رأت مصادر لبنانية ان المواجهة المحدودة التي شهدها لبنان الاربعاء 19 تموز يوليو الجاري بين حكومة الرئيس رفيق الحريري والاتحاد العمالي العام انتهت بخسائر محدودة للطرفين أو بتسجيل نقاط مكلفة. وشرحت المصادر موقفها على الشكل الآتي: - اثبتت الحكومة عبر نجاحها في منع التظاهر في بيروت وقمع التظاهرة التي نظمت في صيدا قدرتها على استخدام القوة لمنع اي محاولة يمكن ان تؤدي الى زعزعة الحكومة أو زعزعة الاستقرار. - بعثت الحكومة برسالة صريحة الى النقابات والاحزاب والسياسيين المعارضين مفادها ان حكومة الحريري باقية الى موعد انتخابات رئاسة الجمهورية وان اسقاطها في الشارع ممنوع وان ظاهرة اسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي في 6 ايار مايو غير قابلة للتكرار. - تمكن الحريري نفسه من مواجهة الوضع بحكومة منسجمة اذ لم يتسبب اللجوء الى المؤسسات الامنية في اي خلاف علني داخل الحكومة. - نجحت الحكومة في افهام بعض المعارضين لها، خصوصاً الذين تربطهم علاقات بدمشق، ان الحكومة تحظى بدعم سوري كامل في مواجهة اي محاولة لاسقاطها. - ارتكب الاتحاد العمالي العام خطأ واضحاً عندما اصر على التظاهر من دون الالتفات الى العواقب التي يمكن ان تترتب على ذلك. وكان باستطاعة الاتحاد احراج الحكومة لو تمسك بمبدأ الاضراب وحده ومن دون الدعوة الى التظاهر. - اخطأ الاتحاد العمالي العام حين اعطى نكهة سياسية لتحركه فوقع في ما كانت تشتهيه الحكومة التي حاولت بدورها ان تلصق به اتهامات سياسية يمكن فهم بعضها ويصعب تصديق البعض الآخر. - بالغ الاتحاد العمالي في استخدام تعابير "المواجهة" و"النزول الى الشارع" فاستغلت الحكومة الفرصة للتهويل بأن التحرك العمالي "يمس الأمن القومي" لتبرير لجوئها الى منع التظاهر. - كشفت المواجهة المحدودة ان الاتحاد العمالي يملك تعاطفاً واسعاً لكنه يفتقر الى القدرة على خوض مواجهة حاسمة قد تتسبب في زعزعة الاستقرار الحكومي وفي وقت تجتاز فيه المفاوضات السورية - الاسرائيلية مرحلة حرجة تستلزم هدوءاً كاملاً في لبنان. في المقابل كشفت المواجهة ان الحكومة تفتقر الى التغطية الشعبية الكافية لتثني الاتحاد عن التصعيد من دون اللجوء الى القبضة الامنية. - اظهر الاتحاد العمالي حرصاً كاملاً على عدم الاصطدام بالجيش اللبناني وهو المؤسسة التي يجمع اللبنانيون على اعتبارها الضمانة، خصوصاً بعد نجاح العماد أميل لحود في بنائها على اسس وطنية سليمة. وكان من الافضل للحكومة عدم انزال الجيش الى الشارع اذ ان قوى الامن الداخلي قادرة على القيام بالمهمة. ثم ان الحكومة لوحت باللجوء عند الاقتضاء الى الجيش السوري الذي لم يسبق ان تدخل في مسائل داخلية من هذا النوع واظهرت احداث الاربعاء ان مثل هذا التلويح لم يكن مبرراً، خصوصاً ان المشاركين في التحرك العمالي يقدرون الدور الذي لعبته سورية في احلال السلام. وهكذا بدا ان الحكومة والاتحاد العمالي بالغا في التهويل والتسرع. - اتخذ الصدام الذي وقع في صيدا، مسقط رأس الحريري، طابعاً خاصاً، فقد ارتدت التظاهرة التي نظمت هناك وانتهت بسقوط عدد من الجرحى طابع اثبات الوجود. وبدا حرص النائب مصطفى معروف سعد على تقدم صفوف المتظاهرين رسالة موجهة الى الحريري وجزءاً من النزاع على زعامة المدينة. ولم تكن العلاقات جيدة بين الاتحاد العمالي العام الذي يشغل الياس أبو رزق منصب الامين العام فيه والسلطة، لا سيما منذ أقل من ثلاث سنوات. وذلك لسببين اساسيين. اولهما سياسة شرذمة الجسم العمالي والاتحاد العمالي العام تحديداً التي اسسها وزير العمل السابق عبدالله الامين عندما راح يرخص لنقابات واتحادات جديدة بهدف عزل الاتحاد الرسمي وتطويقه من داخل. وثانيهما، عدم وفاء الحكومة السابقة التي كانت برئاسة الحريري بوعود قطعتها للحركة العمالية وتحديداً عدم تطبيقها اتفاقاً وقعته مع الاتحاد العمالي في حينه والتزمت فيه توفير عدد من التقديمات. ومما ساعد في تردي العلاقة المذكورة الوضع الاقتصادي الصعب الذي كان يمر فيه لبنان ولا يزال والذي انعكس مصاعب حياتية على العمال والفقراء وكل اصحاب الدخل المحدود، وكذلك عجز السلطة عن معالجة هذا الواقع واحياناً تجاهلها اياه، لا بل مساهمتها في ترسيخه من خلال فرض زيادات باهظة على الرسوم والضرائب. طبعاً لم يكن احد يتصور ان تكون العلاقات بين الفريقين بالغة الجودة أو على الاقل جيدة ربما بسبب تناقض المصالح بينهما. لكن احداً لم يتصور ان يبلغ ترديها حد المواجهة المباشرة كما حصل عندما دعا الاتحاد العمالي العام الى الاضراب والى التظاهر وعندما قبلت الحكومة مبدأ الاضراب في القطاع الخاص فقط كونه حقاً دستورياً في حين ان القانون يحظر الاضراب على موظفي القطاع العام ولكن مع رفضها مبدأ التظاهر بحجة الخوف على "الأمن القومي" من اعمال شغب قد تفتعلها جهات لا تريد الخير للبلد وتعمل باستمرار على تقويض السلم الاهلي الذي قام فيه منذ سنوات قليلة. المسؤولية مشتركة لماذا تطورت الامور على هذا النحو السلبي ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟ لا يمكن تحميل جهة واحدة مسؤولية هذا التطور، فالفريقان الاساسيان في المواجهة، اي الحكومة والاتحاد العمالي العام، يتحملان المسؤولية وبنسب متقاربة. ذلك ان الحكومة اخذت على عاتقها تنفيذ خطة نهوض بالغة الطموح قبل ان تؤمن الموارد اللازمة لها وفي وقت يرزح الشعب اللبناني تحت وطأة ضغوط معيشية. وراحت الحكومة تسعى لتأمين بعض هذه الموارد من خلال فرض ضرائب ورسوم جديدة وزيادة الضرائب والرسوم القديمة، ولم يرافق ذلك تحريك لعجلة الانتاج والاقتصاد، كما لم يرافقه تعزيز للقوة الشرائية للعملة الوطنية التي بلغت ادنى مستوياتها في النصف الثاني من حروب ال 16 سنة الامر الذي انعكس سلباً على الفقراء وعلى اصحاب الدخل المحدود وهم اكثرية الشعب اللبناني فباتوا عاجزين عن تأمين الحد الادنى من متطلبات العيش اللائق والكريم، مثل المأكل والملبس والطبابة والتعليم والنقليات والسكن وما الى ذلك. حروب الحكومة ومعارضوها وبدا خلال السنوات الماضية ان السلطة غير مهتمة كثيراً بالمطالب العمالية وانها تراهن على تطورات اقليمية معينة لا بد ان تنعكس ايجاباً على الاقتصاد اللبناني، وانها تسعى لمواكبتها، لكن رهانها لم يكن صائباً لان التطورات الموعودة لا تزال بعيدة ولأن الناس لم يعد في امكانهم الاحتمال خصوصاً في ظل اللامبالاة الرسمية. وقد حير تصرف السلطة اللبنانيين فهي لا تتحرك الا عندما تلوح الحركة العمالية بالسلبية وعندما يحصل ذلك تتصلب وتقول نحن لا نفعل اي شيء تحت الضغط. اما الاتحاد العمالي العام فمسؤوليته تتضح من خلال قبوله تسييس تحركه ومطالبه بحيث بدا اداة في أيدي معارضي الحكومة وربما العهد، فاللغة التي استعمل لم تكن مطلبية وانها سياسية. والعبارات التي وصف بها قادته السلطة لم تختلف من حيث المضمون ومن حيث الحدة والقسوة عن عبارات اعتى المعارضين واشرسهم ولم تكن السمسرة والرشوة والفساد والسرقة اقواها، كما انه اعطى هؤلاء الفرصة للعودة الى الطعن بالحكومة والاستمرار في العمل لازاحة رئيسها بعدما كفوا عن ذلك في اعقاب استقالة الحكومة السابقة بناء على نصيحة من سورية الفاعلة في لبنان، وتحديداً في اعقاب تأليف الحكومة الجديدة التي شكلت لهم خسارة كبيرة والبعض يقول حقيقة مؤلمة. وفي هذا المجال يتحدث عدد من اركان الحكم والحكومة عن تحريض للاتحاد العمالي العام من جهات رسمية محددة سقطت في الاشهر القليلة الماضية خيارات داخلية اساسية لها، ولذلك فانها تحاول "رد الرجل" وربما اعطاء الانطباع للبنانيين وللجهات الاقليمية المعنية بأن الوضع سائر الى الفلتان وبانها وحدها القادرة على معالجته. طبعاً لا يمكن اعطاء ادلة على ذلك كما ان المتحدثين عنه يفضلون عدم الجهر به امام الرأي العام لاعتبارات عدة بعضها وطني. لكن الميالين من اللبنانيين الى عقلية السيناريوهات يعتقدون بوجود سيناريو من هذا النوع، وبذلك اضاع الاتحاد العمالي العام فرصة حقيقية لتضامن شعبي وسياسي معه، والتضامن الواسع الذي يحظى به اليوم يعود الى كونه اداة اكثر مما يعود الى اقتناع به والى رغبة في الضغط على السلطة لتلبية مطالبه كما يعود الى يأس الناس من نهج السلطة ومن ممارساتها وسياساتها ومن الضيق الذي لا تبذل الحكومة اي جهد لانتشال الناس منه. كيف يمكن حل النزاع بين السلطة والاتحاد العمالي العام؟ المواجهة السياسية وتالياً الامنية لا تحل شيئاً لانها تفسح في المجال لمواجهات اخرى اكثر خطورة تهدد مصير البلد على نحو جدي وواسع وتهدد في الوقت نفسه سورية الموجودة في لبنان فضلاً عن العملية السلمية الجارية مع اسرائيل. ولذلك فانها ممنوعة. والجهة المانعة هي سورية التي تملك الوسائل اللازمة لوقف المواجهة ولوقف اطرافها كل عند حده. وهذا ما حصل عندما ابلغت دمشق الى من يلزم في لبنان وتحديداً الى الحكومة والاتحاد العمالي العام انها لا تتحمل تظاهرات قابلة للتحول اضطرابات بدخول جهات كثيرة معادية لها على الخط، واذا كانت الحكومة مطمئنة منذ البداية الى ان التصعيد العمالي لن يصل الى درجة العنف بسبب سورية فان السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ان هذا الاطمئنان كان وراء تطنيشها عن المطالب العمالية المحقة؟ واذا كانت سورية لا تحتمل خضات في لبنان فان السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تركت الوضع العمالي - الحكومي يتفاعل بحيث كاد ان يشكل خطراً كبيراً ولم تتدخل الا في المرحلة الاخيرة؟ وهل هدفت من ذلك الى اعادة ترتيب الاحجام على الساحة السياسية اللبنانية بعد الخلل الذي اصابها في الاونة الاخيرة. وحده الحوار يمكن ان يكون المدخل الى حل للمشكلة العمالية وللعلاقات التي تردت بين الاتحاد العمالي والسلطة. ولكي ينجح يجب ان يكون جدياً وهادفاً وان يضع القائمون به مصلحة البلد ومصلحة الناس امام اعينهم لا مصالح خاصة سياسية كانت أم غير سياسية.