هناك بيوت كثيرة تبدو من الخارج هادئة، لكن بداخلها حكاية طلاق لم توثق على الورق، زوج وزوجة تحت سقف واحد، لكن كل واحد منهما يعيش حياته وكأنه في عالم آخر، لا حديث، لا مشاركة، لا مائدة تجمعهما، ولا حتى نظرة تحمل دفء الماضي لدرجة جعلت العيون تتفادي بعضها، وكأن اللقاء أصبح صدفة غير مرغوبة. مجرد أجساد تتقاسم الجدران، لكن القلوب بعيدة آلاف الأميال، يكفي أن تدخل لتجد صمتًا كثيفًا يملأ الأركان، الانفصال الزوجي من طرف واحد لا يحدث فجأة، ولا يكون مجرد لحظة غضب أو قرار اعتباطي، إنه نتيجة تراكمات طويلة، صغيرة وكبيرة، مرت دون أن تعالج، ومع الوقت أصبحت أشبه بثقب في جدار العلاقة، يكبر تدريجيًا حتى لا يعود بالإمكان تجاهله، يبدأ الأمر غالبًا بتغيرات بسيطة في السلوك كصمت طويل، وإهمال عاطفي أو جنسي، وقلة تواصل، وإحساس داخلي بالملل أو عدم التقدير. هذه المؤشرات، لو لم تفهم أو تناقش، تتحول إلى فجوة عميقة بين الزوجين، فجوة تحمل معها شعورًا بالوحدة رغم العيش تحت سقف واحد، هذا النوع من الطلاق مؤلم أكثر من الانفصال الرسمي، لأنه يقتل الروح ببطء، تبدأ الفجوة بالخلافات الصغيرة في وجهات النظر والمشاعر المهملة، والكلمات التي تقال بحدة أو حتي لا تقال إطلاقًا، ومع مرور الوقت تتراكم الجروح؛ حتى يصبح من المستحيل مداواتها، ليتوقف طرف عن المحاولة ويعيش على هامش العلاقة، بينما الطرف الآخر يظل معلقًا بين الأمل والخذلان، السبب في الوصول لهذه المرحلة غالبًا هو غياب الحوار الصادق، حين يخاف أحدهما من المواجهة أو يختار الصمت، فتبدأ المسافة في الاتساع، يدخل الروتين ليأخذ مكان المودة، وتتحول العشرة إلى عادة ثقيلة، وأحيانًا يكون السبب خيانة، وأحيانًا إهمال، وأحيانًا اختلافات عميقة في القيم أو طريقة التفكير، أو تربية الأطفال، ليختنق طرف داخل نفسه ويصمت ولا يشارك خوفه، أو ضيقه للأخر فتنتج فجوة داخلية لا يراها سوى الذي يعيشها، وفي كثير من الأحيان يظهر هنا شخص ما أو تجربة خارجية، تفتح أعين أحد الطرفين على أن الحياة، يمكن أن تكون مختلفة وتستحق المشاركة، فتصبح الرغبة في الرحيل شعورًا لا يمكن إنكاره، بسبب أمور لم تناقش بجدية منذ البداية، في كثير من الحالات يستمر الطرفان في العيش معًا بسبب الأطفال، أو لأن الظروف المادية لا تسمح بالانفصال، أو للحفاظ علي الشكل الاجتماعي، فيظل كل طرف في سجنه، يمثل دور الزوج والزوجة أمام الآخرين، بينما الحقيقة أن ما يجمعهما لم يعد أكثر من عنوان واحد في البطاقة الشخصية، ولكن الثمن باهظ، أطفال يرون والديهم كغرباء، يتعلمون أن الحب يمكن أن يموت دون أن يرحل أحد، وأن البيت يمكن أن يفقد روحه، والجدران تحفظ أسرارًا من الصمت والوجع، ورجل وامرأة كل منهما له حياة لا يعلم الأخر عنها شيئًا. من المؤلم أن يستيقظ الإنسان كل يوم بجوار شخص لم يعد يعني له شيئًا، ويضطر أن يعيش المشهد÷، وكأنه مسرحية لا تنتهي فصولها الممله التي أكلت سنوات العمر، الانفصال من طرف واحد هو الحب الأكبر، الفرصة للنمو، للشجاعة، للحفاظ على الذات، على السلام الداخلي، لكن بعد الألم، بعد الفراغ، بعد كل الأسئلة، يظهر الضوء البسيط، الذي يكون بمثابه الفرصة لإعادة اكتشاف النفس، لمعرفة قيمتها الحقيقية، لإعادة تقييم ما تريده وتستحقه حقًا، لإعادة ترتيب حياتنا حول ما هو مقبول وما لا يطاق، حول ما نستحق أن نبقي من أجله، لا حول ما فرض علينا الاستمرار فيه، الانفصال هنا، رغم ألمه العميق هو مرآة الحياة الحقيقية، التي إن واجهناها تجعلنا أقوى وأكثر صراحة مع النفس، هو دعوة للنمو، وللوعي، ولإدراك أن الحب الأكبر يبدأ عندما نحب أنفسنا أولًا.