بحكمة الربّان الذي يعرف كيف يروّض العواصف. من هذه المنطلقات تبرز وجاهة وأهمية تخصيص "يوم المؤسّس"؛ تخليداً لذكرى هذا القائد العظيم، وترسيخاً لإنجازاته في أذهان الأجيال، وتعميق المكانة التاريخية لذلك الحدث التأسيسيّ الأغر. في "يوم المؤسّس" تُستحضر التحديات والصعاب التي واجهها الملك في عملية البناء، ومنها نتزوّد والأجيال كافة بمكارم الأرث العظيم، ونتدارس العِبر، ونجدّد دماء الحاضر بتطلعات المستقبل، كي تبقى المسيرة مستمرة، ويبقى اسم جلالة المغفور له، المؤسّس مشعاً في ذاكرة الوطن، ويضيء، كلَّ عام، قلوب أبناء الشعب السعودي، ويمنحهم التفاؤل وقوة الأمل. * كاتب سعودي ودبلوماسي سابق