في الوقت الذي كانت فيه الانظار مشدودة نحو جنين ورام الله ونابلس والصور التي شهدت أبشع الاعتداءات الاسرائيلية، كانت العقول المخططة للحكومة الاسرائيلية تعد وتنفّذ الخطط لتهويد القدس وتطويقها واختراق احيائها العربية بشكل يمنع تنفيذ كل الخطط المطروحة لتحقيق حل حول القدس بين الفلسطينيين والاسرائيليين. فالقدس تعيش حالياً وضعاً خطيراً جداً لم يسبق ان مرت منذ العام 1967 على رغم كل الاعمال التي نفذتها اسرائيل طوال هذه السنوات في المدينة لتحويلها الى العاصمة الموحدة لاسرائيل. انها حالة تهويد وعزل بحجة امنية تهدف في نهاية المطاف الى تحقيق سياسة اغلاق المدينة وتوسيعها حسب مفهوم القدس الكبرى. فاسرائيل التي تنظر بقلق الى الزيادة السكانية للفلسطينيين في القدس تخطط لخفض هذه الزيادة الى اقل نسبة ممكنة. ففي حين كان عدد الفلسطينيين في العام 1967 حوالي 70 الفاً اي 22 في المئة من مجموع السكان اصبح اليوم يتجاوز 230 الفاً يشكلون 35 في المئة من المجموع العام . وعلى هذا الاساس تبني اسرائيل مخططاتها، فتصادر الاراضي وتقيم المستوطنات في قلب الاحياء العربية. وتعمل في هذه الايام بوتيرة عالية على شق وتعبيد شوارع جديدة تخترق الاحياء العربية، وهناك عائلات استيطانية تصل الى احياء عربية وتسكن فيها من دون ان يستطيع احد طردها او منعها، بل على العكس فالخطر قائم بزيادة عدد هذه العائلات. وقد وصل التمادي حتى الى الاماكن المقدسة الاسلامية والمسيحية. فالاقصى يعاني حالة خطر حقيقية من قبل المستوطنين وكذلك الكنائس التي بدأت بيوت المستوطنين تجاورها كما هو الحال في كنيسة القيامة. من دون ان يستطيع احد فعل اي شيء لانقاذ ما تبقى من اراض تابعة للفلسطينيين. بل ان عدد هذه العائلات اليهودية يزداد داخل الاحياء والمناطق العربية ضمن السياسة الحكومية الرامية الى جعل الوضع يصل الى حد لا يمكن لاكبر خطة سحرية للقدس ان تؤدي الى تفاهم بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وتكفي الاشارة الى الزيادة الملحوظة لعدد المستوطنين خلال الانتفاضة، ففي حين كان عددهم قبل الانتفاضة 170 الفاً اصبح يقارب اليوم 180 الفاً. اي بزيادة 6 في المئة خلال اقل من سنتين. ويقول مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية خليل توفقجي: "ان الرؤية الاسرائيلية حول القدس تترجم ضمن مفهومين: الاول يكمن في القدس التي تم توسيعها في العام 1967 واقامة 15 مستوطنة ووضع 180 الف مستوطن فيها وهي تعادل 2.1 في المئة من مساحة الضفة العربية والمفهوم الاسرائيلي الثاني هو اغلاق المدينة وتوسيعها بحسب مفهوم القدس الكبرى التي تعادل 10 في المئة من مساحة الضفة الغربية. ونتيجة الاوضاع السياسية السائدة في المنطقة والاوضاع الامنية في الضفة الغربية يقوم شارون بتنفيذ هذا المشروع من دون ان يكون هناك اي رد فعل. وهو طرح قضية عزل القدس عن الضفة الغربية واقامة سياج حول المدينة وانفاق وجسور وحواجز ترابية…". ويتركز الصراع في هذه الايام داخل القدس باتجاهين متوازيين الاتجاه الجغرافي والاتجاه الديموغرافي. وتبين الحقائق بشكل واضح خسارة الفلسطينيين في الصراع الجغرافي بعدما صادر الاسرائيليون مساحة 35 في المئة من القدسالشرقية بحجة "المصلحة العامة" وتحويل 40 في المئة من مساحة القدسالشرقية الى مناطق خضراء يمنع الفلسطينيون من البناء عليها فيما يقوم الاسرائيليون بالبناء عليها من دون اية معارضة بل وبدعم مالي ومعنوي بلا حدود. وفي نهاية المطاف تتحول المدينة الى مستوطنات كما هي الحال في منطقتي جبل ابوغنيم وشعفاط. اما من الناحية الديموغرافية فكما يقول خليل توفقجي فان الفلسطينيين ما زالوا يشكلون 35 في المئة من عدد سكان القدسالشرقية. هذه الزيادة كانت ولا تزال تشكل ازعاجاً للاسرائيليين. وهناك هجرة اسرائيلية من داخل القدس الى خارجها مما ادى الى الزيادة السكانية العربية ونقصان النسبة اليهودية. ومن هنا قفزت الى اذهان الاسرائيليين فكرة القدس الكبرى وهي بمثابة ضم مجموعة من المستوطنات من خارج حدود بلدية القدس الى داخل حدودها مثل معاليه ادوميم وجفعات زئيف من دون ادخال اية قرية عربية وذلك بهدف ايجاد التوازن الديموغرافي في هذه المنطقة. استيطان داخل الاحياء في العام 1967 كانت مساحة القدسالشرقية 6.5 كيلومتر مربع وخلال هذه السنوات تم توسيعها الى حوالي سبعين كيلومتراً مربعاً. ومن اصل هذه المساحة سيطرت اسرائيل على 35 في المئة بحجة المصلحة العامة وعلى 40 في المئة لاستخدام المخططات الهيكلية والمناطق المبنية، وهناك ايضاً مساحات للشوارع واراض غير منظمة ولم يبق للفلسطينيين سوى 14 في المئة من الاراضي التي يسمح البناء عليها واستعمالها. وحتى هذا الاستعمال محدود ومشروط. ويتم هدم عشرات الابنية فيه. سياسة مصادرة اراضي القدس لم تبدأ مع شارون او رؤساء حكومات اسرائيل من حزب الليكود الذي كان على مدار السنين معارضاً رئيسياً للمفاوضات حول القدس وامكان تقسيمها، انما بدأت مع حزب العمل الذي يضع زعماؤه اليوم مخططات ودراسات حول مشروع سلام يشمل ايضاً الحديث عن مدينة القدس. لقد بدأت مصادرة اراضي القدس منذ العام 1967 وعلى مدار ربع قرن كثف خلالها حزب العمل المصادرة بواسطة رئيس بلدية القدس آنذاك تيدي كوليك، اذ تمت مصادرة 24 كيلومتراً مربعاً اي مساحة 35 في المئة من المدينة. وفي العام 1990 عندما كان شارون وزيراً للاسكان طرح مشروعه بإقامة 26 بوابة حول المدينة، وكما يقول توفقجي فإن هذا المشروع يرمي الى اقامة احياء استيطانية حول المدينة والتجمعات الفلسطينية داخل حدود بلدية القدس. اما بعد العام 1990 فوصل الاستيطان الى داخل الاحياء الفلسطينية في القدس، ومن هنا بدأت الخطورة. عندما نتكلم عن احزمة استيطانية حول التجمعات الفلسطينية كانت هناك تجمعات يهودية مختلفة عن التجمعات الفلسطينية اما الحديث عن أحزمة استيطانية فالامر يختلف كلياً". وفي العام 1977 كانت الخطورة حول القدس قد بدأت تظهر للعيان استراتيجيا بعدما باشر رئيس الحكومة في حينه مناحيم بيغن في بناء المستوطنات حول المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، وبدأت سياسة خلق البؤر الاستيطانية داخل الاحياء الفلسطينية ووصلت الى البلدة القديمة في القدس ثم الى بلدة سلوان ثم استمرت في جبل الزيتون واخرها في حي الشيخ جراح. وترمي السياسة الاسرائيلية، كما يقول توفقجي، الى اقامة احياء سكنية داخل احياء فلسطينية بحيث انه عندما يجري الحديث عن احياء فلسطينية في المستقبل اي عند بدء الحديث عن مفاوضات تكون هذه الاحياء الفلسطينية عبارة عن بيوت عربية سكنية ضمن احياء يهودية والدليل على ذلك ما يجري في بيت صفافا. فهناك تحيط المستوطنات بالبيوت العربية. خلال الشهرين الاخيرين عندما كانت الدبابات الاسرائيلية تجرف البيوت الفلسطينية في جنين ونابلس والطائرات تقصف البيوت وكل فضائيات العالم موجهة نحو هذه المناطق التي وصلتها حملة "السور الواقي"، كانت جرافات اخرى تعمل بشكل هادئ وكانت عقول اخرى في الحكومة الاسرائيلية تكرس اعمالها للقدس بعيداً عن الاضواء الاعلامية وبهدوء تام. فتأتي بالمستوطنين الى أحياء عربية في المدينة وتضع الحواجز على كل مداخل المدينة حتى لا تسمح لأحد بدخولها وتفرض منع التجول حتى لا يتم كشف تخطيطاتها وتشق الطرق وترحل عائلات عربية تسكن في احياء في القدس منذ عشرات السنين وتهدم بيوتاً بحجة عدم الترخيص. ويصل المستوطنون الى بيوت عربية وينتزعونها من اصحابها، وتستمر اعمال الاستيطان من دون ان تترك الحكومة الاسرائيلية ارضاً ولا بيتاً ولا شوارع فلسطينية. تخطيط واضح لمنع اي امكانية مستقبلية تكون فيها القدسالشرقية عربية بكل سكانها تهويد بكل ما تعنيه الكلمة من دون لفت نظر اي طرف فلسطيني او عربي او عالمي. والاحياء التي تعرضت بشكل كبير لاستيطان خطير في فترة اجتياح الضفة الغربية وتنفيذ خطة "السور الواقي" هي: رأس العمود، وهو اليوم عبارة عن حي يهودي داخل احياء عربية، اذ يجري بناء 205 وحدات سكنية فيه، خصصت لها الحكومة 30 مليون دولار. ووصل الى رأس العمود حوالي الف مستوطن يهودي داخل حي عربي. منطقة ابو طور حيث بدأت اول بؤرة للاستيطان عند استيلاء المستوطنين على بيت عربي. حي الشيخ جراح الذي جرت فيه محاولات للاستيلاء على بيوت عربية واعادة ترميم بيوت لإسكان اليهود بمبالغ تقدر بملايين الدولارات والتخوف لدى الفلسطينيين بوضع بؤرة استيطانية في هذه المنطقة يتزايد يومياً خصوصاً بعدما سمحت المحكمة للمستوطنين اليهود بالسيطرة على بعض البيوت. وهي اليوم خاضعة للحراسة المسلحة 24 ساعة في اليوم. حي وادي الجوز، اذ يجري تنفيذ مخطط لاقامة حي يهودي على اراضي فلسطينيين في شمال حي الجوز الفلسطيني ومصادرة ثلاثين دونماً من الاراضي الفلسطينية لتنفيذ هذا التخطيط. ويقول خليل توفقجي ان اسرائيل نجحت من خلال جمعيات استيطانية كثيرة في تحقيق اهدافها في توسيع الاستيطان داخل القدس العربية. ويضيف: "هذه المجموعات تعمل عن طريق دائرة اراضي اسرائيل التابعة لدولة اسرائيل وكل واحدة تتخصص في عمل في حي معين، تخطط من خلاله لادخال بؤر استيطانية وترمم كل البيوت اليهودية وتسكن اليهود في البيوت الفارغة وكل ذلك يتم بشكل منظم وبدعم مالي كبير. فإذا أخذنا بلدة سلوان مثلا هناك تعمل شركة "همينوتا" في تطوير الحي اليهودي في البلدة القديمة. وفي منطقة الشيخ جراح تعمل جماعة "بيني الون" التي تركز على توصيل اكبر عدد ممكن من اليهود". وعلى رغم انه لم يعلن بعد عن حجم الاموال التي خصصتها اسرائيل لتنفيذ خططها في القدس الا ان التقديرات تشير الى مئات ملايين الدولارات. اما في الجانب الفلسطيني فمنذ العام 1980 وحتى 1990 لم تنفق الحكومة لترميم البلدة القديمة سوى مليون دولار فقط. ان الخطورة في استمرار الوضع القائم اليوم هي ان الخطط التي توحي ببارقة امل في التوصل الى حل حول القدس، لا يمكن تنفيذها وكما يقول توفقجي: "اذا استمر هذا الوضع سنصل الى مرحلة ستكون هذه الخطط في الهواء وسيكون من المستحيل تقسيم القدس الى عاصمتين لفلسطين واسرائيل اذ لا يمكن ان يكون يهودي تحت سيطرة عربية وستصل اسرائيل الى وضع تقول فيه اننا غالبية يهودية في القدسالشرقية ومن حقنا ان نحكم فيها.ونتيجة سياسة شارون ووضوح الرؤية المستقبلية حيال القدسوالضفة الغربية وخلق البؤر الاستيطانية داخل الاحياء الفلسطينية فان ما يتم طرحه الآن من قبل حاييم رامون وشمعون بيريز وبنيامين بن اليعيزر لا يمكن طرحه اصلاً لأن هناك واقعاً جديداً. ويرى توفقجي ان الاحتجاجات الفلسطينية والعربية على ما يحدث في القدس لا تتناسب مع حقيقة الخطورة التي تعيشها المدينة جراء السياسة التي ستصل حتماً الى تهويدها واذا لم يتم اي عمل جدي خلال فترة قصيرة جداً سنقول "كانت لنا قدس". وفي الاطار نفسه يتعرض الحرم القدسي الشريف وكنيسة القيامة، لمختلف لمحاولات من المتدينين اليهود المتطرفين الذين يقولون ان في هذا الموقع ركام هيكل سليمان، مطالبين بالسماح لهم بالصلاة في باحة الاقصى لكنهم يطمعون في اعادة بناء الهيكل مكانه، اي بعد هدم الاقصى. وتقوم دائرة الآثار باجراء حفريات مذهلة وخطيرة تحت الاقصى وأسواره، الى درجة بناء مدينة تحت الارض بمساحة البلدة القديمة. وقد حذرت دائرة الاوقاف من ان تؤدي هذه الحفريات الى هدم اسوار القدس ومقدساتها. وكنيسة القيامة هي الاخرى هدف للاسرائيليين اذ هي محاطة اليوم بمجموعة من المستوطنين الذين وصلوا الى دير مار يوحنا المجاور للكنيسة واحتلو قسماً منه. ويقول الارشمندريت حنا عطالله الذي اصدر بياناً يناشد فيه العالم التدخل لانقاذ القدس من سياسة التهويد، ان الكنيسة تعاني منذ العام 1948 من مصادرة أراضيها واضاف: "القدس تمر اليوم في مرحلة خطيرة جداً من حيث مصادرة اراضيها وبيوتها وسحب الهويات من الفلسطينيين ومحاولات طمس الوجه العربي الفلسطيني. لكن للاسف هذا الوضع الخطير يواجه بصمت عربي. فاليوم لا يكفي ان نغني للقدس حتى وان كانت الاغاني معبرة. ولا يكفي ان نصدر البيانات ونعقد المؤتمرات، في وقت تعمد اسرائيل ليل نهار الى تنفيذ مخططاتها. فالقدس في خطر حقيقي وهناك حاجة الى عمل حقيقي لمواجهة هذا الخطر. فإجراءات التهويد وصلت الى مراحل متقدمة جداً وعلينا ان نسعى جادين، مسلمين ومسيحيين، لإنقاذ المدينة المقدسة. هناك حاجة لأن يتحرك المؤتمر الاسلامي والجامعة العربية ولجنة القدس وكل المؤسسات الحضارية والانسانية في العالم. فالقدس إرث حضاري انساني خاص بالوطن العربي وعلينا انقاذه" سياسة خنق بسبب سياسة تضييق الخناق على الفلسطينيين في القدس، ومصادرة اراضيهم وحرمانهم من البناء والتطور تعاني العائلات الفلسطينية في المدينة من وضع اقتصادي واجتماعي خانق. فهناك كثافة سكانية كبيرة اذ في حين لا تتعدى نسبة اشغال الغرفة الواحدة في البيت اليهودي 1.3 شخص، تصل لدى العائلة العربية الى حوالي 3 اشخاص. وقد دفع هذا الوضع العائلات العربية الى البناء غير المرخص الامر الذي يعني في نهاية المطاف هدم هذه البيوت ما يضاعف الضائقة. ويتحدث العاملون في مجالات الصحة النفسية والاجتماعية عن ارتفاع كبير لحالات الانحراف خصوصاً المخدرات. وهناك عدد كبير من سكان القدس مشردون او يتواجدون فيها بشكل "غير قانوني" حسب قوانين الاحتلال. والبطالة منتشرة بشكل خطير، والاحياء العربية مهملة والمدارس تحتاج الى مدرسين ومع ان الحكومة الاسرائيلية ضمّت القدسالشرقية الى اسرائيل منذ العام 1967 ومنحت سكانها الهوية الاسرائيلية فإن وزاراتها لا توفر لهم اية حقوق مدنية فعلية.