منذ عشرين عاماً فقط لم يكن ساحل الزمرد كوستا سميرالدا الذي يمتد بتعرج شديد عند أقصى الطرف الشمالي من جزيرة سردينيا الايطالية، سوى منطقة شبه مهجورة وخالية الا من بعض اكواخ الصيادين والغطاسين، الباحثين عن شعاب المرجان في مياهها الصافية والمخضرّة الزرقة. أما اليوم، فان هذه الخمسين كيلومتراً الممتدة من أرباض مدينة أولبيا حتى ميناء الغزال بورتو شيرفو، تضم أجمل المنتجعات السياحية على ساحل البحر المتوسط، واكثرها هدوءاً. وأفخمها واغلاها على الاطلاق. قد يقال ان الكوستا سميرالدا، التي يستجم فيها معظم اثرياء العالم، وبعضهم من اتخذ له مرقداً ثابتاً فيها، هي مثال آخر على براعة الطليان في الترويج للسلع والمنتوجات الفاخرة، والافادة منها الى أقصى حد. لكن الفضل في اطلاق هذا المشروع السياحي، بمنشآته النخبوية ومواصفاته البيئية الصارمة، يعود للآغا خان الذي كان صاحب فكرة بناء مرفأ سياحي فخم في بورتو شيرفو، واحاطته بمنشآت ومنتجعات، محدودة قدرتها الاستيعابية، ومستوفية لأقصى شروط المحافظة على البيئة والانسجام الجمالي مع الطبيعة المحلية. ترتفع على امتداد ساحل الزمرد هضاب صغيرة يكثر فيها حجر الغرانيت الأحمر، وغالباً ما تنتصب في اعاليها صخور غريبة التضاريس، شكلتها حركة مياه البحر التي كانت تغمرها في ما مضى. اما النبات، فيكاد يكون مقصوراً على شوك العذراء والبلان والعوسج والعطريات كالصقر وندى البحر واكليل الجبل، التي يعبق الليل بمزيج من روائحها عندما تهب النسائم الباردة بعد الأصيل. المياه اللازوردية لكن نقطة الجذب الرئيسية في هذه الجنة التي يقال انها كانت مرتعاً للقراصنة في العصور الغابرة، تكمن في المياه اللازوردية التي تغسل أهداب الشطآن المنثورة عند اطرافها على شكل حدقات متسلسلة، والتي يسعني القول انها انقى وألطف ما وقعت عليه عيناي وعرفت بعد ان جبت بحور الدنيا السبعة. في العمق زرقة كثيفة تعكس صفاء سماء نادراً ما تعبرها غيمة رقيقة، وخضرة زمردية يولدها امتزاج الزرقة ببياض الرمال القاعية كلما دنوت من الشاطئ الذي يتكئ دائماً على اغصان الشجيرات المتثائبة عند اطرافه. وعلى بعد أميالٍ من كوستا سميرالدا تناثر أرخبيل الذئب جزر غير مأهولة تصلها المراكب في أقل من ساعة، لتترك على شواطئها الخالية الا من سحر الطبيعة وجمالها، بعض المحظوظين الذين يبحثون في هدأة العزلة المطلقة، عن الحلم والسعادة. حماية البيئة واذا كانت الطبيعة أغدقت على هذه المنطقة مفاتن وسحراً هادئاً ومناظر خلابة، فان السلطات المحلية قد حرصت على استصدار قوانين صارمة لحماية البيئة ومنع المعمار المشوه لجمال الطبيعة، أو المتنافر معها، والناشز في انسجامها. كما وضعت حداً أقصى لقدرة الاستيعاب الفندقية، بحيث تبقى المنطقة بمنأى عن الازدحام الخانق الذي تشهده المنتجعات السياحية على سواحل المتوسط، من اقصاه الى اقصاه، والذي يحدث ضرراً بيئياً كبيراً، ويشوه المعالم الطبيعية. ويمنع قانون التنظيم المدني في كوستا سميرالدا تشييد المباني السكنية وغير السكنية بارتفاع يزيد على ثلاث طبقات، ويفرض ان تكون الوانها الخارجية متناسقة مع ألوان الطبيعة المحيطة بها. وبفضل الاعفاءات الضريبية التي تمنح لاستخدام المواد الطبيعية المحلية، من حجر وخشب في البناء، فان معظم المنازل والفنادق والمنشآت السياحية قد شيدت بالحجر السرديني الذي يتخذ لونه من التراب، وبالخشب، عوضاً عن الحديد والاسمنت والمواد الاصطناعية الاخرى. وغالباً ما تكون البيوت من طبقة واحدة، يعلو جدرانها نبات زهري، وتُكسى سطوحها بالتراب المرصوص، بحيث يخالها الناظر امتداداً للطبيعة، ولا يفطن لوجودها حتى يدنو منها. اما الطرقات، فهي ايضاً قد شقت وشيدت بحيث لا تخرج عن سيمفونية التناغم التي تعزفها الطبيعة في هذا المكان. ومما يسترعي الانتباه، ان جميع الطرقات التي تؤدي من الطريق العام الى الشواطئ، لم تعبد، وبقيت ترابية كي لا تصل السيارات والاسفلت على مقربة من المياه. المطبخ السرديني ولكي يكتمل تربيع الدائرة في هذه القطعة من الجنة، فان المطبخ السرديني، الذي يعتبر من اشهى المطابخ الاقليمية الايطالية والذّها، يتحف الزائر بمأكولات واطايب تجعل من اقامته في هذه الربوع مناسبة لا تنسى. وتتميز سردينيا بخضارها وفاكهتها وعسلها وسمكها الابيض، واجبانها التي يستخرج معظمها من حليب الغنم الذي يكثر في الجزيرة، ويكثر رعاته الذين يشكلون، بتقاليدهم وغنائهم ورقصاتهم، علامة فارقة في التراث الشعبي المحلي. وتعرف سردينيا كذلك بجودة زيت زيتونها الذي تفاخر أرقى المطاعم العالمية باستخدامه لتحضير اطباقها، ناهيك عن عشرات الوصفات لتحضير المعجنات الباستا التي تبقى الصحن القومي في ايطاليا بلا منازع. لكن ثمة امراً واحداً فقط، من شأنه ان يعكر صفاء هذا الحلم ويحول دون التمتع به أو العودة اليه كلما اشتاقت النفس أو اشتهى الجسد. وهو ان كوستا سميرالدا ما زالت، ويُرجح ان تبقى، أغلى موقع سياحي في منطقة حوض البحر المتوسط، اذ يصل سعر الغرفة في بعض فنادقها الفخمة، الى ألف دولار عن كل ليلة، ووجبة الغداء أو العشاء في مطاعمها الفاخرة الى مئتي دولار. وهذا ما يجعل منها ملتقى لاثرياء العالم. وتعرف سردينيا، التي يدوم فيها الصيف نصف العام، بجزيرة ألصمت، نسبة الى رعاتها الذين يمضون ايامهم صامتين وراء قطعان الغنم، وغارقين في الوحدة والتأمل. ويقال ان أهل هذه الجزيرة المفلوتة على اجمل شواطئ حوض البحر المتوسط، لا يحبون البحر وهم لم يألفوه ابداً، لأن جميع الفترات الدموية في تاريخهم المضطرب، كانت نتيجة الفتوحات والغزوات التي جاءت دائماً من البحر. وبقدر ما يسهل الاستسلام لمفاتن هذه اللؤلؤة المتوسطية والتهالك امام ملذاتها، تصعب مغادرتها للعودة الى صخب الحياة في المدن التي، يوماً اكثر من يوم، تباعد بين الانسان وبيئته الطبيعية، وتفصل باسمنتها واسفلتها وحديدها، بين النفس التائقة الى السعادة وموائل حلمها المتراجعة امام زحف "التقدم" و"الحضارة" .