ثمة خطأ لا أود أن ألمسه، وبصراحة شديدة أبى قلمي الكتابة عنه، على رغم سر انجذابكم النهم للقراءة عنه. عن ثمة الخطأ في الكارثة التي حلت بجدة جراء السيول. لماذا لم أكتب والمادة شهية؟ هل لأنني غريقة في حبها كما دعيت؟ طبعاً لا! فلو أحببتها حقاً لما جرى لها ما جرى. فقط أنا خشيت الكتابة حتى لا أزعل أصدقاء لي وأناساً أحبهم في هذه المدينة. أخشى ذلك لأنني أعرف جيداً أننا لا نفرق بين النقد والشتيمة، وما بين الشتيمة والشماتة، والحقيقة والإشاعة، وما بين الحقد والعتاب، والعتاب والملامة، فاعذروني ليست عندي تصفية حسابات، ولست ممن تعود على دفاترها القديمة، لأنني أحب الجديد والمتجدد والغد والأمل في الأيام المقبلة والأجيال التالية. لا أنكر حجم الكارثة الكبير، لكنني أعتبر الكل شريكاً، والمضحك أن الكل بريء أيضاً ولو كان مخطئاً، لذا وجب الصمت، أولاً احتراماً لأرواح فقدت، ثم لتتسنى لكل منا محاسبة نفسه حساباً عادلاً مني ومنك. جميع من يسكن هذه المدينة مخطئ لا يستثنى من ذلك سوى الرضع والأطفال والمجانين وتلاميذ الابتدائي، فمن هم الذين صمتوا وخجلوا وعملوا ولم يعرفوا أين يخفون رؤوسهم من مثل هؤلاء الذين ولولوا وناحوا وصاحوا وكتبوا في اللي يفهم واللي ما يفهمش في الهندسة والمسح الجغرافي وعوامل الطقس والتعرية، وكأنهم زوار من الفضاء يريدون لملمة التواقيع بدلاً من لملمة الفضيحة، وأعتبر كل ساكن في جدة مسؤولاً عنها مسؤولية مباشرة. فالفرد هو الذي يمثل المجتمع الذي ينتمي إليه وهو مسؤول عن مدينته، لأن المدينة ليست شركة ذات مسؤولية محدودة بلا شراكة أو حدود بين سكانها. كلنا سكانها، أفلا يصبح كل منا شاهد زور رغماً عن أنفه؟ أنا وأنتم والصيادون والأسماك والنوارس والفوارس والنمل والنحل، كنا نعرف أن ثمة خطأ في المدينة وفي الغراب الذي حل فوق المدينة وفي البيوت التي عمرت فوق المدينة وفي الفئران التي سكنت بطن المدينة، وفي السنوات الطوال التي انقضت فجأة على كارثة، فلم النشيج والضجيج؟ أرفض منكم ومني ذلك لأنني مثلما أرفض الإزعاج، أرفض أن أكون مزعجة مع سابق علمي وسابق الإنذار ودق نواقيس الأخطار على ثمة الخطأ، فاصمتوا رجاءً ليتسنى تعقيم الجرح لا تعميقه وتنظيف الضمادات وتطهير الإبر المهدئة من دون الخلط بين الأقوال والأفعال وتجييش مشاعر لا لزوم لها. فبعض الأقوال كما الكتابات نرجسية وأخرى عدوانية وأغلبها جارح وجاهل ولا يدري ما يقول حد اتهام بريء وتبرئة مذنب، والكل بعدما جف الماء وتكشف القاع المخجل أمام الغادي والرائح مذنب، فدع عنك! ما فات مات. نحن أبناء اليوم ومهما كانت الحفر عميقة، علينا أن نردمها لا أن نسقط فيها، فإذا كنت كما تدعي تريد النظام فحارب الفوضى، وإذا حقاً تعجب بالبطولة فلا تفشي الخيانة، وإذا أردت الأمل فلا تزيدنا كآبة. اعمل بحياء وصمت واستح على دمك. تعبنا من الضوضاء وشاشات العدسات وتصوير المحسنين والمحسنات والكلام عن المليونير الذي يشحذ من مليونير آخر ليطعم الفقراء. كفى! كرهتمونا بالفقر والفقراء والغيوم والسحب والأمطار وبفوانيس الأزقة والحارات، فمن يريد أن يعمل فليعمل بلا تمويه أو لفت نظر. هذه الكارثة أوضحت لنا أن أعمال الخير تركب قطار الفساد هي الأخرى! وأن بعض كتابتنا هي الأخرى فساد. أود من وزارة الإعلام أن تتعامل مع كتابها مثلما بعض الحرف أو المهن تؤخذ بها رخص حتى نميز ما بين الكاتب وما بين بريد القراء، ليس لأنني ضد حرية التعبير لكنني حتماً ضد حرية التخريب أكانت في البنيان والشوارع والسدود أم في قلب الإنسان وعقله وبيئته؟ واني ألصق الكثير بالمجتمع الذي عليه تحمل مسؤولية مثل هذا الإنتاج غير الجيد إذا كان ذلك مخللاً عفناً أو شركة وهمية أو مجاري بلا تصريف أم أبياتاً شعرية رديئة أم أخطاء طبية بريئة ها... ها... ها بريئة. أضع اللوم المفرط على المجتمع المتعلم الفاهم الواعي المدلل بشماله، والذي استيقظ فجأة، فاكتشف جنوب مدينته. خلف الزاوية فإذا هتفت أحس صوتاً ملؤه عبث الرياء وإذا بعثت بوردة حمراء يكشفها الإناء! [email protected]