"آيفون 15 برو ماكس" يحتل صدارة الأكثر مبيعاً    الهلال يحسم الكلاسيكو على حساب الأهلي    مالكوم: حققنا فوزاً ثميناً.. وجمهور الهلال "مُلهم"    260 موهبة بنهائي فيرست 2024 للروبوت    وزير الدفاع يرعى تخريج طلبة الدفاع الجوي    العُلا تنعش سوق السفر العربي بشراكات وإعلانات    ولي العهد يعزي رئيس الامارات بوفاة الشيخ طحنون    حظر ممارسة النقل البري الدولي بدون بطاقة التشغيل    وصول أول رحلة للخطوط الصينية إلى الرياض    تدشين مسار نقدي خاص بتجربة البدر الثقافية    «ستاندرد آند بورز»: الاقتصاد السعودي سينمو 5 % في 2025    «الدون» في صدارة الهدافين    استقبل أمين عام مجلس جازان.. أمير تبوك: المرأة السعودية شاركت في دفع عجلة التنمية    لصان يسرقان مجوهرات امرأة بالتنويم المغناطيسي    فهد بن سلطان يقلّد مدير الجوازات بالمنطقة رتبته الجديدة    المملكة وتوحيد الصف العربي    عقوبات مالية على منشآت بقطاع المياه    مؤتمر لمجمع الملك سلمان في كوريا حول «العربية وآدابها»    «أحلام العصر».. في مهرجان أفلام السعودية    هل تتلاشى فعالية لقاح الحصبة ؟    اختبار يجعل اكتشاف السرطان عملية سريعة وسهلة    وزير الحرس الوطني يستقبل قائد القطاع الأوسط بالوزارة    الهلال يتغلب على الأهلي والاتحاد يتجاوز الابتسام    أبو طالب تقتحم قائمة أفضل عشر لاعبات    قبضة الخليج تسقط الأهلي    فريق القادسية يصعد "دوري روشن"    القيادة تعزي البرهان في وفاة ابنه    أخضر تحت 19 يقيم معسكراً إعدادياً    ريادة إنسانية    افتتح المؤتمر الدولي للتدريب القضائي.. الصمعاني: ولي العهد يقود التطور التشريعي لترسيخ العدالة والشفافية    وزير العدل يفتتح المؤتمر الدولي للتدريب القضائي في الرياض    قصف إسرائيلي مكثف على رفح    أبو الغيط يحذّر من «نوايا إسرائيل السيئة» تجاه قطاع غزة    استمرار الإنفاق الحكومي    فيصل بن بندر يدشّن سبعة مشاريع لتصريف مياه السيول والأمطار في الرياض    اختتام "ميدياثون الحج والعمرة" وتكريم المشروعات الفائزة والجهات الشريكة    فنون العمارة تحتفي بيوم التصميم العالمي    الميزان    أنسنة المدن    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة من الهلال    اكتشاف الرابط بين النظام الغذائي والسرطان    إنفاذًا لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد.. وصول التوأم السيامي الفلبيني «أكيزا وعائشة» إلى الرياض    بكتيريا التهابات الفم تنتقل عبر الدم .. إستشاري: أمراض اللثة بوابة للإصابة بالروماتويد    جواز السفر.. المدة وعدد الصفحات !    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة ال21 من طلبة كلية الملك عبدالله للدفاع الجوي    الحرب على غزة.. محدودية الاحتواء واحتمالات الاتساع    الهواية.. «جودة» حياة    أكذوبة «الزمن الجميل» و«جيل الطيبين»..!    مناورات نووية روسية رداً على «تهديدات» غربية    الشورى: سلامة البيانات الشخصية تتطلب إجراءات صارمة    اجتماع سعودي-بريطاني يبحث "دور الدبلوماسية الإنسانية في تقديم المساعدات"    أمير منطقة تبوك يستقبل أمين مجلس منطقة جازان ويشيد بدور المرأة في دفع عجلة التنمية    خطط وبرامج لتطوير المساجد في الشرقية    وحدة الأمن الفكري بالرئاسة العامة لهيئة "الأمر بالمعروف" تنفذ لقاءً علمياً    هيئة الأمر بالمعروف بنجران تفعّل حملة "الدين يسر" التوعوية    في نقد التدين والمتدين: التدين الحقيقي    القبض على مروج إمفيتامين مخدر    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اعترافات أبو داوود : قصة ايلول الاسود وعملية ميونخ
نشر في الحياة يوم 17 - 05 - 1999

في النصف الأول من السبعينات خاطب أبو حسن سلامة رفيقه محمد داوود عودة أبو داوود قائلاً: ".. عملية ميونيخ تاريخية. ففي كل مرة يدور الحديث عن الالعاب الأوليمبية ستذكر هذه العملية. لقد دخلت التاريخ". وكان ابو حسن، الذي قتل بسبب هذه العملية في تفجير سيارة مفخخة اعترضت موكبه في العام 1979 في بيروت، يُعبِّر عن نوع من الحسد "الثوري" إن جاز التعبير، لأنه لم يكن مدبراً ومشتركاً في هذه العملية التي قادها أبو داوود.
لم يكن أبو حسن سلامة معروفاً بحسه التاريخي على الدوام، فهو تزوّج من اللبنانية جورجينا رزق ملكة جمال الكون السابقة، ليحتل معها مكاناً ما في التاريخ، غير ان تقديره لعملية ميونيخ 1972 كان صائباً، فمنذ العام المذكور وفي كل مرة تُفتح الألعاب الأوليمبية يستعاد شريط احداث دورة ميونيخ، ويُشاهدُ العالم موجزاً لتفاصيل تلك العملية التي أدت الى مقتل 10 رياضيين اسرائيليين واستشهاد خمسة فلسطينيين من اصل ثمانية فدائيين حملهم أبو داوود على كتفيه طوله حوالي 200 سم، الواحد تلو الآخر، ليجتازوا جدار المدينة الأوليمبية المرتفع، وليحتلوا مقرّ البعثة الرياضية الاسرائيلية.
وبعد مضي اكثر من ربع قرن على العملية، ما زالت "ميونيخ" تتيح ل"أبو داوود" الفرصة للحضور في التاريخ، بخلاف عدد من قادة الثورة الفلسطينية الذين غابوا او ما زالوا يعيشون خلف الأضواء، راضين أو مكرهين.
وآخر الفرص المتاحة للقائد الفلسطيني المذكور تكمن في اغتنامه عملية "ميونيخ" ليكتب التاريخ بعد ان صنعه. ففي مؤلف ضخم 741 صفحة من القطع الكبير اصدرته في ايار مايو الجاري دار النشر الفرنسية Anne Carrie're، تحوّل "ابو داوود" راويةً لتاريخ الثورة الفلسطينية منذ مطلع القرن حتى العام 1972، بالتعاون مع الصحافي الفرنسي جيل دوجونشاي الذي وقّع معه كتاب "فلسطين من القدس الى ميونيخ" وفيه يسرد المسؤول الفلسطيني بطريقة مدهشة وغير منتظرة، سيرة حياته المتداخلة مع سيرة شعبه والمشرق العربي وصولاً الى العملية المذكورة.
"وُلدتُ في سلوان القدس في 19 ايار 1937"، يقول أبو داوود، "وكان جيراننا من اليهود اليمنيين الذين استقروا في القدس في منتصف القرن الثامن عشر. كنا نعيش معاً دون عقبات الى درجة ان والدتي كانت تتركني احياناً عند جارتنا اليهودية التي ارضعتني. وأذكر ان والدي وعائلتي أصيبوا بالذهول عندما قرر جيراننا الانتقال الى تل أبيب وقد زرتهم من بعد مع أبي في مسكنهم الجديد". في هذه الأجواء نشأ محمد داوود عودة قبل ان تدركه "النكبة" فتى يافعاً ليضطر للدفاع عن القدس مع أعمامه ووالده الذي أصيب بجروح بالغة. ومن احدى تلال المدينة كان يقف ممسكاً ببندقية العائلة القديمة يشاهد بأسى دمار وتهجير الحي اليهودي فيها وهو حادث طبع ذاكرته المدججة بمشاهدات وروايات عن مقتل الفلسطينيين، في القرى والأحياء المجاورة على يد عصابات الهاغانا والأرغون وتهجيرهم من أراضيهم.
في 1948 تمكن أبو داوود من الدفاع عن القدس وبقي في سلوان. وفيها سجل انطباعاته الأولى عن دور البريطانيين والصهاينة والجيوش العربية والقادة الفلسطينيين الحاج أمين الحسيني وعبدالقادر الحسيني وعز الدين القسام والملك عبدالله الأول والأحزاب والتيارات السياسية الفلسطينية، والقرارات الدولية التي قضت بتقسيم وطنه، والمهاجرين الأوائل، والمجازر التي شملت اماكن سكنهم، ولحظات اعلان قيام دولة اسرائيل. ويعود للتدقيق لفهم الأحداث والأشخاص طوال السنوات اللاحقة، وسيرى الهزيمة في عيون أهله وسكان قريته ولن ينسى ذلك ابداً "… حقيقة المأساة التي كنا نغرق فيها ظهرت لي ذات مساء في نوفمبر 1947 في منزلنا. تجمع أناس اكثر من المعتاد. وأعمامي ايضاً كانوا بين الحاضرين. والجميع ترتسم على وجوههم علامات القلق، ويسترقون السمع لكل كلمة تصدر من المذياع المتحلقين حوله".
الطريق الى فتح
.. ضاعت فلسطين لكن أبو داوود سيظلّ في سلوان مع أهله وسينهمك في البحث عن افضل السبل لتقصير فترة دراسته لمساعدة عائلته، فوالده الذي كان موظفاً في القدس قبل تقسيمها كان يحتفظ بأرض خاصة وأبقار ودواجن وكان يوفّر حياة سعيدة للأسرة، غير ان ظروف المدينة اختلفت تماماً بعد انقسامها ولم يعد بوسعه ان يحافظ على مستوى الحياة نفسه، وستتراجع مداخيله سنة بعد اخرى الى ان استطاع ابنه الحصول على دبلوم التدريس، وبرع في الفيزياء والرياضيات ثم توجه الى العراق كاتباً في شركة للبناء، ثم عاد الى الضفة الغربية ليعمل مدرساً. وأثناء عمله في التدريس تزوج فتاة التقاها مع ذويها في الباص بين أريحا والقدس، وعاش في منزل اهله الكبير في سلوان، فهو وحيد العائلة وليس له سوى شقيقة واحدة ستتزوج لاحقاً من احد الفلسطينيين في الكويت.
في حقل التدريس يتعرف أبو داوود على منير شفيق الشيوعي الأردني الفلسطيني، الذي اعتقل في 1957، ولن يخرج من السجن إلا بعد هزيمة العام 1967. وسيلتحق بعد خروجه بحركة فتح مبقياً على صلة بمحمد داوود عودة الذي كان يلتهم الكتب التهاماً ويحتك بالتيارات السياسية المنتشرة آنذاك: الاخوان المسلمين والبعث وحركة القوميين العرب والحزب الشيوعي، وسيكون بعيداً عن مجمل تلك التيارات وأقرب الى حزب التحرير الاسلامي من دون الالتحاق به. وسيؤكد انه مهتم حصراً باستعادة فلسطين.
في الخمسينات ومطلع الستينات سيكون أبو داوود شاهداً على وقائع سنوات الغليان من غزو السويس 1956، وقبله اغتيال الملك عبدالله وإزاحة الملك طلال عن الحكم. ثم الانفراج الديموقراطي في الأردن والوحدة السورية - المصرية، والثورة العراقية 1958 وسيطرة البعث على السلطة في سورية… الخ. وسيكون كغيره من الشبان الفلسطينيين منخرطاً في اجواء التصعيد التي رافقت هذه الأحداث وانطوت على آمال بتحرير فلسطين، غير ان هذه الآمال سرعان ما كانت تنحسر وتخلي المكان لاحباطات تتراكم تدريجياً الى ان عبّرت عن نفسها بوضوح للمرة الأولى في 1965 بالاعلان عن انشاء حركة فتح، غير ان محمد عودة لن يظهر الى الصفوف الأمامية في الحركة الا بعد هزيمة حزيران يونيو 1967.
في 1960 كان أبو داوود يُدرّس الفيزياء والرياضيات والتاريخ في أريحا في الضفة الغربية عندما حطت بعثة تربوية سعودية بحثاً عن مدرسين، لاستكمال النقص في مدارس المملكة العربية السعودية. وسيطير بعد شهور الى الرياض وفيها سيعمل مدرساً بأجر مرتفع بالقياس الى اجره الأردني. وسيتعرف في وزارة التربية السعودية على احمد القدوة ابن عم الرئيس ياسر عرفات وسينتمي من خلاله الى "فتح" في 1967، لكن علاقته بالمنظمة انحصرت بالقدوة. وفي الرياض تعرف الى عدد من قادة "فتح" الذين سيشتهرون لاحقاً، ومنهم صبري البنا أبو نضال وعلي حسن سلامة أبو حسن. وسيواظب خلال هذه الفترة على قراءة مجلة "فلسطيننا" الناطقة باسم "فتح" وكانت تصدر في بيروت. ولن يكتشف "فتح" فعلاً إلا بعد مغادرته المملكة في 1964 اذ نصحه القدوة بأن يتوجه الى الجزائر للتدريس فيها، غير ان فرصته في الحصول على وظيفة مُدرّس لم تكن مضمونة ففضل العودة الى الضفة الغربية ومنها تلقى فرصة للعمل في الكويت حيث التقى هناك "ابو إياد" بواسطة أبو حسن سلامة وكان ذلك لقاؤه الأول مع احد القادة المؤسسين للمنظمة، وهو يصفهم بأن غالبيتهم الساحقة من قطاع غزة او ممن ناضلوا في القطاع في حين ينتمي اثنان منهم الى الضفة الغربية.
الهزيمة
فوجئ أبو داوود بهزيمة 1967 عندما كان يؤدي امتحانات السنة الأخيرة في كلية الحقوق في دمشق، وخدع كغيره من العرب ببيانات النصر، لذا قرر التوجه الى الضفة الغربية ومنها الى سلوان في القدس الا ان الهزيمة ستتضح امام ناظريه على الطريق البري بين سورية والأردن. ولكن عند مدخل القرية قيل له ان اهله غادروا بالأمس الى منزل صديق لهم في عمان، فتوجه الى العاصمة الأردنية مشياً على الأقدام وصعد مع آخرين في شاحنة حتى وصل الى جسر اللنبي وما ان قطع الجسر حتى شاهد بأم العين طائرة حربية اسرائيلية تقصف الجسر وتتطاير أجساد العابرين في الجو وترتمي الجثث في النهر.
في العام 1967 التقى أبو داوود بعد طول انتظار ب"أبو اياد" الذي طلب منه التوجه الى عمان مع ابو حسن سلامة ومنها ينتقل لاحقاً 1968 الى مصر ليتدرب مع ثمانية آخرين، بينهم ابو حسن، على اعمال الرصد والمخابرات لمدة شهرين وذلك بعد ان خاض الفدائيون معركة حاسمة مع القوات الاسرائيلية في مدينة الكرامة. ويروي "ابو داوود" ان الجنرال الأردني مشهور حديثة لعب دوراً أساسياً في هذه المعركة عندما اصدر اوامر للمدفعية الملكية بقصف الحشود الآلية الاسرائيلية المتقدمة لمحاصرة وتصفية قواعد "فتح" المتمركزة مع القيادات في هذه المدينة. ولم يعد "حديثة" الى رؤسائه لسؤالهم وطلب أوامرهم، فكانت مشاركته شديدة الأهمية في تحقيق انتصار كبير على الاسرائيليين هو الأول من نوعه بعد هزيمة 1967، اذ فقد الاسرائيليون في هذه المعركة 45 دبابة، "ثماني منها كانت صالحة للاستعمال". وخسروا اكثر من 200 جندي. ويجزم ان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين سحبت مقاتليها قبل الهجوم الاسرائيلي، في حين اصرت "فتح" على المواجهة، وبالتالي خوض النار الكبيرة الأولى وإظهار قدرتها على تحدي الجيش الاسرائيلي ولو كان الثمن البشري مرتفعاً، وهو ما حصل فعلياً.
والواقع ان معركة الكرامة حققت للفدائيين الأغراض التي كانوا يسعون الى تحقيقها، فتدفقت عليهم حشود المتطوعين، الأمر الذي كان يستدعي ايلاء اهمية خاصة للرصد وبالتالي مكافحة التجسس الاسرائيلي. من جهة ثانية كان هاني الحسن وهو من قادة "فتح" الأوائل، ارسل مئات المتطوعين الى الضفة الغربية، غير ان السلطات الاسرائيلية تمكنت من القبض على كثيرين حوالي ألف خلال فترة قصيرة واعتقل بعضهم من دون ان يتمكن من اطلاق رصاصة واحدة، الأمر الذي استدعى ايضاً ايلاء عناية بالمسائل الأمنية، وهو ما حمل "ابو أياد" على تنظيم دورة الرصد المذكورة في مصر التي استمرت شهرين. وبعد التخريج توجهت المجموعة الى القصر الرئاسي فاستقبل الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر اعضاءها .
كلف ابو داوود بزيارة شمال الاردن لاقامة اتصالات مع المسؤولين العسكريين. سيعود من هناك ليلتقي للمرة الاولى بياسر عرفات. ومنذ اللقاء الاول ساءت العلاقات بين الرجلين وبقيت على هذه الحال باردة عموماً ومتوترة احياناً حتى الآن. وفي ذلك اللقاء اتهمه ابو عمار بخلق مشاكل في قواعد الفدائيين وبعدم الاتصال به قبل القيام بجولته وينفعل غاضباً بوجهه. ساعتئذ رد ابو داوود "… اذا كنت واثقاً من انني خلقت مشاكل في الشمال، حدد لي هذه المشاكل. ثم ماذا تظن نفسك لتغضب بهذه الطريقة. انا لم التحق بالثورة الفلسطينية لأمجد كل ما تقول. لدي مسؤولياتي الخاصة هنا ولي شخصيتي. اما اذا كنت تعتبر ان الثورة ملكية خاصة بك وحدك. فهذه بدلتي العسكرية اردها لك. ثم خلعت سترتي والقيتها على مكتبه".
تدخل ابو اياد مخاطباً عرفات: "هذا الرجل اعرفه جيداً فهو لا يخشى ان يقول ما يفكر به ولا تعتقد بأنك يمكن ان تؤثر عليه كما تفعل مع المحيطين بك". فرد: خذه الآن سنبحث الموضوع لاحقاً. "… فأخذ ابو اياد سترتي وغادرنا المكتب".
ويستخلص ابو داوود ان قائده كان يود ابعاده الى الجزائر كي ينفرد ابو حسن سلامة بمركز "الرصد" وهو ما حصل من بعد اذ نقل محمد عودة من المركز المذكور الى قيادة الميليشيا الشعبية في الاردن.
ولا يتورع ابو داوود عن اتهام ابو عمار ضمناً بوضع العصي في دواليب التنظيم الذي انشأه في المخيمات الفلسطينية في عمان، وضم حوالى 12 الفاً من رجال الميليشيا وكان يمكن ان يصل الى 20 الفاً لو توفرت الاسلحة والامكانات المالية. ولاختراق حاجز الاسلحة اتصل ابو داوود بالصينيين عبر سفيرهم في دمشق للحصول على رشاشات كلاشنكوف. ويعد المسؤولون في بكين بارسالها الى البصرة في العراق ويتولى ابو نضال ممثل "فتح" في العراق حينذاك ارسالها الى الاردن، غير ان الصفقة لم تتم في الوقت الملائم قبل او خلال معارك ايلول سبتمبر 1970 بين الفدائيين والقوات الملكية الاردنية.
ويشير ايضاً الى فشل "المرصد" الذي يديره ابو حسن سلامة في استطلاع تحركات الجيش الاردني وفي مكافحة التجسس الاسرائيلي، غير ان علاقة الرجل بأبي عمار كانت تمثل حصانة تعيق كل محاولات اصلاح هذا الجهاز. ويفسّر ذلك من خلال اشارة عابرة يكشف فيها عن قناة فتحها "ابو حسن" مع الاستخبارات الاميركية ادت الى حماية السفارة الاميركية في بيروت العام 1976 خلال الحرب الاهلية، واشراف سلامة شخصياً على حماية انتقال الرعايا الاميركيين من الشاطئ اللبناني الى الاسطول الاميركي السادس في عرض البحر.
في مقابل ذلك، يشكو ابو داوود: "كان رجالي يدافعون عن الثورة في المخيمات برشاشات مصرية طراز بورسعيد تمثل نسخة محلية من رشاش كارلوغوستاف السويدي القديم الصنع" وليس هذا المثال مثيراً للدهشة لمن عرفوا تجربة "فتح" التي كانت تقوم على انبثاق مراكز قوى تستوعبها صيغة تنظيمية مرنة تتيح لكل مركز ان ينمو ويتقدم وفق قنوات معينة متصلة بدول عربية واجنبية وشبكة علاقات خاصة. ولعل ابو داوود يدرك انه لم يكن خارج هذه الصيغة وان موقعه في "فتح" كان مشدوداً بقوة الى ابو اياد الذي "كان يدعم عرفات اذا ما ضعف ويقضم من سلطته عندما يقوى". واذا كانت هذه الصيغة قد نجحت تماماً في جذب الحساسيات الاجتماعية والسياسية المختلفة الى "فتح" ثم الى منظمة التحرير الفلسطينية، فانها برهنت على اداء ركيك في المواجهات الحاسمة والطويلة الامد كما تبين خلال مواجهات عمان 1970 وجرش وعجلون 1971 وفي مواجهات لاحقة يعد ابو داوود التعرض لها بالتفصيل في كتاب ثان.
عرفات ... والقذافي
يروي ابو داوود تفاصيل الصراع الاهلي بين الفلسطينيين والاردنيين 1970 و1971، اذ كان مسؤولاً عن الميلشيات الشعبية الفلسطينية الموحدة في المخيمات، وكان يتمركز في مخيم "الوحدات" الشهير، يعاونه ناجي علوش وآخرون من قادة التنظيمات الفدائية المختلفة.
ويؤكد ابو داوود ان المقاومة الفلسطينية وفتح بصورة خاصة لم تكن راغبة في خوض مواجهات دموية مع السلطة الاردنية وذلك بخلاف الجبهة الديموقراطية "التي لولا فتح لما تمكنت من البقاء" والجبهة الشعبية اللتين كانتا تدعوان الى اسقاط النظام الاردني.
وفي هذه الاجواء المليئة بالاحباطات وفي ظل صعوبات العمل المسلح في جنوب لبنان 1971 - 1972، وإثر انحسار العمل المسلح في سورية، دار حديث عن انشاء منظمة غير مرتبطة بمنظمة التحرير الفلسطينية علناً تقوم بعمليات خارج لبنان وتستهدف الاسرائيليين في اوروبا والعالم، خصوصاً ان عمليات خطف الطائرات التي كان ينفذها وديع حداد كانت تجد صدى ايجابياً في صفوف المحبطين. الا ان "فتح" لم ترغب في اعتماد هذا الاسلوب وفضلت ضرب الاسرائيليين مباشرة وفي اهداف موجعة. وناقش ابو اياد هذه الفكرة مع ابو داوود وتم الاتفاق على التحضير لها وحل مشاكل التمويل بوسائل من خارج مال المنظمة، واستطاع محمد عودة ان ينظم لهذه الغاية معسكراً خاصاً في جنوب لبنان وتشاء الصدف ان تكون اول عملية عسكرية مدوية لأيلول الاسود في القاهرة حيث اغتال 4 شبان فلسطينيون رئيس الوزراء الاردني وصفي التل الذي تزعم في 1970 و1971 عمليات المواجهة مع الفدائيين في الاردن. وكانت لهذه العملية الانتقامية اصداء ايجابية في صفوف الفلسطينيين. وقال ابو داوود ان ابو يوسف النجار لم يكن بعيداً عن هذه العملية وكذلك ابو اياد.
ومع النجاح الذي حققته "ايلول الاسود" بدأت اطراف اخرى في حركة فتح تستخدم هذا الاسم لتنفيذ عمليات خارجية ومن ضمن هذه الاطراف ابو حسن سلامة "… الذي فشل في استعادة منصبه في المجلس الثوري لحركة فتح في الانتخابات الداخلية" فشكل "قوة الپ17" الشهيرة، وارسل رجاله الذين فجروا باسم ايلول الاسود تجمعاً نفطياً في تريستا في ايطاليا.
وعندما لمع اسم "ايلول الاسود" لاحظ قادة الثورة تدفق الطلاب الفلسطينيين في الخارج الى بيروت للسؤال عن هذه المنظمة وطلب الانضمام اليها. ولم يستبعد ابو اياد ان يكون قسم كبير منهم قد اتخذ هذه المبادرة بناء على طلب من "الموساد" الاسرائيلي لذا خطط لزرع عملاء مزدوجين ولكشف عناصر الموساد في اوروبا الذين يرسلون الطلاب الفلسطينيين الى بيروت تمهيداً للتعرف الى هذه العناصر وتصفيتها من بعد.
لكن العملية الاهم التي ارتبطت بأيلول الاسود تظل، بلا منازع، عملية ميونيخ. ويؤكد ابو داوود ان الدافع المباشر الى القيام بهذه العملية يكمن في ان منظمي الالعاب الاولمبية رفضوا قبول فلسطين عضواً فيها على رغم الطلبات المتكررة وعلى رغم ان الهيئة الاولمبية غير حكومية. وكانت قد رفضت مشاركة روديسيا في هذه الالعاب بسبب سياسة التمييز العنصري ضد السود، غير انها لم تعبأ بسياسة التمييز الاسرائيلية. واعتبر ابو داوود وابو اياد ان الرياضيين الاسرائيليين المشاركين في ميونيخ معظمهم من الذين يؤدون خدمتهم العسكرية 3 سنوات او جنود الاحتياط وبعضهم شارك في حرب 1967 ما يبرر استهدافهم كعسكريين وليس كرياضيين مدنيين فحسب. ثم ان العملية العسكرية من شأنها ان تلفت انظار العالم بأسره الى الفلسطينيين وتثبت انهم ما زالوا قادرين على اتخاذ المبادرات الناجحة وان احداث ايلول المذكورة لم تضعف قدرتهم على ضرب اسرائيل ضربات موجعة.
ويكشف ابو داوود للمرة الأولى ان القيادة الفلسطينية، خصوصاً محمود عباس ابو مازن كان على علم بهذه العملية فهو كان مسؤولاً عن مالية المنظمة وهو الذي موّل العملية، وان عرفات كان على علم بها وباركها في حينه. ولتوفير شروط النجاح الكامل لهذه العملية انتقل ابو داوود بنفسه الى ميونيخ واستكشف المدينة الرياضية التي ستجري فيها الألعاب عندما كانت قيد الانشاء، ثم زار برفقة فتاة فلسطينية تجيد الالمانية اماكن اقامة الوفود وقدم نفسه لأحد الحراس بوصفه برازيلياً ثم عاد في اليوم التالي برفقة قائدي العملية ودخل مقر البعثة الاسرائيلية عبر احدى السكرتيرات الاسرائيليات بذريعة انه برازيلي وانه ورفيقيه يودون زيارة اسرائيل للسياحة وطلبوا اعلاماً اسرائيلية ومنشورات ووثائق سياحية وتعرفوا عن كثب على توزيع الطرق والمداخل والقاعات في مقرّ البعثة.
وعشية تنفيذ العملية جاء ابو اياد بالاسلحة وكانت ترافقه سيدة اجنبية ورجل فلسطيني وعندما طلب منه رجال الأمن في المطار فتح الحقائب، اخذ يلقي امام الحارس الثياب الداخلية النسائية الامر الذي حمله على صرف النظر عن مواصلة التفتيش وبالتالي السماح لأبو اياد ومرافقيه بالذهاب. ثم جاءت قبل يوم من تنفيذ العملية المجموعة المكلفة بذلك والمدربة لهذه الغاية وتضم 6 اشخاص يحملون جوازات مزورة فأصبح عدد رجال الكوماندوز ثمانية اشخاص، التقى بهم ابو داوود قبل ارسالهم الى المدينة الرياضية وشرح لهم اهداف العملية وطريقة التنفيذ. وفي الموعد المحدد التقوا جميعاً على مقربة من سور المدينة الكبير، وهم يرتدون ملابس رياضية، وفجأة جاء الى المكان رياضيون اميركيون كانوا يقضون السهرة خارجاً وأرادوا تسلق السور فساعدهم ابو داوود وواحد منهم ساعد رجال الكوماندوز الفلسطيني على تسلق السور والنزول الى حرم المدينة وفي ظنهم ان الفلسطينيين رياضيون كانوا يقضون السهرة في الخارج مثلهم تماماً.
وعندما تأكد ابو داوود من دخول الكوماندوز قاعة البعثة الاسرائيلية عاد الى الفندق وأخذ يتابع نشرات الاخبار الى ان علم بالتفاصيل وغادر المانيا الى تونس حيث التقى أبو اياد ومساعده فخري العمري. وفي تونس اكتشف ان العمري زود احد رجال الكوماندوز برقم هاتف سفير أردني سابق مقيم في تونس، فاتصل الفدائي بالرقم المذكور لكنه لم يجد العمري فوعد بالاتصال بعد ساعة، الأمر الذي حمل المخابرات الألمانية على الظن ان قادة العملية موجودون في تونس فاتصلوا بالرئيس الحبيب بورقيبة الذي سأل مخابراته عن القادة الفلسطينيين الموجودين في البلاد، وهكذا طلب من ابو اياد ومرافقيه مغادرة تونس فتوجهوا الى ليبيا حيث اطلعوا العقيد معمر القذافي على التفاصيل وكشفوا امر العملية لعدد من الصحافيين العرب في العاصمة الليبية.
انتهت عملية ميونيخ بقتل الرياضيين الاسرائيليين المحتجزين جميعاً، اثنان قتلهما رجال الكوماندوز قبل الذهاب الى المطار، وقتل الثمانية الآخرون خلال المواجهة بين الشرطة الألمانية ورجال الكوماندوز في المطار حيث كان من المقرر ان ينتقل الخاطفون مع رهائنهم في طائرتي نقل الى القاهرة لمبادلة الرهائن الاسرائيليين بسجناء فلسطينيين في اسرائيل. اما الجانب الفلسطيني فقد تكبد خمسة شهداء ونجا ثلاثة من مقاتليه.
كانت عملية ميونيخ بنظر أبو داوود، كمعركة "الكرامة"، اذ تلاها صعود في اسهم المقاومة والتفاف شعبي واسع لكنها بالمقابل شكلت منعطفاً في تصفية الحسابات الفلسطينية - الاسرائيلية في كل مكان ومنذ ذلك الحين بدأ الموساد الاسرائيلي بتنفيذ سلسلة من عمليات الاغتيال التي شملت ممثلين فلسطينيين في أوروبا وقادة في بيروت، منهم ابو يوسف النجار وأبو حسن سلامة وكمال ناصر وكمال عدوان بدعوى مفاده ان الشخصيات المستهدفة مسؤولة عن "ايلول الأسود" وعن عملية ميونيخ.
ولايضاح الوقائع يذكر ابو داوود ان "ابو حسن سلامة" كان يوحي يميناً ويساراً انه مسؤول عن ميونيخ مستفيداً من احجام ابو اياد عن تبنيها ويرجح ان يكون اغتياله ناجماً ليس عن "ميونيخ" وانما عن انزعاج "الموساد" من علاقاته بالسي.آي.اي ويفسّر اغتيال عاطف بسيسو في باريس عام 1991 بالسبب نفسه ويعتبر ان كل الذين اغتالتهم اسرائيل لم يكونوا على صلة مباشرة بعملية ميونيخ وان الموساد كان يعرف ذلك بدليل ان ارييل شارون ذكر لموسيقي يهودي عالمي كان على صلة بأبو اياد تفاصيل عن دور صلاح خلف في هذه العملية في العام 1986 عندما كان الموسيقي المذكور يسعى لترتيب لقاء بالطرفين في باريس. والدليل الآخر الذي يسوقه ابو داوود يتصل بمحاولة لاغتياله جرت في بولندا حيث اصابه احد رجال ابو نضال بخمس رصاصات نجا منها وتبين انه عميل اسرائيلي غرسه الموساد في مجموعة ابو نضال وطلب منه اغتيال ابو داوود بوصفه مسؤولاً عن ميونيخ. وينطبق الشيء نفسه على اغتيال ابو اياد في تونس العام 1991 على يد احد رجال ابو نضال.
وفي تحليله لهذه العملية ولتطوراتها اللاحقة، يعتبر ابو داوود ان الشرطة الالمانية هي التي قتلت الرياضيين وأفراد الكوماندوز وان امتناعها عن نشر تفاصيل عن تشريح الجثث ونوع الرصاص الذي اخترقها وعدم مطالبة السلطات الالمانية بتعقب ابو داوود ومقاضاته عندما اعتقل في باريس عام 1977 وشهادات رجال الكوماندوز الفلسطيني الناجين من العملية كلها تؤكد ان الفلسطينيين لم يكونوا مسؤولين عن تصفية الرياضيين الذين قتلوا برصاص الشرطة الالمانية وربما بغض نظر من طرف حكومة غولدا مئير الاسرائيلية حينذاك. وينقل عن مسؤول الماني قوله ان حسابات الشرطة كانت حينذاك ان قتل فدائيين اثنين من افراد المجموعة يمكن ان يحمل رفاقهم على الاستسلام كما يفعل "العرب عادة"، لكن تبين لهم انهم مخطئون، وان رجال الكوماندوز قاتلوا حتى النهاية في معركة دامت 3 ساعات متواصلة. وأخيراً لاحظ ابو داوود ان المانيا كانت ترغب في التخلص من هذه العملية نهائياً وانها سربت عبر سفارتها في بيروت معلومات للفلسطينيين بأنها مستعدة لدفع 9 ملايين دولار لقاء خطف طائرة المانية وتنفيذ سيناريو شكلي يطلب خلاله الخاطفون باطلاق سراح الكوماندوز الناجين من العملية. لكن ابو داوود رفض ذلك، فعرض الامر على وديع حداد الذي نفذ السيناريو المذكور فأفرجت المانيا عن رجال الكوماندوز وتسلمت الجبهة الشعبية المبلغ.
هكذا تبدو عملية "ميونيخ" وكأنها محطة اساسية في سيرة ابو داوود وفي صراع المخابرات الفلسطينية - الاسرائيلية الذي امتد حتى اغتيال عاطف بسيسو في باريس العام 1991. لكن محمد عودة يرى ان اتفاقات اوسلو يجب ان تضع حداً لذلك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.