خريطة تنظيم اسرائيلية تتنقل من مكتب وزاري الى آخر، تهدف الى السيطرة على البيوت العربية والأقليات الاسلامية في القدس القديمة، في مقابل "تعويضات مغرية". ومع ان الخريطة لم تحصل بعد على التصديق القانوني النهائي، الا ان مبعوثي السلطة بدأوا مهمتهم للسيطرة على تلك البيوت. والحواجز العسكرية بدأت مهمتها لمصادرة بطاقات الهوية للفلسطينيين الذين "يثبت" انهم لا يسكنون في المدينة. ويساهم شارون نفسه في هذا المشروع بواسطة البيت ذي الموقع الاستراتيجي الذي اشتراه في القدس القديمة، ويشرف على "درب الآلام". عندما وصلت الدبابات الاسرائيلية لاحتلال مدينة القدس في حزيران يونيو العام 1967، كان خيري حلاق قد تجاوز الثامنة عشرة من عمره، وبدا مرحلة شاقة من حياته لمساعدة عائلته في حياتها اليومية في ظل أوضاع اجتماعية واقتصادية قاسية. وما زال خيري يتذكر أدق تفاصيل معاناة عائلته وأبناء حيه ومدينته القدس عند الاحتلال. منذ ذلك الوقت وحتى اليوم لم يترك بيته. فبعد زواجه عاش مع والديه، وبعد وفاتهما واصل حياته مع عائلته في البيت ذاته. لم تقتصر همومه على الاوضاع الصعبة التي يعيشها كل فلسطيني في الاراضي المحتلة، خصوصاً في القدس، في ظل السياسة الاسرائيلية والضغوطات اليومية. فهو يعاني من وضع صحي صعب ويحتاج يومياً لعلاج يرغمه على التنقل بين مستشفى الشيخ جراح وعيادات اخصائيي القلب وامراض السكري وضغط الدم العالي: "أشعر ان كل هموم الدنيا فوق رأسي. الألم، الفحوصات، مراجعة الاطباء، القلق على صحتي... هذه الهموم ترافقني يوميا وكنت أشعر انها تحول الدنيا الى غيمة سوداء لا تخرج منها نقطة ضوء تبشر بأي أمل، ولكن اليوم باتت هذه الهموم روتينية بل قولي انها بسيطة أمام ما أعانيه منذ شهر من مشاكل بسبب سحب هويتي. أتعلمين ماذا يعني سحب الهوية. يعني لا امكانية للعلاج ولا مجال لمواصلة السكن في بيتي ويعني تحويل عملية طردي من بيتي، بيت ابائي وأجدادي، الى عملية شرعية بالنسبة الى اسرائيل. انها مصيبة... بالنسبة الي هذه كارثة". بألم واضح عبر خيري عن معاناته جراء القرار الاسرائيلي بالغاء بطاقة هويته وبالتالي حقه بالاقامة في القدس. وتعكس معاناته هذه جانباً مهماً من تأثير السياسة الاسرائيلية على الفلسطينيين والتي لا تقل خطورة عن التأثير السياسي عليهم وعلى مستقبلهم وأرضهم ومدنهم. فسحب الهويات عنصر أساسي لمساعدة الاسرائيليين في تنفيذ خريطة هيكلية جديدة أعدتها بلدية القدس للمدينة بمباركة الحكومة الاسرائيلية، وأفردت حيزاً مهماً منها للبلدة القديمة التي لا تريد زيادة عدد السكان اليهود فيها بل تحويل كل البلدة القديمة الى مستوطنة يهودية لتصبح حياً كبيراً من القدس الغربية التي سيجري التفاوض عليها كعاصمة لاسرائيل. ففي الوقت الذي انشغل فيه الاسرائيليون والفلسطينيون والاميركيون والعالم كله بخطة رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون الرامية للانسحاب من قطاع غزة واجزاء من الضفة الغربية، وبينما كانت أنظار العالم مشدودة لمعرفة تفاصيل هذه الخطة وعملية اقرارها في الكنيست، كانت المؤسسات الحكومية الاسرائيلية تعمل بهدوء في خطة أخرى للاخلاء، لكن هذه المرة اخلاء الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم في القدس العربية. وأنجزت هذه المؤسسات خريطة هيكلية جديدة لمدينة القدس وللبلدة القديمة تهدف الى طرد اكبر عدد من الفلسطينيين من بيوتهم بطرق ديبلوماسية واخرى تزويرية وتخرج أحياء عربية عن حدود البلدة القديمة لتحول سكانها الفلسطينيين الى ما هو معروف ب"موجود غير موجود"، اي "حاضر غائب"، أي بالمعنى الجغرافي هم خارج نطاق اراضي السلطة الفلسطينية وحقوقياً هم ليسوا ضمن القدس ولا ضمن أراضي السلطة الفلسطينية. وخصصت موازنة تبلغ 364 مليون دولار لتنفيذ هذا المخطط. وتعتبر البلدة القديمة هدفاً استراتيجياً وسياسياً أساسياً للاحتلال الاسرائيلي الذي لا يترك وسيلة ولا مناسبة الا ويستغلها لتهويد هذه القطعة المهمة من المدينة المقدسة، ويسعى في الوقت نفسه الى تحقيق الخريطة الهيكلية على ارض الواقع حتى قبل المصادقة عليها من اللجان التنظيمية الرسمية. فهذه الخريطة المقبلة يتم تنفيذها بواسطة أساليب مختلفة "من تحت البساط" وبهدوء. ويقول اشرف سيف، مدير الدائرة القانونية في مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية ان "الاهداف الاساسية من الخريطة هي خلق اطار تخطيطي للاستمرار في تطوير المدينة كعاصمة لاسرائيل ومركز للحكم مع الحفاظ على ما يسمى ب"القيم الخاصة بها" وتأمين مستوى حياة أفضل لجميع سكانها، في حين ان الهدف الحقيقي منها هو المحافظة على الميزان الديموغرافي داخل حدود المدينة بحيث يحتفظ اليهود بنسبة وجود سكاني لا تقل عن 72 في المئة في مقابل نسبة لا تتجاور 28 في المئة من الفلسطينيين او حتى أقل بكثير". ملكية غامضة؟ وتحاول بلدية القدس والمؤسسات الاسرائيلية جعل هذه الخريطة شرعية وقانونية بإثارة ما يسمونه ب"عقبات تنظيمية" داخل البلدة القديمة واضطرارها الى تغيير الوضع لتجاوز هذه العقبات، فتدعي ان البناء غير المرخص وطابع البناء الفلسطيني الذي تصفه السلطات ب"النمط القروي"، عقبة امام تنفيذ الخريطة، اضافة الى ان الملكية الغامضة للارض الفلسطينية هي أساس "العقبة التنظيمية". وهذا البند بالذات هو لب الصراع والمشكلة، وهو الاساس الذي ستعتمد عليه اسرائيل لتنفيذ خطة اخلاء الفلسطينيين من القدس. ويقول سيف في معرض تلخيصه دراسة اجراها على فحوى الخريطة الهيكلية للبلدة القديمة ان الخريطة التي تتنقل حالياً من مكتب حكومي الى آخر للمصادقة عليها تتعارض مع القانون الدولي. ويضيف: "بموجب القانون الدولي القدس محتلة وتسري عليها معاهدة جنيف التي تتعلق بمناطق محتلة، حيث تنص وثيقة جنيف على ان تمتنع دولة الاحتلال عن سن او تطبيق أية سياسة تمس بالسكان المحليين والمحافظة على الوضع القائم. الا ان الاجراءات المتعلقة بالخطة والمتضمنة نقل مخيم شعفاط او ترميم ملامح المباني في البلدة القديمة او نقل المنطقة الصناعية في وادي الجوز او مصادرة الاراضي، جرم يطعن في الاعراف الدولية". في مراجعة سريعة لبنود الخريطة الهيكلية الجديدة يتضح ان هذه هي المرة الاولى التي ترسم اسرائيل خريطة هيكلية تستهدف تنظيم كل منطقة القدس وكأنها القدس الموحدة، بحيث تفرض الطابع اليهودي على كل احيائها وضواحيها خصوصاً القدس العربية والبلدة القديمة. فمن بين بنود الخريطة اقتراح بتقديم بيوت بديلة للفلسطينيين خارج القدس القديمة بتمويل من موازنة الحكومة بذريعة ان البناء الموجود في البلدة القديمة يشوه معالمها التاريخية ويضر برفاهية السكان ما يعني ان البلدة القديمة ستكون هدفاً قادماً لعمليات هدم قد تصل حتى الابنية التي اضيفت على البيوت القديمة وشيدها المقدسيون. اما المخطط في الجزء الثاني من الخريطة فيتعلق بمستقبل مخيم شعفاط، اذ يحظى هذا المخيم بأهمية استراتيجية وامنية، حسب تعبير واضعي الخطة، من الناحية الجغرافية، فهو يتوسط تجمعات استيطانية مثل "التلة الفرنسية" و"بسغات زئيف" و"نافي يعقوب". وطوال سنوات سعى الاسرائيليون الى الاستيلاء على المخيم بعدما عرقل عملية الربط والتواصل الاستيطاني التي بذل الاسرائيليون جهوداً لتنفيذها. كما ان الكثافة السكانية داخل المخيم تقلق الاسرائيليين من حيث مستقبل الخريطة الديموغرافية. ويقول مدير مركز القدس، زياد الحموري، ان "ما يتضمنه المخطط يشير الى ان الاسرائيليين ينفذون خطة بعيدة المدى ستؤدي في النهاية الى السيطرة الكاملة على البلدة القديمة والاحياء المحيطة بها خطوة خطوة، بحيث لا يتبقى تحت سيطرتهم سوى عشرة الاف الى خمسة عشر الف مقدسي فقط". وحسب هذه الخطة سيتم تغيير معالم ساحة البراق ايضا وانشاء تواصل بين الحي اليهودي في القدس ومنطقة المسجد الاقصى. وسيقام طريق جديد للوصول الى الحي اليهودي وحائط البراق عبر شق نفق بتكلفة مئة مليون دولار. وبموجب التخطيط ستضاف الى الحي مساحة 225 الف متر مربع تقام فيها مئات الوحدات السكنية للمستوطنين، اضافة الى موقف للسيارات تحت الارض بتكلفة تسعة ملايين دولار واقامة مركز سكني ضخم ومركز تجاري وفندق ضخم على مساحة سبعة دونمات تستعمل الآن كموقف للسيارات في الحي اليهودي. كما كشف المخطط عن اقامة كنيس يهودي مركزي بتكلفة 4 ملايين دولار حيث تسعى الخطة الى اقامة متنزه فوق أسطح السوق في نقطة التقاء حارة اليهود بباقي أجزاء المدينة العربية على مساحة خمسة دونمات ليستخدم كطريق بديل بين الحي اليهودي وكنيسة القيامة اضافة الى العديد من المشاريع المقترحة للسيطرة التامة على البلدة القديمة. بيت شارون على "درب الآلام" وإذا كانت الخريطة الجديدة ما زالت لدى لجان التنظيم الاسرائيلية ولم يصادق عليها بعد، إلا ان ذلك لا يعني ان الحكومة الاسرائيلية وبلدية القدس والمؤسسات الداعمة لهذا المشروع ستؤجل التنفيذ الى حين المصادقة. فقد بدأت بتمهيد الوضع لضمان تطبيق الخريطة من دون عراقيل واعتراضات. وشارون، أبو المستوطنات ومؤسسها، لم يدعم فكرة زرع البؤر الاستيطانية في البلدة القديمة تمهيداً لتفريغها من سكانها، فحسب، بل جعل نفسه قدوة للمستوطنين وقام بشراء بيت له. واختار المرحلة الثالثة من شارع "درب الآلام"، وسط البلدة القديمة، لمستقبله السكني في القدس. وليس من الصعب التعرف على هذا البيت، فهو يقع على رأس الشارع ويشرف على مسار طويل من "درب الآلام" ويرفرف فوقه العلم الاسرائيلي وكذا الشمعدان. وأما الحراسة المشددة ومنع الاقتراب منه فهذه بحد ذاتها اشارة الى ان أمراً غير طبيعي يحدث في المكان. لكن سرعان ما يتلاشى شعور الاستغراب والدهشة عند مشاهدة المستوطنين والمتدينين اليهود يجوبون شوارع البلدة القديمة بشكل استفزازي. ومن لا يستوعب وجودهم تكفيه مشاهدة الاعلام الاسرائيلية ترفرف فوق المباني والبيوت الفلسطينية وتعليق الشارات باللغة العبرية الى جانب محلات تجارية فلسطينية ما زالت تحمل اسماءها العربية بعدما استولى عليها المستوطنون. ومن لا يكفيه هذا يستطيع التجول يوم السبت ليرى العدد الكبير من المستوطنين الذين لا يتجولون بحرية، فحسب، بل يطلقون تهديداتهم من دون رادع. كان سوء حظنا ان التقينا احدى المستوطنات منزوية قرب بناية استولى عليها المستوطنون، تقرأ التوراة وتراقب المارين. كانت تجلس باطمئنان فهي تعلم ان من وراء الجدار الذي تتكئ عليه يقف ثلاثة من حرس الحدود يحرسونها مع بقية المستوطنين في البناية. لدى اقترابنا من المكان لالتقاط صورة للمبنى ولها ايضا راحت تصرخ وتهدد بتحطيم الكاميرا وباستدعاء الجيش وطبعا رافقت تهديداتها الشتائم على الفلسطينيين. في مثل هذه الحال يمكنك مشاهدة المستوطنين كل مئة متر. منهم من يسيرون مجموعات مجموعات وهناك من يجلس وسط الرصيف يقرأ التوراة وآخر ينظر الى الفلسطينيين نظرة تهديد ووعيد. وفي مثل هذه المشاهد يمكن ان تتخيل كيف ستكون حال البلدة القديمة بعد تنفيذ الخريطة الهيكلية الجديدة. فزرع البؤر الاستيطانية والاستيلاء على بيوت الفلسطينيين باتا اليوم عنصراً فعالاً لتسهيل عملية تطبيق الخريطة على ارض الواقع، وفقط الشهر الماضي تمت المصادقة على مشروع استيطاني في باب الساهرة المجاور في منطقة "برج اللقلق" شمال المسجد الاقصى وسيشمل 300 عائلة يهودية. وإذا كانت اسرائيل عملت بشكل علني على زرع البؤر الاستيطانية فهي تحاول اليوم مواصلة مساعيها لتسهيل الوضع أمام الخريطة الهيكلية بهدوء وأحيانا بشكل خفي سالكة طرقاً عدة أبرزها سحب الهويات من المقدسيين. الحواجز العسكرية الحديث عن خيري حلاق كان نموذجاً لمئات حالات العائلات الفلسطينية التي تتنقل هذه الايام بين مكاتب وزارة الداخلية والتأمين الوطني والمؤسسات الفلسطينية في محاولة لاسترداد حقها في الاقامة في القدس والغاء قرار سحب الهويات. وهناك ما لايقل عن ثلاثمئة عائلة فلسطينية في القدس حصلت على بلاغ من وزارة الداخلية بسحب هويتها بالذريعة نفسها: "بعد التحقيقات تبين لنا انك لا تسكن في القدس منذ سنتين على الاقل". طبعا لا يمكن معرفة نوعية التحقيقات التي تتحدث عنها وزارة الداخلية الاسرائيلية والتي تعتمد عليها في قرار سحب الهويات، لكن احد الاساليب التي تمارسها لحصر اسماء الفلسطينيين تنفذ عند الحواجز العسكرية على مداخل البلدات الفلسطينية. ولضمان الحصول على أدلة ضد الفلسطينيين وضعت تعليمات جديدة للجنود على الحواجز بتسجيل أسماء الفلسطينيين، خصوصاً الرجال منهم، يومياً عند وصولهم الى الحاجز ثم اجراء فحص يومي والمقارنة مع قائمة اليوم السابق ثم رصد أسماء من يتكرر اسمه. وهؤلاء يتم فتح ملفات لهم لرصد كل يوم وصلوا فيه الى الحاجز وفي ما بعد يتم تقرير سحب الهوية لكل من يتكرر وصوله الى الحاجز بضعة أيام اسبوعياً. ولدى مواجهة كل فلسطيني سحبت هويته يبلغونه "ان الدخول او الخروج عبر الحاجز يعني انك لا تسكن في القدس وحياتك خارج القدس لذا لا يحق لك الحصول على بطاقة الهوية والاقامة". وشددت اسرائيل من سياستها هذه في ظل الهجرة العكسية التي بدأها المقدسيون منذ مباشرة العمل في جدار الفصل، اذ ان المئات من الذين غادروا بيوتهم عند اندلاع انتفاضة الأقصى بسبب المضايقات اليومية أثناء توجههم الى العمل او الدراسة وتدهور الاوضاع الاقتصادية عمدوا الى تأجير هذه البيوت أو بيعها. وبعد التهديد بعدم امكانية عودتهم نهائياً بعد انجاز جدار الفصل العنصري قرر معظمهم العودة. ومنهم من كان يملك بيتا وباعه اختار العودة الى القدس والسكن في بيت مستأجر وبسعر باهظ لئلا تصادر اسرائيل حقه في الاقامة. أمام هذا الوضع لم يبق امام الفلسطينيين الا المسار القضائي، اذ لا يكفي تقديم الاوراق التي تثبت وجودهم في القدس سواء في الحصول على علاج او دفع الضريبة والمستحقات عليهم. وقد تبين ان العائلات التي تقدمت بطلبات الى وزارة الداخلية لاستعادة الهوية ما زالت قليلة العدد ما يعني وجود كثيرين لم يكتشفوا بعد ما هو مخبأ لهم. وكما يرى الفلسطينيون فسيكون من الصعب اثبات الحاجة التي دفعت الفلسطينيين الى عبور الحاجز يومياً، فهناك من يعالج في مستشفيات فلسطينية، وهناك من يعمل ولكن بالنسبة الى اسرائيل فان عبور الحاجز يومياً يعني ادارة الحياة اليومية خارج القدس. وفي اسلوب آخر لاسرائيل تعرضت مئات العائلات لممارسة الضغط بترك بيوتها في البلدة القديمة في مقابل بيوت على حساب الحكومة الاسرائيلية التي تحاول تنفيذ اهدافها بهذه الوسيلة من خلال اطراف اسرائيلية او وسطاء فلسطينيين. فقد فوجئت العائلات الفلسطينية التي تعيش اوضاعاً اقتصادية قاسية بقدوم غرباء يعرضون تقديم الخدمات الاجتماعية بعد ان يطلعوا على الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية القاسية. وبعد زيارات متعددة يعرض هؤلاء ترك البيت، خصوصاً للعائلات التي تعيش في بيوت قديمة ومصدعة. وللاغراء يعرضون بيوتاً بوضع جيد خارج البلدة القديمة في مقابل التنازل عن البيت الاصلي. وبهذه الطريقة نجحت السلطات الاسرائيلية في تملك عشرات بيوت الفلسطينيين في البلدة القديمة. وكما اشار الفلسطينيون المطلعون على هذه القضية فان اسرائيل تكثف من سياستها من خلال اجراء مسح لجميع البيوت في البلدة القديمة واستغلال الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة او الاكتظاظ، اذ هناك عائلات من عشرة أشخاص تعيش في غرفة كبيرة او غرفتين فقط. الأقليات ولا تترك اسرائيل منفذاً الا وتصله لضمان تنفيذ خطتها في البلدة القديمة. ووجدت انتشار الاقليات في القدستربة خصبة لسياستها. وكما هو معروف هناك الافغان والارمن والبخاريون والافارقة والغجر. وتحاول اسرائيل اثارة أوضاع هؤلاء على رغم اندماجهم الكامل في المجتمع الفلسطيني وعدم قدرة أحد على تمييزهم. الا ان اسرائيل تركز على وجود مشاكل بين الاقليات الذين تطلق عليهم صفة "الرحالة" وتتحدث عن سياسة تمييز ضدهم من قبل الفلسطينيين وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية القاسية. وتحول أفراد هذه الاقليات الى هدف اسرائيلي حيث تسعى السلطات الاسرائيلية الى الوصول اليهم بذريعة معرفة أوضاعهم وامكان تقديم المساعدة لهم، وتذكّرهم بأنهم أقلية وبأن التعامل معهم بتمييز لا يضمن لهم مستقبلا. وتعرض عليهم بديلا خارج البلدة القديمة في ظروف اجتماعية وسكنية واقتصادية افضل توفر لهم ولاولادهم مستقبلاً أكثر ضمانة. الفلسطينيون من جهتهم يرفضون أي حديث اسرائيلي عن سياسة تمييز تجاه هذه الاقليات، بل انهم يصرون على اندماجهم في المجتمع الفلسطيني حتى من دون امكانية التمييز بينهم لولا الاماكن الدينية الخاصة بهم مثل الزاوية النقشبندية للافغان وزاوية البخاريين التي تمارس كل طائفة فيها طقوسها الدينية. الحرم القدسي في هذا السياق ليست صدفة الحملة الشرسة التي تعرض لها الحرم القدسي الشريف خلال الفترة الاخيرة من قبل الاسرائيليين وبغطاء المتدينين والمتطرفين. ففي تقرير لمركز القدس حول الاقصى يتبين انه لا يمكن الفصل بين الموقف الاسرائيلي من الاقصى وما تمارسه اسرائيل من سياسة في البلدة القديمة. ويفسر التقرير ذلك بالعودة عن الحديث عن وضع الاقصى منذ احتلال القدس حين ازالت السلطات الاسرائيلية أحياء فلسطينية بأكملها كانت قائمة في جوار الاقصى ثم قامت بتوسيع ساحة حائط البراق واعادة بناء الحي اليهودي وركزت النشاط الاستيطاني داخل اسوار المدينة في المحيط القريب جداً من المسجد الاقصى سواء في "شارع الواد" او "شارع السلسلة" وصولا الى "الخالدية" و"السرايا". وتدل خريطة البؤر الاستيطانية المنتشرة حول المسجد الاقصى على حجم الاهتمام الذي توليه الجماعات اليهودية المتطرفة المتمثلة في السيطرة التدريجية على الاقصى. المؤرخ الاسرائيلي يزهر بار من مركز الدفاع عن الديموقراطية في اسرائيل وصف الوضع في منطقة الاقصى ب"بركان تغلي حممه مهددة بالانفجار، ما سيضع اسرائيل في خطر استراتيجي يتعلق بوجودها". ويرى يزهر ان هناك سببين لظاهرة التوسع الكبير حول الاقصى: الأول خارجي والثاني داخلي. الخارجي يتمثل بالخوف من اتفاق تثبيت الوضع القائم، الذي من خلاله يبقى الاقصى بيد الفلسطينيين، وقد زاد هذا الخوف من الضغط على رجال الدين، وكذلك على الحاخامية الرئيسية لليهود للمنع الديني الذي يحظر على اليهود دخول ساحات الحرم. اما السبب الداخلي فيتمثل في اتساع ظاهرة التعاطي الفكري مع موضوع الهيكل، ودخول هذه الفكرة الى جميع الاطر الدينية، ما نجم عنه تلقص قيمة حائط البراق، وازدياد الاهتمام المتعلق بالنشاط المتفرع عن "مؤسسة الهيكل"، بما في ذلك تعاظم ديناميكية القوة والوعي لبناء الهيكل من قبل "مجموعة مريدي الهيكل" التي تقول ان الحرم القدسي يقوم على انقاض هيكل سليمان. وفي موقع للمتطرفين ذكر نوعام لفنات، من قيادي حركة "حاي" انه يصبو الى واقع يكون من الممكن تفجير القبة الذهبية في المسجد الاقصى. وقال: "اذا قام ثلاثة اشخاص بتفجير القبة الذهبية فهم مجرد مجانين. واذا قام بهذا العمل ثلاثون فهذه "عصابة" اما اذا قام به ثلاثمئة او ثلاثة آلاف فهذه ثورة، ولذلك فان هدفنا هو التأييد الشعبي لذلك"