في نسق مليء بمباهج الحياة والطبيعة والألغاز التاريخية التي تشكل أسرارها المزيد من الفضول لدى السائح الأجنبي، تبدو جزيرة سردينيا العائمة في مياه البحر المتوسط والتي يطلق عليها الطليان إسم "جزيرة الزهور والأنفاق المائية الجبلية"، واحدة من أبرز مناطق الجذب السياحي في ايطاليا. ومن هنا جاءت التوصيفات الشعبية التي يطلقها الطليان تندراً على هذه الجزيرة النافرة البعيدة عن الأرض الأم، بأنها تشبه المرأة المغرية التي تتمتع بوجه جميل وجسد نحت بعناية فائقة، تكشف مفاتنه على المارة فيطاردونها من دون انقطاع. وهو توصيف دقيق يفصح عن جاذبية الجزيرة التي تغري السياح والزائرين بالتمتع بأجوائها وطبيعتها من دون تردد... وهو أيضاً يعبّر عن الحسد الذي يغلف مشاعر أهالي المدن الايطالية بحكم المنافسة في صناعة السياحة والتجارة والتسوق، وما تدره هذه المرافق من أموال خيالية يذهب بعضها الى هذه الجزيرة سنوياً. تقع سردينيا بين ثلاثة بحار: في جنوبها البحر الأبيض المتوسط، وفي شمالها بحر ليغوريه وفي شرقها البحر التيراني. وهي ملاصقة للجزيرة التوأم "كورسيكا" الواقعة الى شمالها ويفصل بينهما ممر مائي ضيق. كانت هذه الجزيرة في تاريخها الطويل محط أطماع الغزاة القابعين وراء البحار، فقد خضعت لسيطرة الامبراطوريات والدول المتعاقبة، في مقدمها الاغريق ثم الرومان فالعرب والاسبان وغيرهم، وكلهم نقلوا اليها ملامح ثقافاتهم المختلفة. ولكنها ازدهرت بشكل استثنائي حينما سيطر عليها القرطاجيون فحولوها مركزاً تجارياً مهماً بين شمال افريقيا وأوروبا، في حين تعرضت للكثير من الانتهاكات إبان سيطرة الامبراطوريات الأخرى، خصوصاً الامبراطورية النمسوية - المجرية. كان السردينيون يلوذون بالفرار الى الجبال الوعرة هروباً من الجيوش الغازية. وفي هذه الجبال بنوا بيوتاً وصوامع بصورة غير منتظمة ما زال بعضها قائماً حتى الآن، وهي تحولت الى معالم أثرية يزورها السياح حينما يحطون رحالهم في الجزيرة. وأظهرت الأبحاث أن عمر هذه المواقع يتراوح بين 1800 و500 سنة قبل الميلاد، وقد بنيت بطريقة تصفيف الحجر من دون استخدام مواء بناء أولية ماسكة لها. وأشارت الى أن الاستيطان في الجزيرة سبق تلك الفترة بآلاف السنين، ويرجح أن يكون بدأ منذ الألف السادسة قبل الميلاد، وبذلك تكون سردينيا المنطقة التي تتمتع بأطول عمر استيطاني في أوروبا. يحيط بسردينيا الكثير من الألغاز والأسرار المهمة، ولكنها مفتوحة الأجواء والطبيعة، ومدنها الساحلية تستقبل مواكب السياح يومياً، بدءاً من أولبيه مروراً بكوستاسمرالدا وانتهاء بالعاصمة كاليغاري الواقعة في جنوب الجزيرة. وللجزيرة وجوه عدة من سواحلها الى جبالها، وأعلى جبل فيها هو جبل "لامارمورا" الذي يرتفع الى 1834 متراً فوق سطح الماء. وهناك جبال أخرى عدة، أجملها تلك التي تلامس أطرافها مياه البحر تاركة فسحة من الشريط الرملي الممتد على طول السواحل والتي تحولت الى بلاجات للاستجمام الطبيعي حول أراضي الجزيرة عموماً. أما مياه سواحلها فتعتبر من أنقى المياه في البحر المتوسط: رمال بيضاء نقية ومياه زرقاء صافية تستطيع من خلالها رؤية أحجار القاع الكربونية. وفي قلب الجبال الساحلية تنتشر فوهات الكهوف المائية الطبيعية التي أحدثتها مياه البحر منذ مئات السنين وهي تعتبر جزءاً حيوياً من قطاع السياحة في البلاد. ومن أشهر الكهوف المرجانية كهف "كروته دي نبتونو" الذي تقول الأسطورة انه كان عبارة عن مسكن لاله البحر "نبتون". أما الكهف الثاني الشهير فهو "كروتابيو مارنيو" أي "كهف عجول البحر" ويقع عند مرتفع قريب من قرية كالا كونونا على الساحل الشرقي، ويمكن الوصول اليه بواسطة الباخرة. وكان الأهالي اكتشفوه صدفة حينما كانوا يبحثون عن مصدر أصوات غريبة تأتي من الجبال الساحلية، وعندما وصلوا الى باب الكهف خافوا من الدخول اليه، وبعد فترة وجدوا أن عائلة من عجول البحر تعيش فيه وهي التي تطلق تلك الأصوات الغريبة المفزعة. في الربيع والصيف تنهض الطبيعة بعطائها من الفواكه والخضار والأزهار، فيتحول معظم أراضي الجزيرة الى "سجادة خضراء" تتناثر عليها الأزهار الملونة في كل مكان، حتى أنها سميت ب"جزيرة الزهور" تعبيراً عن هذه الخصوصية. الحياة في الجزيرة تبدأ، عادة، بعد غروب الشمس بسبب ارتفاع درجة الحرارة نهاراً. وتعتبر العاصمة كاليغاري واحدة من أجمل المدن السردينية. وبسبب موقعها الجنوبي المواجه للساحل الأفريقي فقد تنوعت فيها المعالم الثقافية. أما ثاني أكبر مدينة فهي ساساري في الشمال الغربي، وقد أسسها التجار الايطاليون في القرن الثالث عشر ويعيش فيها حالياً نحو 125 الف نسمة. ومدينة بالو في الشمال هي مدينة اليخوت الراقية، وهي تستحق الزيارة لجمال معالمها. وتقع مدينة نورو السياحية في الشرق على مرتفعات جبل اورتو بيني. المدن السردينية مزدهرة بالأسواق التقليدية، فالناس يبيعون فيها منتجاتهم من الأجبان والزيتون والفواكه واللحوم المجففة، وكذلك السلع الأخرى مثل الحلي والمصوغات والسيراميك. أما الأسواق الحديثة فتقوم على بيع السلع المختلفة كالملابس ومساحيق التجميل والمعدات والآلات المختلفة. يقول السردينيون أن من يأتي الى الجزيرة ويقضي فيها بعض الوقت لا يشيب رأسه. واذا كنت لا تثق بهذا الكلام فأرجع الى الاحصاءات العمرية للسكان، فالسردينيون هم الأطول أعماراً بين الأوروبيين، ففي نهاية العام الماضي توفي أقدم معمر سرديني في العالم عن عمر ناهز ال113 عاماً. فقد ولد انطونيو تودي في العام 1889 أي في العام الذي شُيد فيه برج إيفل. وفي الجزيرة حالياً عدد كبير من المعمرين أكثرهم يعيش في قرية معزولة. والسر في ذلك أنهم يتنفسون الهواء النقي ويأكلون الخضار والفواكه ويشربون حليب الماعز... وفوق ذلك كله يتمتعون بجمال الطبيعة!