أكثر من 5 آلاف سيارة أجرة لنقل الحجاج    خادم الحرمين يتلقى رسالتين خطيتين من ملك الأردن ورئيس مصر    تفاصيل العرض الأول من النصر لضم برونو فيرنانديز    قدوم 935966 حاجا من خارج المملكة    هنري لم يضم مبابي في القائمة الأولية للمنتخب الأولمبي الفرنسي    أيمن يحي يخرج من حسابات مانشيني    الفضلي: المنتدى العربي للبيئة يؤسس منصة حوار لتوحيد الرؤى تجاه القضايا البيئية    أمير عسير يفتتح المقر الجديد لإدارة رعاية أسر الشهداء    جونيور أفضل لاعب في ال «UEFA»    «العقار»: تراخيص جديدة للبيع على الخارطة ب 6 مليارات ريال    مواطن يمكّن مقيماً من سجله بمعرض ستائر وديكورات    زراعة أكثر من 596 ألف شتلة من الزهور والشجيرات والأشجار خلال 4 أشهر الأولى    أمير الرياض يستقبل نائب وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية للعمل    أمير تبوك يقف على الجهود المبذولة لخدمة ضيوف الرحمن بمنفذ حالة عمار    بيئات واستعدادات هيأتها إدارات المدارس في الطائف    أمير تبوك يستقبل معالي مدير عام الجوازات    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للتصلب اللويحي المتعدد"    "الهلال" و"معهد إعداد القادة" يوقعان اتفاقية "مسار واعد"    كلاوديا تصبح أول سيدة تتولى رئاسة المكسيك    سفير المملكة لدى الأردن يودع قافلة حجاج بيت الله الحرام    سعود بن بندر يستقبل الرئيس التنفيذي لجمعية بناء ورئيس وأعضاء نادي القادسية    السيسي يكلف مدبولي تشكيل حكومة جديدة من ذوي الكفاءات    مفتي عام المملكة ونائبه للشؤون التنفيذية يستقبلان رئيس جمعية إحسان لحفظ النعمة بمنطقة جازان    "كفاءة الإنفاق" تطلق الحملة التوعوية بالدليل الوطني لإدارة الأصول والمرافق    بدء اكتتاب الأفراد في 154.5 مليون سهم بأرامكو    أسعار النفط تتراجع    طلائع حجاج إيطاليا تصل مكة المكرمة    نتنياهو يناقض بايدن: «الصفقة» لا تشمل وقف الحرب    فرصة لهطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    بناءً على ما رفعه سمو ولي العهد خادم الحرمين يوجه بإطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق الرياض    الصمعاني: دعم ولي العهد مسؤولية لتحقيق التطلعات العدلية    جامعة "المؤسس" تعرض أزياء لذوات الإعاقة السمعية    "أكنان3" إبداع بالفن التشكيلي السعودي    كاميرات سيارات ترصد العوائق بسرعة فائقة    لأول مرة على أرض المملكة.. جدة تشهد اليوم انطلاق بطولة العالم للبلياردو    الطائرة ال51 السعودية تصل العريش لإغاثة الشعب الفلسطيني    دموع «رونالدو» و«الهلال» يشغلان صحف العالم    السفير بن زقر: علاقاتنا مع اليابان استثنائية والسنوات القادمة أكثر أهمية    محمد صالح القرق.. عاشق الخيّام والمترجم الأدق لرباعياته    نوبة «سعال» كسرت فخذه.. والسبب «الغازيات»    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    توبة حَجاج العجمي !    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    جامعة بيشة تحتفل بتخريج الدفعة العاشرة من طلابها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرن العشرون في علاماته ومغامراته الانعطافية . عودة الروح : الدين والمجتمع والحركات الدينية في العالم العربي المعاصر 2
نشر في الحياة يوم 29 - 11 - 1999

تلقيت قبل فترة من وزارة الخارجية السويدية الترجمة العربية لكتاب انجمار كارلسون بعنوان: "الاسلام وأوروبا، تعايش ام مجابهة؟" وذكرني العنوان - وليس المضمون - بكتاب فرد هاليداي: "الاسلام وخرافة المواجهة" الصادر العام 1998، والذي ترجم الى العربية في العام 1998.
اما كتاب كارلسون - وهو من دارسي الاسلاميات - فيركز على الظاهرتين البارزتين: ازدياد اعداد المسلمين في سائر الأقطار الاوروبية في السويد مثلاً كان عدد المسلمين اقل من ألف قبل ثلاثين عاماً، بينما عددهم اليوم يزيد على الأربعمئة الف، وازدياد وعيهم بذاتهم ودينهم وهويتهم وتقاليدهم.
واما كتاب فرد هاليداي فيدرس بمنهجية دارسي شؤون الشرق الاوسط أفعال وسائل الاعلام وردود فعلها والبحوث الاستراتيجية، وتجاذبات الاجهزة السرية، والسياسيين في الغرب حول الحركات الاسلامية، وما يعرف بالاسلام الأصولي، والاسلام السياسي.
وكان الباحث الشاب فواز جرجس قد اصدر بالعربية والانكليزية مطلع هذا العام كتابه: "أميركا والاسلام السياسي". وأصدرت دار الطليعة ببيروت عام 1998 لإدريس بني هاني كتاباً بعنوان: "الاسلام والغرب". والشيء نفسه فعله نور الدين أفاية حين اصدر بالفرنسية كتابه: رؤية الغرب العام 1998. وهذا قليل من كثير، فلا شك ان هناك عشرات العناوين ومئات المقالات انشغلت وتنشغل باشكاليات العلاقة بين الاسلام في الحقيقة المسلمين والدول الغربية، والاسلام والثقافة الغربية. ولذلك كان هناك من قال انه لا جديد في النقاش الدائر اليوم. لكن تستمر الدراسات والمقالات في الظهور. يمكن طبعاً ان نذكر اسباباً لذلك: الثورة الايرانية التي اثارت اهتماماً شديداً بالاسلام السياسي. واغتيال الرئيس أنور السادات الذي أثار اهتماماً بحركات العنف التي تعمل باسم الاسلام، والجاليات الاسلامية في اوروبا التي بدأ بعض افرادها بالعناية بالمسائل الرمزية والشعائرية العلنية مثل صلوات الجمعة والجماعة في المساجد، والحجاب في المدارس، وقضية سلمان رشدي التي لم تبعث عليها فتوى الامام الخميني وحسب، بل قبل ذلك تظاهرات المسلمين في برادفورد بانكلترا ضد "الآيات الشيطانية" ومؤلفها.
بيد ان تلك كانت ظواهر ومظاهر ونتائج وليست اسباباً. اما الظاهرة الكبرى التي استولدت الامور الاخرى التي ذكرناها فهي الظاهرة التي يحبّ الاسلاميون تسميتها الصحوة الاسلامية، والظاهرة الاخرى او المتغير الآخر رؤية الغرب، والاميركيين بالذات لدورهم ومصالحهم في منطقتنا.
واذا كانت "بشائر" الصحوة قد بدأت في الستينات، فان الاميركيين تنبهوا الى اهميتها بأكثر مما تنبهنا عندما أشار زبغنيو بريجنسكي مطلع السبعينات الى امكان استخدام الحركات الدينية ضد الشيوعية، في الوقت الذي كان فيه "الخبير" والمستشرق المعروف برنارد لويس ما يزال يرى وجود تحالفٍ بين الشيوعية والاسلام بسبب التماثل في طبيعتيهما التوتاليتاريتين.
اتخذت الصحوة مظاهر كثيرة ما عادت اليوم خافية على أحد، من لحى الرجال، الى ملابس النساء، والى الزواج المبكّر، والاقبال على الحج والعمرة، وشيوع فصول تحفيظ القرآن الكريم، والظهور في صلاة الجمعة وبعض صلوات الجماعة، واستيلاء البرامج الدينية والتراثية في الاذاعات والتلفزيونات. عندما كنا في الستينات ندرس في الأزهر، كان الجامعان الأزهر والحسين ممتلئين دائماً في صلاة الجمعة، وصلاتي العشاء والفجر في رمضان. اما منذ الثمانينات فان الزحام لا يقتصر على الجامعين بل يحتل المساحة بينهما وهي تبلغ مئتي مترٍ او يزيد.
على ان المتغيرات التي لفتت النظر اكثر من غيرها تتعلق باتجاه كثرةٍ من المسلمين الى محاولة العيش او الحياة حياةً اسلامية كاملة. وهم يعنون بذلك الجوانب العامة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، والتي تتجاوز القضايا الشعائرية او التعبدية. وليس هذ امراً غريباً في الأساس، فالدارسون للاسلام من الأنتروبولوجيين وعلماء الاجتماع يقولون انه في جوهره "اسلوب حياة"، وليس "فلسفة حياة" وحسب. اما الذي جعل ذلك غريباً بعض الشيء فهو ان هذه الظواهر والمظاهر كانت تتجه للتضاؤل والاختفاء من الحياتين العامة والخاصة. وعلى المستوى الفكري فقد سادت كما هو معروف منذ مطالع هذا القرن نزعتا الاصلاح والتوفيق، وذلك في سائر مظاهر الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولذلك فان المظهر المتلوّن في المدن العربية والاسلامية هو تحول يتم او تتوالى احداثه على خلفية صراع او صراعات تتخذ أشكالاً مختلفة بين "القديم" المدني، والجديد الاسلامي. ولا نحتاج هنا للقول ان هذا "القديم" قِدَمُه نسبيٌ ولا يتجاوز عمره العقود السبعة او الثمانية، ولا ندري كم تستمر النزعة الجديدة وتثبت. وغني عن البيان هنا ايضا ان النزوع "الجديد" اسلامي، وهو جديد في الاشكال التي يتخذها لا في الأساس، اذ سائر الناس مسلمون من قبل ومن بعد، وانما تتغير الافكار والنزعات على هذه الخلفية المتسمة بالثبات في مبناها العام تبعاً لاحتياجات مجتمعاتنا والضغوط والتحديات التي تتعرض لها.
بيد ان هاتين النزعتين، نزعة الشعائرية والتعبدية، ونزعة اسلمة الحياة العامة، وان لفتتا انتباه الدارسين والمُراقبين، ما كانتا في قلب اهتماماتهم في الحقيقة، بل الذي استأثر بالاهتمام الحركات العقائدية التي تريد تأسيس نظام سياسي اسلامي، او ما اصطلح الباحثون على تسميته بحركات الاسلام السياسي. وقد بدا ان هذه الحركات ظهرت فجأة عندما وقع حادث الفنية العسكرية في مصر العام 1974. لكننا الآن نعلم انه تطور استغرق ثلاثة عقود على الأقل، وانه ليس خاصاً بمصر او بالبلاد العربية، فقد كان الايرانيون في الستينات يقرأون المودودي وسيد قطب في الوقت الذي كان فيه شباننا يقرأونهما. ومع ان ظهور حركات الاسلام السياسي كان المظهر الأبرز او الاكثر اثارة للاهتمام ضمن الصحوة، لكن الواقع ان الأبرز وربما الأبقى بين ظواهر الصحوة تلك الأسلمة المستمرة للحياة العامة، بما في ذلك الدولة ومؤسساتها. لا يبدو ذلك في برامج التلفزيون والاذاعة وحسب، بل وفي الدساتير والاعلانات الدستورية والقوانين. ويظن بعض الدارسين ان هذه الظاهرة ليست جديدة. فالنص على ان دين الدولة هو الاسلام يعود الى الخمسينات والستينات. وهذا صحيح لكن الأمر جديد على رغم ذلك. فالنصوص الآن تتعدى الاعلان العام، الى اعتبار الشريعة الاسلامية مصدر التشريع او المصدر الرئيسي للتشريع، وهذا يتعدى الرمز والمرجعية العليا الى الطابع القانوني للدولة وتشريعاتها.
ويظن دارسون كثيرون ايضاً ان ذلك "نفاق" من جانب عدد من الدول العربية والاسلامية استجابة منها للتحديات التي فرضها الاسلاميون منذ السبعينات. اما الواقع فهو ان الدولة لا تنافق وانما تستجيب للتيارات العريضة للصحوة، والتي تمضي قدماً في أسلمة الحياة العامة.
لماذا عودة الروح؟
لماذا الصحوة الاسلامية، او لماذا عودة الروح، اذا صحّ التعبير؟!
يرى فريق كبير من الدارسين من المستشرقين والمؤرخين ان ذلك خاص بالاسلام، وطرائق استجابته للتحديات الكبرى والأزمات. فسقوط الدولة الأموية مثلاً رفع من شأن تيار "أهل الحديث" و"السلف الصالح" الذين يلجأون "لألفاظ الشريعة" بدلاً من "مقاصدها". والمعروف ان هذا التيار كان جديداً لدرجة ان الجاحظ - 255ه سمّاهم "نابتة" اي انهم جُدُد أو لا جذور لهم. وقد تصدت لهم الادارة العباسية، كما تصدى لهم "المثقفون": المعتزلة والمتفلسفة، لكنهم صمدوا ثم انتصروا في المدى الطويل. ويذكر هؤلاء الدارسون الشيء نفسه عن حقبة الحروب الصليبية والمغولية، التي استمرت زُهاء القرنين من الزمان. وقد تمكن المسلمون في النهاية من طرد الصليبيين واستيعاب المغول. بيد ان ظروف الصراع الصاخبة والمأسوية ابرزت على السطح تيارات متشددة في مسألتي الايمان والكفر، ووحدة الجماعة - ورمز تلك التيارات ابن تيمية - 728ه الذي اعتبر ان ما نزل بالمسلمين سببه مفارقتهم لسيرة السلف الصالح، ودخول البدع في عقائدهم وعاداتهم. والأمر نفسه يمكن قوله عن حركات القرن الثامن عشر ومطالع التاسع عشر: السنوسية في المشرق وافريقيا، والفرائضية في الهند، والاصلاح السلفي باليمن. فغرض هذه الحركات جميعاً العود إلى سيرة السلف الصالح، وتنقية الايمان من شوائب البدع، وحفظ الهوية سليمة من كل شائبة.
وكان هناك من الباحثين من قال ان ظاهرة الاحياء الديني ظاهرة عالمية، ولا تختص بالاسلام وحده، بل انها لا تختص بالديانات التوحيدية. فاذا كنا قد لاحظنا تصاعداً في اهمية الكنيسة الكاثوليكية لدى الكاثوليك انفسهم، وفي مجريات السياسة العالمية، واذا كنا قد لاحظنا صعوداً في عدد الحركات والشيع والفرق البروتستانتية الجديدة - فان الظواهر نفسها نجدها لدى الديانات التي تتسم بالثبات والحركة البطيئة عادة مثل الهندوس والبوذيين. ففي المحيط الصيني في جنوب شرقي آسيا كمبوديا ولاوس وفيتنام وتايلند وسنغافورة وإندونيسيا وماليزيا… الخ هناك تحرك بوذي حثيث، وصراعات على مفاهيم ومصالح وأوقاف، كان السائد ان ذلك كله صار ماضياً منذ مطلع القرن العشرين. ولا يعرف العالم كثيراً عما يجري في الصين، اذ الاهتمام مركز على تعامل السلطات الصينية مع المسيحيين والتبت والمسلمين، لكن الفرقة الغريبة التي حظرته الحكومة الصينية اخيراً تدل على ان الاحياء الديني البوذي في الصين له مستقبل لا يستهان به. اما الهندوس الوادعون في العادة فقد هبوا مستنفرين كأنما هم اقلية مهددة بالانقراض، وها هم يحكمون الهند الآن ويضطهدون السيخ والمسلمين والمسيحيين. فحسب هذه النظرة لا ينفرد المسلمون بالصحوة، كما لا ينفردون بإقبال بعض اطراف الحركات المتشددة على العنف.
ويذهب فريق ثالث جُلّه من المسلمين الى ان التوجه الأول حول خصوصية الاسلام وجوهريته من هذه الناحية غير سليم. اما بخصوص التوجه الثاني فيرون فيه الكثير من الصحة، ويوجهون النظر الى التيارات المتشددة والجديدة/ القديمة في اليهودية الاسرائيلية، واليهودية العالمية. لكنهم من جهةٍ ثانيةٍ لا يعتبرون الاحياء الاسلامي رد فعل على "الدنياوية" الكونية، والعولمة الحاصلة وحسب، بل يجدون لذلك اسباباً عربية وإسلامية تتصل بالتطورات الداخلية في تلك البلدان، والصراع العالمي على ثروات تلك البلدان واسواقها، في العقود الخمسة الماضية. فقد حاولت اكثر البلدان العربية والاسلامية خلال تلك العقود ان تتحرر من هيمنة الجبارين، وان تنمو وتلتحق بالبلدان المتقدمة بفضل ثرواتها وحكوماتها الثورية. بيد ان شيئاً من ذلك لم يحدث بسبب الاستبداد الداخلي، وظروف الهيمنة العالمية - فكان ان لجأت الجماهير المقهورة الى مخزونها واحتياطها الروحي والتاريخي: الاسلام، وهذا معنى الحديث منذ السبعينات عن الطريق الثالث فيما وراء الرأسمالية والشيوعية، وهذا معنى شعار: الإسلام هو الحلّ!
تسيس سريع
ما استطاعت "الصحوة الاسلامية" ان تتطور وتأخذ مداها بشكلٍ طبيعي، بحيث يمكن قراءة منجزاتها او "خياراتها" بالمعنى المقصود من ذلك في العادة. ويُرجعُ البعض ذلك الى تسيسها السريع، فاذا كانت مرحلة الشيخ حسن البنا هي مرحلتها الإحيائية الصافية، فانها سُرعان ما توترت تحت وطأة الاضطهاد والملاحقة والتتبع بحيث اضطرت لاجتراح عقديةٍ/ سياسية للمواجهة من جهة، وللاستيلاء على السلطة ان امكن من جهة ثانية. وقد أدى ذلك الى توتر توجهاتها وتشددها وحزبيتها بحيث امكن اعتبارها في السبعينات خياراً يمكن ان يذهب باتجاهه مجتمع ما، وبخاصة ان تلك الأطروحات ما كانت تتجاوز المبادئ العامة، التي تتخذ سمات الاعتقاد، وليس البرنامج السياسي العادي. وهذا معنى الحديث وقتها عن افلاس الحضارة الغربية، وعن ان الاسلام هو الطريق الآخر، ذلك ان اللجوء الى الحد الأقصى ناجم عن العجز عن استحداث البرنامج الذي يمكن الاستقطاب على اساس منه، فجرى التحشيد عن طريق العقدية الشاملة.
وكان هناك فريق لم ينكر التوجه للتسيس السريع قبل النضج، اي الوضع نصب العين هدفاً لا بد من بلوغه هو الاستيلاء على السلطة بالقوة. لكن هذا الفريق لم يعتبر الاتجاه للعنف نتيجة للملاحقة او للاضطهاد، بل بسبب الثقافة السياسية السائدة في المشرق، ولدى انظمة الحكم. فتلك الأنظمة بحجة الحشد من اجل الوحدة والتحرر والتنمية وفلسطين انشأت كيانات كوربوراتية استبدادية، ونمّت على حواشيها ثقافة سياسية للتسويغ والتبرير. فلم يكن غريباً بعد هذا كله ان يعتبر المتشددون من الاسلاميين الديموقراطية غير اسلامية، كما اعتبرها الحاكمون التقدميون ايديولوجيا "بورجوازية صغيرة" مهزومة. واذا كانت الأمور قد اتخذت لدى الاسلاميين المسيسين طابع الاعتقاد، فانها كانت كذلك لدى الأنظمة التقدمية ايضاً، فالاشتراكية ما كانت خياراً تنموياً او تحريرياً، بل ظلت لثلاثة عقود ونيف حتمية تاريخية. وهكذا فإن "حتمية الحل الاسلامي" لم تكن بعيدة عن "حتمية الحل الاشتراكي"، اذ كلا العقيدتين من نتاج الثقافة السياسية السائدة أو الوعي السائد.
ومضياً مع هذا الجو، فإن الأطروحات الاسلامية الأولى التي تجاوزت العناوين التحشيدية اتجهت في الخمسينات والستينات للمزايدة على الاشتراكية، فظهرت عناوين مثل: العدالة الاجتماعية في الاسلام، واشتراكية الاسلام، واقتصادنا، ومشكلة الفقر وكيف حلّها الإسلام. وظهرت منذ الستينات شركات تمويل ومصارف اسلامية غير ربوية، ما لبثت ان تزايدت في الثمانينات. لكن مع سقوط الاشتراكية من عالم المثل والنظم، تغير الوعي الاقتصادي لدى الاسلاميين من مثال "العدالة" الى مثال "التنمية" وظهرت مثالات وكتب عن كيفية تحقيق ذلك في ظل الاسلام.
وفي المجال السياسي، ظل الجدال لدى الاسلاميين ضد الديموقراطية والماركسية مشتعلاً طوال ما يزيد على العقدين. وكانت حججهم ضد الماركسية تتمثل في تأليه المادة، واستثارة غرائز الانسان واستعباده بها. اما ضد الديموقراطية يماهون بينها وبين الرأسمالية كما يفعل الرأسماليون فكانت حجتهم انها تجعل المرجعية والسلطات أو الحاكمية للشعب، بينما هي في الاسلام لله. ثم أنها - كما قالوا - تزيف الإرادة العامة بمسألة الأكثرية، فالاكثرية التي تذهب الى صناديق الاقتراع هي أقلية في الحقيقة، والحزب الذي يفوز فيها هو في الحقيقة أكثرية الأقلية. لكن مع تغير الاجواء في الثمانينات على المستوى العالمي، وصيرورة الديموقراطية ايديولوجيا لجأ اليها الجميع بمن في ذلك الحكام، بدأ الاسلاميون يعيدون النظر في أطروحاتهم فتحدثوا عن الديموقراطية الاجرائية، وعن التعددية السياسية، وعن امكان المشاركة في جبهة أو جبهات مع غير الاسلاميين، وكذا المشاركة في حكومات لا تحكم بآراء الاسلاميين. والملاحظ انه في حين ظلت الحجج في نظرية الحكم مستندة الى القرآن والتجربة الاسلامية الوسيطة، فانه جرى الاستغناء في الاقتصاد عن التجربة التاريخية لمصلحة الاجتهاد البحت.
وما تزال جماعات اسلامية اليوم تلجأ للعنف، لكنها لم تعد تعتبره واجباً أو اعتقاداً أو جهاداً، بل انما تفعل ذلك - كما تقول - دفاعاً عن النفس في محاولات التشويه والاضطهاد والإبادة. أما التيار الرئيسي فلا يقول بالعنف اطلاقاً في المجال الداخلي، لكنه ما يزال يتظلم من ان نشاطه السياسي مقيد أو محظور. كما ان هناك نظرة سوداوية بعض الشيء تسود في أوساط كثرة من الاسلاميين في المجال العالمي، لما يستشعرونه من عداء تجاه الاسلام وتآمر عليه لدى الدول الكبرى، ولا تعوزهم الأمثلة على ذلك، والتي يشاركهم فيها كثيرون من غير الاسلاميين.
لا خطر على المنتصرين
قال فرنسيس فوكوياما مطلع التسعينات انه لا خطر على الحضارة الليبرالية الغربية المنتصرة. وقال صموئيل هنتنغتون أواسط التسعينات بل ان هنا أخطاراً على الغرب المنتصر في الحرب الباردة، وأهم تلك الأخطار الإسلام! وقد انزعج الاسلاميون والقوميون من الاطروحتين بالقدر نفسه. فأطروحة "نهاية التاريخ" تسوّد على العالم نظاماً واحداً تقف على رأسه الولايات المتحدة، الملغية لكل من يختلف أو يحاول ذلك. وهنتنغتون يضع الاسلام المسلمين في مواجهة العالم في نهاية القرن العشرين، وليس في ذلك ما يبشر بخير. وقد رد الاسلاميون على الأطروحتين بردود كثيرة. لكن في العامين الأخيرين ظهرت نقاشات متناقضة حول موضوعين قريبين: النقاش حول العولمة، بالسلب في الغالب من جانب الاسلاميين - والنقاش حول حوار الحضارات، بالإيجاب غالباً من جانب الاسلاميين أيضاً. فالمهم بالنسبة لهم الندية والاستقلال الحضاري - وهم على استعداد للمشاركة في كل شيء من مواقع الاستقلال والذاتية تلك.
وهم يرون ان الإعراض عنهم في المجالات الداخلية في الوطن العربي بالذات بعد العام 1995 يعود إلى تغير موقف الولايات المتحدة. فالإقبال على اضطهادهم الآن، واتهامهم بالارهاب بسبب موقفهم من اسرائيل، وحرمانهم من المشاركة في العملية السياسية الداخلية، كل ذلك يعود لرغبة الاميركيين في استبعادهم، خوف أن يصلوا إلى السلطة كما وصلوا في ايران والسودان. وتزيد طرائق الولايات المتحدة والغرب في التعامل مع قضايا اسلامية حساسة مثل قضية افغانستان، وباكستان، وفلسطين بالذات، وابن لادن، في الإحساس لدى الاسلاميين بأن الولايات المتحدة ومن ورائها حلف الناتو تهدف للسيطرة المطلقة على مقدرات العرب والمسلمين للعقود المقبلة.
هل الإسلام هو الخطر الأخضر بعد زوال الخطر الأحمر، كما يقول هنتنغتون؟! وزيرة خارجية السويد آنا ليند تقول ما معناه ان تحول الاسلام الى عدو للغرب انما يتوقف في المقام الأول على موقف الأوروبيين. فالعنصرية وعدم التسامح والقومية المتزمتة تستفحل بشدة في سائر أنحاء أوروبا كرد فعل على الهجرة "القليلة اليوم مقارنة بالتوقعات المستقبلية". وفرد هاليداي يخبرنا ان "صورة العدو" التي تُصنع للاسلام منذ سنوات لا تخرج عن دوائر الاستخبارات وأصحاب المصالح في الشرق والغرب. ربما كان الأمر كما ذكرت الوزيرة ليند من أن الناس تبعاً للإمام علي: أعداء ما جهلوا! وهذا لا يتناول النخب الغربية وحسب، بل والنخب العربية والاسلامية أيضاً. ويعتبر فواز جرجس ان النظرة الاميركية للاسلام السياسي هي نظرة براغماتية، بدليل تعاملهم معه في افغانستان في الثمانينات. لكن تلك أيام مضت وانقضت، والبحث اليوم في علاقات مستقبلية، لا يبدو ان الأميركيين مستعدون لبحثها في العمق: ما حاجتهم لذلك في الحقيقة، أي لماذا يعطوننا أكثر ما دمنا بأيديهم؟!
ما علينا! هل هي عودة للروح؟ ذكرت هذه الامكانية أمام أحد رجالات الحركات الاسلامية قبل سنوات، فقال إنني أذكره بكلامي هذا بكتاب "الروح" لابن قيم الجوزية 751ه تلميذ ابن تيمية، والذي يبحث في الروح والنفس وأسرارهما وعجائبهما، ويبدأ الكتاب بالآيات القرآنية التي تنفي علم الانسان بالروح، لكن ابن القيم يعود بعد هذا الخطر الى الحديث في ماهية الروح وخصائصها! فلا شك ان هناك صحوة اسلامية، بمعنى عودة الاسلام من النواحي الشعائرية والرمزية والسياسية/ الاجتماعية، للعمل والفعالية، فحتى التيارات الصوفية المعادية في الغالب للسلفية والسلفيين تشهد ازدهاراً ما كان لها قبل عشرين عاماً.
الى متى تستمر الصحوة؟ ربما ارتبطت الجوانب النافرة منها بسياسات الحكومات، والسياسات العالمية تجاهها. وهذه "الجوانب النافرة" يمكن ان تزول أو تهدأ في عمليات تغيير ديموقراطي. اما الإسلام في صيغته الجديدة باعتباره "طريقة حياة" فلا أحسب انه سيضعف أو يتغير
كيف نقرأ تجربة القرن العشرين، هذا القرن الذي اعتبره المؤرخ البريطاني اريك هوبسباون "اقصر القرون" لأنه سياسياً ومنطقياً بدأ مع اندلاع الحرب العالمية الاولى، لينتهي مع سقوط جدار برلين 1914 - 1989؟ قراءات عديدة ممكنة. وما اختيار واحدة منها سوى اختيار للمنظور الذي منه يرى من يختار انه يقرأ وجهاً من وجوه عصر السرعة والكثرة والوفرة والتشيؤ هذا. في "الوسط" اخترنا قراءة تقف عند علامات اساسية من علامات هذا القرن وتكشف عن تناقضاته. وفي هذه الحلقة قراءة لانبعاث الروح والحسّ الديني في هذا الزمن الذي بدأ "عقلانياً" و"علمانياً" ليوصل الانسان الى اعلى درجات السمو الروحي، ولكن ايضاً الى درجات لا سابق لها من التعصّب والتطرّف.
من انبعاث الروح الى سيادة التطرّف
اذا كانت "الصحوة الاسلامية" في بعدها السياسي، ميزت الربع الاخير من القرن العشرين، وهي تحديداً الموضوع الاساسي الذي تعالجه مقالة رضوان السيد، فإن الاديان الاخرى لم تخل بدورها من انبعاث وصحوات، ربما لم توصل الى العنف والمستويات التي اوصلت الصحوة الاسلامية ابناء الأمة الاسلامية اليها، لكنها كانت شديدة التأثير، بل ربما اعمق واكثر تأثيراً من دون ان تبدي ذلك على السطح.
ففي الولايات المتحدة، بلد التقدم الاساسي في العالم، وبلد البروتستانتية التي ربطها المفكرون، ومنهم ماكس فيبر بالتقدم ونشوء الرأسمالية، تسيطر الطوائف والجماعات الدينية على قطاعات عريضة من المجتمع وتلعب غالباً دور "اللوبي" الضاغط على السياسيين، وصولاً الى التحكّم بالسياسة بشكل او بآخر. ولقد استفاد اصحاب تلك الطوائف والجماعات وريثة "المورمون" و"الكويكرز" من التقنيات الحديثة مثل التلفزة والحاسوب والانترنيت لتعزيز انتشار افكارهم وعقائدهم بشكل يرعب العلمانيين والليبراليين.
وفي بلد اليهودية الاول في العالم اسرائيل يتحكم غلاة المتطرفين الدينيين في سياسة هذا الكيان الى حد كبير، ويزداد نفوذهم مع نهاية القرن، ويسيطرون على مدن من بينها القدس الغربية وعلى احياء وقرى، ما يشي بأن المعركة المقبلة في الشرق الاسط قد تكون معركة التطرف الديني ضد العلمانية في اسرائيل التي قامت اساساً على "مفاهيم علمانية واشتراكية".
وفي الكاثوليكية يتواكب انهيار الاحزاب السياسية التي كانت تعمل تحت شعار ومبادئ المسيحية الاجتماعية في فرنسا وايطاليا والعديد من بلدان اوروبا الاخرى، مع نمو التطرف الكاثوليكي الذي يستعيد المبادرة من السياسيين. ولقد كشفت ردود الفعل الهائلة على مؤتمر الشبيبة الذي عقد في فرنسا من حول البابا يوحنا بولس الثاني، قبل عامين تقريباً، عن نمو وتصاعد الظاهرة الروحية خصوصاً لدى الشبيبة.
وفي البوذية والهندوسية، ظواهر مشابهة تكفي دراسة حالة الهند والصين والتيبت لاكتشافها. وكذلك لا بد من ان تضم الى هذه القائمة الصراعات السياسية والعرقية في البلقان واواسط آسيا، والقوقاز لرصد الشكل الجديد الذي تتخذه الصراعات هناك: حرب معلنة بين نمط من الاورثوذكسية وانماط من الاسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.