تراجع أسعار النفط بأكثر من 1% عند التسوية    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    «متحف طارق عبدالحكيم» يختتم المخيم الصيفي للأطفال    ارتفاع ضحايا الأمطار والسيول في شمال باكستان إلى أكثر من 200 قتيل    الكرملين: انتهاء محادثات بوتين وترامب في ألاسكا    رسمياً .. النصر يعلن تعاقده مع الفرنسي"كومان"    نيوم يضم المالي "دوكوري"    ماسكيرانو يؤكد جهوزية ميسي لسلسة مباريات إنتر ميامي المهمة    ليفربول يدين الإساءة العنصرية التي تعرض لها سيمنيو    ناشئو أخضر اليد بين كبار العالم.. ضمن أفضل 16 في مونديال مصر    ترامب: أحرزنا تقدما كبيرا في المحادثات مع بوتين    نونو سانتو: فورست يحتاج لتعزيز صفوفه بصورة عاجلة    جيسوس يرحب برحيل لاعب النصر    قرار مفاجىء من إنزاغي بشأن البليهي    إغلاق 84 منشأة في حي منفوحة بالرياض وضبط مخالفات جسيمة    هيئة المياه تطالب بسرعة تحديث البيانات    القبض على شخص في حائل لترويجه مواد مخدرة    "سلمان للإغاثة" يوزّع (2,200) سلة غذائية في عدة مناطق بباكستان    أمير عسير يستقبل سفير بلجيكا    المملكة تعزي وتواسي باكستان في ضحايا الفيضانات والسيول    تطبيق نظام "حضوري" لضبط دوام منسوبي المدارس في 13 منطقة تعليمية    تكليف الدكتور محمد الغزواني مساعدًا لمدير تعليم الحدود الشمالية للشؤون التعليمية    النفط يتراجع وسط مخاوف الطلب وتوقعات فائض المعروض    مستشفى جازان العام وجمعية التغذية العلاجية يحتفيان بأسبوع الرضاعة الطبيعية    الشيخ عبدالله البعيجان: استقبلوا العام الدراسي بالجد والعمل    الشيخ بندر بليلة: احذروا التذمر من الحر فهو اعتراض على قضاء الله    أمين جازان يتفقد مشاريع التدخل الحضري ويشدّد على تسريع الإنجاز    جامعة جازان تعلن نتائج القبول في برامج الدراسات العليا للفترة الثانية    مقصورة السويلم تستضيف المهتم بعلوم النباتات عبدالله البراك"    بيع 3 صقور ب 214 ألف ريال    الاستثمار الأهم    النوم عند المراهقين    السعال الديكي يجتاح اليابان وأوروبا    المملكة تتوّج بالذهب في الأولمبياد الدولي للمواصفات 2025 بكوريا    محمد بن عبدالرحمن يعزي في وفاة الفريق سلطان المطيري    أمير منطقة الباحة يستقبل الرئيس التنفيذي لبنك التنمية الاجتماعية    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظم حلقة نقاش بعنوان: (تمكين الابتكار الرقمي في العمل التوعوي للرئاسة العامة)    نائب أمير جازان يستقبل مدير مكتب تحقيق الرؤية بالإمارة    اليوم الدولي للشباب تحت شعار"شبابُنا أملٌ واعد" بمسرح مركز التنمية الاجتماعية بجازان    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة أبوعريش    نائب أمير جازان يلتقي شباب وشابات المنطقة ويستعرض البرامج التنموية    زراعة أول نظام ذكي عالمي للقوقعة الصناعية بمدينة الملك سعود الطبية    استقرار معدل التضخم في السعودية عند 2.1% خلال شهر يوليو 2025    في إنجاز علمي بحثي.. خرائط جينية جديدة تُعزز دقة التشخيص والعلاج للأمراض الوراثية    حظر لعبة «روبلوكس» في قطر    الصين تطلق إلى الفضاء مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية للإنترنت    «البصرية» تطلق «جسور الفن» في 4 دول    الإطاحة ب 13 مخالفاً وإحباط تهريب 293 كجم من القات    الشيباني: نواجه تدخلات خارجية هدفها الفتنة.. أنقرة تتهم تل أبيل بإشعال الفوضى في سوريا    19 % نمواً.. وإنجازات متعاظمة للاستدامة.. 3424 مليار ريال أصول تحت إدارة صندوق الاستثمارات    اطلع على أعمال قيادة القوات الخاصة للأمن البيئي.. وزير الداخلية يتابع سير العمل في وكالة الأحوال المدنية    رئيس الوزراء النيوزيلندي: نتنياهو فقد صوابه وضم غزة أمر مروع.. «الاحتلال» يصادق على الهجوم .. وتحرك دبلوماسي للتهدئة    موسكو تقلل من أهمية التحركات الأوروبية.. زيلينسكي في برلين لبحث القمة الأمريكية – الروسية    تمكين المدرسة من خلال تقليص المستويات الإدارية.. البنيان: 50 مليار ريال حجم الفرص الاستثمارية بقطاع التعليم    انطلاق ملتقى النقد السينمائي في 21 أغسطس    استخراج هاتف من معدة مريض    أمير جازان يعزي في وفاة معافا    مباهاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروس عائدون الى الشرق الأوسط والعالم باستراتيجية جديدة
نشر في الحياة يوم 23 - 07 - 2001

عشية هزيمة "العقوبات الذكية" في مجلس الامن، كان محمد الدوري رئيس البعثة العراقية لدى الامم المتحدة واثقاً سلفاً من النتائج.
قال للصحافيين العرب والأجانب الذين تجمهروا حوله في مكتبه في نيويورك، وهو يرسم ابتسامة سريعة ذات مغزى على وجهه: "السياسة كلها مصالح ولا علاقة لها بالاخلاق. واذا ما اتخذ الفرنسيون و"الآخرون" موقفاً ايجابياً في مجلس الامن، فأنهم بالطبع سيجنون الفوائد. هذه هي السياسة العراقية".
في اليوم التالي، كان التلويح بأول فيتو روسي جدّي منذ نهاية الحرب الباردة قبل عشر سنوات، يرسم على ما يبدو نهاية ايضاً لمشروع "العقوبات الذكية" الاميركي - البريطاني، ويكرّس انتصار السياسة العراقية القائمة على استخدام المال والنفط كسلاح سياسي.
وكما هو معروف، العضلات المالية العراقية بدأت تفعل فعلها القوي منذ ان قفزت عائدات النفط العام الماضي الى 18 مليار دولار، بعدما كانت لا تتجاوز الاربعة مليارات في العام 1997. هذا اضافة الى النفط العراقي المهّرب والذي تتراوح قيمته ما بين مليارين الى ثلاثة مليارات دولار سنوياً.
وعلى سبيل المثال، ووفقا للتقارير السرية للامم المتحدة، وقعّت مصر اتفاقات مع العراق بأكثر من 740 مليون دولار خلال الشهور الستة الاولى من العام 2000، ما حوّلها الى الشريك التجاري الاول لبغداد. تليها دولة الامارات نحو 703 ملايين، ثم سوريا التي تشتري نفطاً عراقياً رخيص الثمن بنحو مليار دولار سنوياً.
هذا بدون ان ننسى بالطبع الاردن، الذي يعتمد اقتصاده بشكل كبير على العلائق التجارية والنفطية مع العراق، جنباً الى جنب مع تركيا المستفيد الاول من انابيب البترول واسواقه ودولاراته المتدفقة من بغداد.
وتقول "فايننشال تايمز" ان سياسة "العضلات المالية" نجحت الى حد بعيد في ربط دول الجوار بعجلة التوجهات العراقية، على الاقل حيال مسألة العقوبات الدولية. كما انها "فرملت" أي فرص كان يمكن ان تبرز لقيام تعاون بين هذه الدول وبين "العقوبات الذكية" الاميركية.
وما انطبق على دول الجوار، سحب نفسه ايضاً على بعض الدول الكبرى.
وهكذا فإن بغداد التي كانت حّولت فرنسا الى اكبر مستفيد في العالم من الاتجار معها قبل اربع سنوات مبيعات سنوية بقيمة 3 مليارات دولار لشركات بيجو ورينو وألكاتيل، استخدمت ضدها أخيراً سلاح النفط والمال وقلصت التجارة معها الى النصف، بسبب انحيازها الى السياسات الاميركية - البريطانية.
اما بالنسبة لروسيا فالصورة تبدو مختلفة. اذ ان موسكو في عهد فلاديمير بوتين، اثبتت انها وعلى عكس مرحلة بوريس يلتسين على استعداد لقرن القول بالفعل في ما يتعلق بالدفاع عن بغداد في المحافل الدولية.
وهذا ما دفع العراق الى فتح كل الابواب امام الشركات الروسية، خصوصاً في مجال تسويق وانتاج الغاز والنفط، والى التلويح باستعداده للوفاء بالديون العسكرية للاتحاد السوفياتي السابق والتي تناهز الثمانية مليارات دولار.
وجاء التهديد الروسي الناجح باستخدام حق النقض الفيتو في مجلس الامن، كتتويج لتحّول موسكو الى الظهير الاول لبغداد في المحافل الدولية.
هذه التطورات الدرامية فتحت هلالين كبيرين حشرت بينهما اسئلة من العيار الثقيل:
هل يمكن ان يؤدي الاغواء المالي العراقي الى اعادة روسيا مجددا الى معادلات موازين القوى في الشرق الاوسط؟.
وهل تكون هذه العودة، جزءاً من المناكفة البوتينية للولايات المتحدة في مجالات "حرب النجوم- 2"، والعلاقات الاستراتيجية مع الصين والغزل الروسي لاوروبا على حساب اميركا ومبيعات الاسلحة الى ايران وباقي دول العالم الثالث".
بكلمة: هل الروس عائدون الى الشرق الاوسط؟.
بداية جزائرية
قبل التطرق الى هذه الاسئلة، لا بد من التذكير ان تحرك "الدب القطبي الروسي" مجدداً باتجاه المياه الشرق - اوسطية الدافئة، بدأ قبل وقت قصير من شهر سلاح الفيتو في مجلس الامن.
والمناسبة هذه المرة لم تكن، كما العادة، أحاديث التعاون العسكري والنووي الروسي- الايراني الذي يثير شتى انواع القلق والتبرم في الولايات المتحدة، ولا التطويرات العسكرية التكنولوجية الروسية - الاسرائيلية التي تطلق شتى انواع الاحتجاجات في الدول العربية، بل احياء ما سمي "الشراكة الاستراتيجية" بين موسكو والجزائر.
أو هذا، على الاقل، كان الوصف الذي أطلقه بوتين على صفقة الاسلحة الضخمة التي وقعها مع الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، والتي تقدر قيمتها بنحو مليارين ونصف المليار دولار، مضيفا ان هذا "حدث غير مسبوق في العلاقات بين موسكو والدول العربية".
لكن، وعلى رغم ان اتفاق "الشراكة الاستراتيجية" هذا اشار الى ان البلدين سيسعيان الى تحقيق تقارب سياسي، اضافة الى التعاون العسكري، من دون ان يرقى ذلك الى صيغة التحالف، كما نص الاتفاق، الا أنه كان من الواضح أن اضافة السياسة على صك الصفقة العسكرية كانت لزوم ما لا يلزم.
فموسكو ليس لديها في الواقع تقديمات سياسية يمكن ان تهديها الى الجزائر، عدا ربما بعض البيانات البلاغية الموسمية التي تهم هذه الاخيرة، كالصراع على الصحراء الغربية.
ثم أن الجزائر تقيم بالفعل علاقات استراتيجية، وان ضمنية، مع كل من فرنسا والولايات المتحدة، اللتين دعمتا بقوة ولا تزالان الدولة والجيش الجزائريين في صراعهما مع الاصوليين . وبالتالي فهي لا تحتاج الى قوة روسية توازن قوة الغرب في المنطقة.
بالطبع، هذا لا يعني أنه لن يكون للصفقة الروسية - الجزائرية مضاعفات في الشرق الاوسط. اذ هي قد تدشن عودة السلاح الروسي الى الثكنات العسكرية العربية. اضافة الى احتمال اطلاقها سباق تسلح جديداً في المنطقة، في المغرب كما المشرق. وقد سارعت دول مغربية بالفعل الى ابداء قلقها من هذه الصفقة، مشيرة الى انها تفوق بكثير حاجات الامن الداخلي الجزائري. كما ابدت دوائر اسرائيلية قلقها من احتمال عودة بعض اشكال التحالف الروسي - العربي على حسابها. بيد ان هذه ردود فعل مبالغ فيها.
فروسيا القومية العائدة الى المنطقة العربية عبر البوابة الجزائرية، هي غير روسيا السوفياتية كلياً. اذ هي لا تمتلك استراتيجية شرق اوسطية. وحتى لو وضعت مثل هذه الاستراتيجية نظريا، فهي غير قادرة على تمويلها عملياً. هذه نقطة.
وثمة نقطة أخرى لا تقل أهمية، وهي ان موسكو ليست في وارد خوض مواجهات مع الغرب، لا في الشرق الاوسط ولا في اي مكان في العالم. كل ما تريده هو محاولة احياء شيء من هيبتها الدولية الخارجية السابقة، في سبيل تحسين اوضاعها الاقتصادية الداخلية .
بكلمات أوضح: روسيا تعاند اميركا وتناكدها لأنها تريد أن تتاجر وليس العكس. اي انها لا تتاجر كما كانت تفعل خلال عزّها السوفياتي لأنها تريد أن تناكد وتعاند. والسلاح هو السلعة الوحيدة التي تمتلكها لهذا النوع من الاتجار.
ويقول اوسكانا أنتوننكو، مدير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، انه بعد نهاية الحرب الباردة وانحلال الاتحاد السوفياتي، مر التعاون العسكري الروسي مع الدول الاقليمية الشرق أوسطية بمرحلة انتقالية مهمة ابتعدت عن مبادئ التعاون العسكري السوفياتي السابق.
فمن جهة، لم تعد روسيا في موقع يمكنها من تقديم هبات مالية كبيرة في شكل امدادات اسلحة، في مقابل نفوذ سياسي وهمي.أكثر من ذلك، لم يعد واضحاً في الآونة الاخيرة ما اذا كانت اعادة توكيد النفوذ السياسي في الشرق الاوسط من اولويات السياسة الخارجية والامنية الروسية.
ومن جهة أخرى، لم تعد روسيا مستعدة لممارسة ضبط النفس في ما يتعلق بمبيعات الاسلحة الى المنطقة، طالما ان الترتيبات المالية كانت مواتية للصناعات العسكرية الروسية التي باتت في العقد الاخير معتمدة في بقائها على صادرات السلاح.
وهكذا بات ينظر الى كل مبيعات الاسلحة من زاوية تجارية بحتة، وتنفذها غالباً شركات خاصة روسية. وهذا تجلى بوضوح في برنامج التعاون العسكري الروسي مع ايران الذي استمر برغم الانتقادات الاميركية الشديدة له.
القطاع الخاص
ولعل أهم سمة من سمات المساعدات العسكرية الخارجية الروسية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، هي أنها تنفذ بأيدي لاعبين روس من القطاع الخاص يعملون باستقلال عن الدولة الروسية، لا بل هم في بعض الحالات يخرقون السياسات الروسية المعلنة. وأبرز مؤشر على هذا التطور هو قيام الجامعات والمؤسسات الروسية الخاصة بتدريب العلماء الايرانيين الذين يعملون في مجال تكنولوجيا الصواريخ البالستية. وهناك ثمة احتمال ايضاً بأن يكون بعض العلماء الروس قد انتقلوا الى ايران والعراق في مقابل رواتب مغرية ومجزية.
ومعروف أنه منذ الخمسينات أوفد الاتحاد السوفياتي أكثر من 80 ألف مستشار عسكري الى الشرق الاوسط، ودرب نحو 55 ألف ضابط من دول شرق أوسطية عدة في أكاديمياته العسكرية. ووفقاً لمصادر روسية، لم يعد هناك الآن سوى 360 خبيراً عسكرياً روسياً يعملون رسمياً في الشرق الاوسط، و270 ضابطاً من المنطقة يتدربون في الكليات العسكرية الروسية.
فالدول الشرق أوسطية لم تعد مستعدة، كما في السابق، لقبول الاسلحة الروسية ما لم يشمل ذلك الخدمات والتدريبات العالية المستوى. وهي تراهن في ذلك على المنافسة في هذه السوق. وقد ادى هذا الى تراجع قوي لمبيعات الاسلحة الروسية.
يضاف الى ذلك ان تركيز روسيا الشديد على علاقاتها مع الولايات المتحدة واوروبا، وانسحابها المفاجئ من الشرق الاوسط، أفقدها صدقيتها في أوساط حلفائها السابقين، الذين عمدوا الى تنويع استراتيجياتهم الحربية ومشترياتهم من الاسلحة .
وهكذا فإن محاولات روسيا الأولية لاحياء التحالفات السوفياتية السابقة في الشرق الاوسط، جوبهت بشكوك عميقة في كل انحاء المنطقة. هذا اضافة الى ان العديد من الدول، بما في ذلك سورية واليمن وليبيا بعد رفع العقوبات عنها تسعى الى استخدام شراء السلاح للتقارب مع الغرب.
سياسات خارجية
موسكو، اذاً، فقدت منذ العام 1991 اهتمامها القومي بالمنطقة، وباتت سياساتها فيها تفتقد الى استراتيجية ذات أهداف محددة.
وكما يقول أيوجين رومر، وهو باحث اميركي في الشؤون الروسية، فإن معظم علاقات روسيا النشطة في المنطقة، خصوصاً مع ايران واسرائيل، هي الى حد بعيد نتيجة المصالح الايرانية والاسرائيلية في روسيا، بدلاً من ان تكون نتيجة المصالح الاستراتيجية الروسية في هذه الدول. بكلمات اخرى، مختلف السياسات التي انتهجتها روسيا، او تلك التي فرضت عليها، قد اطلقت اشارات متناقضة الى الشرق الاوسط حيال درجة اهتمام موسكو بها.
ويضيف انه يمكن القول بشكل عام ان روسيا تفتقد الاهتمام بالمنطقة. وهذا واضح في النقاشات الاستراتيجية الروسية، وكذلك في العلاقات الثنائية الروسية مع الدول الشرق اوسطية الرئيسة - السعودية، سورية ومصر.
طوال فترة التسعينات، كانت النقاشات الروسية حول السياسة الخارجية تعكس اهتماماً قليلاً بالشرق الاوسط، وتركيزاً على المصالح الروسية مع اوروبا والولايات المتحدة. وباستثناء التجارة المتعلقة بالاسلحة والتعاون النووي مع ايران، لم تحظ المنطقة سوى باهتمام تجاري ضئيل من جانب روسيا.
ان موقع روسيا في الشرق الاوسط هو حصيلة بيئة سياسية جديدة في موسكو، برزت على اثر الاصلاحات الاقتصادية والسياسية في السنوات الاولى من عهد يلتسين. وقد ادى صعود نجم "القبائل البيروقراطية" ورجال الاعمال في اوائل التسعينات الى جعل السياستين المحلية والخارجية الروسية تحت سطوتهم. وقد اثبتت الدولة الروسية الفتية انها غير قادرة على السيطرة على هذه المجموعات الصناعية والاقليمية والبيروقراطية القوية، الامر الذي ترك هذه الاخيرة حرة في انتهاج السياسات التي ترتأيها مناسبة لمصالحها، بغض النظر عن الصالح العام وعن المصالج القومية الروسية.
ونتيجة لذلك شهدت روسيا سياسات خارجية متعددة - في الشرق الاوسط وفي اماكن اخرى - انتهجتها شركات كبرى مثل "غازبروم"، وكيانات بيروقراطية مثل وكالة الطاقة النووية "ميناتوم"، وشركات أخرى لها مصالح خاصة في العالم. وهكذا كان في وسع "غازبروم" ان تنفذ مشاريع في ايران، بغض النظر عن العلاقات الروسية - الاميركية، فيما كان في وسع "ميناتوم" ان تعرض شتى اوجه التعاون مع ايران ودول أخرى، غير عابئة بالامن الروسي أو بالعلاقات مع واشنطن، او بمخاطر إنتشار اسلحة الدمار الشامل.
وهكذا كانت روسيا طوال فترة التسعينات تبدو لا مبالية بالشرق الاوسط، ما لم تكن هناك مصلحة ما للشركات الخاصة. وفي الاحوال النادرة التي تطورت بها علاقات نشطة، فإن هذا نجم عن اهتمام دولة ما بروسيا وليس العكس. وعلى سبيل المثال، سعت اسرائيل ونجحت في اقامة علاقات وثيقة مع روسيا، لأنه يوجد فيها أكبر تجمع للناطقين باللغة الروسية في العالم. والعراق، الذي كان يتطلع الى دعم موسكو لرفع العقوبات الدولية عنه، غازلها ايضا بتصميم ونجاح.
والواقع ان العلاقات الطيبة التي تقيمها موسكو مع اسرائيل والعراق في الوقت ذاته، هي دليل على النوعية العشوائية وقصيرة النظر للسياسة الروسية في الشرق الاوسط. وهذا بدوره يعكس غياب المصالح والاولويات الاستراتيجية في هذه المنطقة، ما يبقي روسيا لاعباً هامشياً في المستقبل المنظور. وهذا يعود الى اقتصادها الهش، وفقر سكانها وتناقصهم ، وتقلص قدراتها العسكرية. كل ذلك يؤكد ان روسيا لن تعود الى الشرق الاوسط قبل عقد من الآن على الاقل. ومع ذلك، فإن اختفاء روسيا من السياسات الشرق أوسطية لا يعني أنها لن تؤثر على شؤون المنطقة، خصوصاً في مجال الصواريخ والاسلحة النووية.
التعاون - التنافس
لقد أجبر الغرب طوال نصف قرن في القرن العشرين على أعادة تعريف سياسته الخارجية في مواجهة حليفه السابق في الحرب العالمية الثانية: الاتحاد السوفياتي. وهكذا خرج ونستون تشرشل بشعار "الجدار الحديدي"، وصّكت واشنطن تعبير "سياسة الاحتواء".
وبعد عقد من الهيمنة الاميركية العالمية على اثر نهاية الحرب الباردة، قادت خلاله الولايات المتحدة النظام العالمي الجديد بطريقة تشبه طريقة الامبريالية السوفياتية السابقة على حد تعبير المحلل الاميركي روبرت مور، بدأت ملامح سياسة خارجية روسية جديدة تتضح بقيادة فلاديمير بوتين. وهذه الملامح تحمل شعارات الحرب الباردة نفسها: أي الجدار الحديدي والاحتواء ولكن بشكل معكوس هذه المرة: فروسيا هي التي تستخدمها الآن وليس اميركا.
لكن هذا لا يعني البتة ان روسيا قررت العودة الى الحرب الباردة. فلا هي قادرة اقتصاديا على ذلك، كما اشرنا في البداية، وليس في الوارد أن تصل الى حد المجابهة الشاملة مع الولايات المتحدة.
الاستراتيجية الجديدة التي يطبقها بوتين الآن ، بدلاً من ذلك، هي مزيج من التنافس والتعاون مع الولايات المتحدة.وهو دشنها بزيارة كوبا،اكثر المواقع السوفياتية السابقة قرباً من الشواطئ الاميركية، ليعلن من هناك انه لا ينوي احياء التحالف الروسي - الكوبي ضد الولايات المتحدة، لكنه لا ينوي ايضاً التخلي عن النفوذ الروسي وعن اصدقاء موسكو.
وقد طبق بوتين النهج ذاته في اوروبا. فهو دعم المشروع الاوروبي لاقامة قوة عسكرية أوروبية مستقلة، وحّرك في الوقت ذاته الصواريخ النووية التكتيكية الروسية الى مدينة كالينغراد المطلة على بحر البلطيق كتحذير من مغبة توسيع الحلف الاطلسي.
وفي الشرق الاوسط، قام بوتين بنسف اتفاق غور - تشيرنوميردين الذي وقعّ العام 1995 وتضمن تعهداً من روسيا بعدم بيع ايران اسلحة متطورة، في مقابل حصولها على مساعدات مالية وتكنولوجية اميركية، لكنه في الوقت ذاته تعهد بالعمل لوقف انتشار اسلحة الدمار الشامل في الشرق الاوسط.
أخيراً، وفي أواخر العام الماضي قامت روسيا بعرض عضلاتها العسكرية خلال قمة "آبيك"، فأرسلت طائرات "سوخوي" لتحلق بشكل غير مرئي على شاشات الرادار فوق حاملة الطائرات الاميركية "كيتي هوك"، مؤكدة بذلك الانباء عن امتلاكها تكنولوجيا "الطائرات الخفية" ستيلث. وفي الوقت ذاته، بثت موسكو اشارات الى واشنطن بأنها مستعدة للوصول الى حل وسط معها بشأن برنامجها للدفاع ضد الصواريخ.
تحدي أميركا
هل تنجح سياسة التعاون - التنافس الروسية هذه في تحقيق أهدافها؟.
يبدو ذلك ممكناً، حتى الآن على الاقل. فروسيا توسع نفوذها على حساب اميركا أو بالاحرى توسع تحديها للزعامة الاميركية في العالم من دون أن توفر لهذه الاخيرة فرصة شن مواجهة شاملة معها.
لكن حبل مثل هذه السياسة قد لا يكون طويلاً. اذ في لحظة ما قد تقرر واشنطن بأنها لم تعد تتحمل "تذاكي" بوتين عليها. وحينها ربما تفتح أبواب جهنم عليه: بدءا من جرّه الى سباق تسلح كارثي بالنسبة له عبر "حرب النجوم"، مروراً بإغراقه في حروب جديدة في اراضي الاتحاد السوفياتي السابق، خصوصاً الحوض الاسلامي الجنوبي الذي يضم 450 مليون نسمة، وانتهاء بالطبع بقطع روابطه مع حبال الحياة المالية الدولية.
واذا ما حدث هذا، سيجد بوتين نفسه مجبراً على التراجع عن جبهات السياسة الخارجية لمعالجة ازمات روسيا الداخلية مجدداً.
ومع ذلك، تستحق سياسة بوتين المغامرة.
لماذا؟
لأن روسيا قد تجد قريباً الكثير من الحلفاء في العالم في لعبة المواجهة مع واشنطن، اذا ما واصلت هذه الاخيرة نهجها الراهن في استعداء الجميع ضدها.
ونحن هنا لا نتحدث عن الصين فحسب، بل ايضاً عن اوروبا التي بدأت تشعر بأنها تسير في علاقاتها مع الادارة الجمهورية الاميركية الجديدة نحو خطوط تماس على مختلف الأصعدة.
وهنا ربما لم يكن المبعوث العراقي محمد الدوري مخطئاً كثيراً. فالسياسات بعد نهاية الحرب الباردة لم تعد مرتبطة لا بالاخلاق ولا بالطبع بالايديولوجيات. المصالح النقية باتت لها الآن اليد العليا.
وبوتين لا يفعل شيئاً الآن سوى الرقص وان بجرأة افتقدها يلتسين على ايقاع هذه المصالح


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.