منذ زهاء اسبوعين ألف مجلس الوزراء اللبناني لجنة وزارية مهمتها مراقبة الأسعار واقتراح الاجراءات الكفيلة بالحد من ارتفاعها وذلك في محاولة لطمأنة الاتحاد العمالي العام الذي هدد باعلان الاضراب تعبيراً عن عدم رضاه على الزيادات على الاجور التي قررها المجلس قبل ذلك بفترة قصيرة، وقبل زهاء عشرة أيام علق رئيس الحكومة الأسبق عمر كرامي على هذه الخطوة الحكومية في ندوة صحافية عقدها في منزله في مدينة طرابلس فقال "صح النوم منذ تسعة أشهر ونحن نطالب الحكومة بمراقبة الأسعار وبتفعيل دائرة حماية المستهلك، لأن انفلات الأسعار لم يكن يطاق. وكان الجواب دائماً بأن الأسعار ليست مرتفعة. نحن نفضل أن يتولى وزير واحد هذه المسؤولية لا لجنة وزارية خوفاً من ضياع المسؤولية، ونرى أنه لا بأس بزيادة عدد المراقبين في وزارة الاقتصاد للنجاح في المهمة ولا بأس ايضاً بتفعيل دائرة حماية المستهلك"، لكن كرامي لم يقف عند هذا الحد بل حذر الحكومة بالقول "اننا سنراقب هذا الموضوع المهم جداً بالنسبة الى كل المواطنين من الآن ولمدة شهر، وسنتحرك من خلال الشارع والاضرابات اذا لم تتخذ الحكومة تدابير فاعلة ذات نتائج ملموسة على الأرض". وقد أقلق التحذير الكرامي هذا، اذا جاز التعبير، أوساطاً سياسية وشعبية ذلك أنه ذكرها بالاضراب الشهير الذي أعلن في السادس من أيار مايو من العام 1992 وبالتظاهرات العنيفة التي تخللته وبالنتائج السياسية التي تمخض عنها كل ذلك وأبرزها على الاطلاق استقالة الحكومة التي كان يرئسها كرامي نفسه وتأليف حكومة جديدة برئاسة الرئيس رشيد الصلح. هل هذا القلق في محله؟ وهل لبنان على أبواب انتفاضة عمالية وشعبية شبيهة بانتفاضة السادس من أيار ولا سيما من حيث النتائج؟ وهل هناك جهات معينة لبنانية وغير لبنانية تتحرك في هذا الاتجاه؟ المصادر السياسية المطلعة تعترف بصعوبة الأوضاع المعيشية والاقتصادية وبالضيق الذي يعانيه العمال والشعب اللبناني عموماً من جراء ذلك وكذلك بحق الاتحاد العمالي العام في التحرك لتصحيح الاجور ولزيادة التقديمات الاجتماعية. وتعترف أيضاً بالقلق الذي يساور الحكومة والمسؤولين من جراء التحرك العمالي ومن امكان استغلال جهات معينة يجمعها الرفض للدولة ولمؤسساتها ولسياستها ولخطواتها على رغم اختلافاتها الكثيرة هذا الواقع لتسجيل نقاط معينة على السلطة ولاعاقة المسيرة التي تقود، لكنها على رغم ذلك كله لا تعتقد بأن لبنان يقف حالياً على أبواب انتفاضة عمالية وشعبية وتالياً على أبواب أزمة اجتماعية لأسباب جوهرية عدة أهمها اختلاف الظروف الحالية عن الظروف التي سادت قبل زهاء سنة ونصف سنة والتي أدت الى انتفاضة السادس من أيار المعروفة. والتحذير المشار اليه أعلاه الذي أطلقه الرئيس كرامي وكذلك التهديد بالنزول الى الشارع وباللجوء الى الاضرابات لا ينبع في رأيها من معطيات واقعية ملموسة بقدر ما ينبع من رغبة عنده في الثأر من الحكومة وتحديداً من رئيسها رفيق الحريري. ويعتقد كرامي ان انتفاضة 6 ايار كانت من أجل التمهيد لدخول الحريري نادي رؤساء الحكومة في لبنان وكذلك انطلقت من رغبة أخرى في الثأر لدى رئيس الجمهورية الياس الهراوي الذي كان حلمه في ذلك الحين تأليف حكومة برئاسة الحريري ووجد ان الضائقة الاقتصادية والمعيشية توفر الفرصة العملية لترجمة الحلم. وتلخص المصادر السياسية المطلعة نفسها ظروف انتفاضة 6 ايار 1992 وتشرح اختلافها عن الظروف السائدة حالياً وذلك على النحو الآتي: 1- لم تكن للرئيس عمر كرامي المناعة الكافية ولا الرصيد الكبير الذي يطمئن المواطنين ولا القدرة على تحقيق الانجازات التي يطلبون ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي. ولم تكن له علاقات عربية وثيقة أو علاقات دولية وثيقة. أما الرئيس رفيق الحريري فانه يتحلى بمعظم المواصفات المشار اليها أعلاه. فعلاقاته العربية وثيقة جداً وعلاقاته الدولية وثيقة ولا سيما مع فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. وتاريخه اللبناني ولا سيما على صعيد الأعمال الخيرية، وأبرزها على الاطلاق مؤسسة الحريري للتعليم التي ساعدت آلاف الطلاب على اكمال دراساتهم الجامعية في لبنان والخارج، وسمعته الطيبة جعلا اللبنانيين يتمنون وصوله الى السلطة على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية، وقد عوض ذلك كله عدم الخبرة السياسية الاحترافية اذا جاز التعبير للحريري، كونه لم يشغل منصباً عاماً في لبنان من قبل. طبعاً تستدرك المصادر السياسية المطلعة نفسها، لم يتمكن الرئيس الحريري من تحقيق الآمال التي وضعها فيه الناس، وهي أيضاً آماله. ولم يتمكن من اطلاق ورشة اعادة البناء والاعمار على النحو الذي وعد والذي أراد على رغم المواعيد التي حدد لذلك. كما انه غاص في المعترك السياسي الاحترافي الداخلي وصار فريقاً في بعض الصراعات لكنه على رغم ذلك كله احتفظ ببعض الرصيد الكبير الذي كان له، يوم دخل جنة الحكم من خلال أمور عدة. 2- الصراعات السياسية الحادة كانت طاغية قبل مجيء الحريري الى رئاسة الحكومة. رئيس الجمهورية الياس الهراوي كان على خلاف مع رئيس الحكومة عمر كرامي. وكان على خلاف مع رئيس مجلس النواب حسين الحسيني. وكرامي وقف في النهاية الى جانب الحسيني الذي كان يسعى الى استمالته وأسهم بذلك رئيس الجمهورية بعدد من المواقف التي يعتبرها قريبون منه خاطئة. وقد شل ذلك عمل الدولة خصوصاً بعدما أبلغ رئيس الجمهورية الى سورية المعنية بلبنان والفاعلة فيه والموجودة على أرضه عسكرياً وسياسياً استحالة التعايش مع الحكومة الكرامية مثلما فعل قبل ذلك مع حكومة الرئيس سليم الحص. وأسهم ذلك كله في تأمين الأجواء لقيام الانتفاضة الشعبية والعمالية في السادس من ايار 1992 التي أطاحت كرامي وحكومته علماً ان هناك من يؤكد، وهو محق في تأكيده، ان جهات عدة دخلت على الخطين العمالي والشعبي لازاحة كرامي. اما الآن فإن الوضع مختلف. طبعاً لا يعني ذلك تطابقاً في المواقف والآراء والتصرفات بين الهراوي وبري وبين بري والحريري، فضلاً عن أن ذلك غير مطلوب، لكنه يعني ان التباين عندما يحصل لا يتحول خلافاً حاداً يصعب حله. وفي هذا المجال تشدد المصادر السياسية المطلعة على دور الأجواء السلمية في المنطقة في تحديد سقف الخلافات داخل السلطة اللبنانية، وهي اجواء لم تكن متوافرة في أثناء حكومة كرامي. 3- عدم ادراك سورية في أثناء حكومة كرامي عمق الخلافات بين أركان السلطة في لبنان وخطورتها وامكان انعكاسها على الأرض تشجيعاً لانتفاضة شعبية وعمالية بدأت مطلبية وتحولت سياسية وان من دون اعلان. وما يقال في هذا الشأن عن تشجيع سوري لما حصل في ذلك التاريخ أو عن ضلوع فيه ليس في محله على الاطلاق. والأدلة على ذلك كثيرة أبرزها قول المسؤولين السوريين للرئيس الهراوي كلما فاتحهم برغبته في تغيير الرئيس الحريري وحكومته: "خربتم الدنيا للمجيء به رئيساً للحكومة فطولوا بالكم". اما الآن فإن الوضع مختلف جداً، ذلك ان سورية لا تحتمل ان يختل الوضع الأمني في لبنان وتالياً السياسي نظراً الى الانعكاسات السلبية التي يمكن أن يرتبها ذلك عليها في هذه المرحلة. وهي مرحلة مواجهة اسرائيل سياسياً من خلال المفاوضات الثنائية لاستعادة الجولان المحتل ولتحصيل الحد الأدنى من الحقوق العربية. ولذلك بدت القيادة السورية واعية تماماً لما يجري على الساحة الرسمية العمالية اذا جاز التعبير واتخذت الخطوات اللازمة لمنع تكرار ما حصل في السادس من أيار 1992. وكان أبرزها اتصالها بواسطة عدد من قياداتها الأمنية الموجودة في لبنان بالقيادات والفاعليات الحزبية والسياسية والعمالية فضلاً عن الرسمية والابلاغ اليهم ان هز الوضع الأمني ممنوع أياً تكن الظروف وان عليها معالجة المطالب العمالية بالطريقة التي تريد شرط ان لا ينعكس ذلك على الاستقرار الأمني والاستقرار السياسي.