ولي العهد: هدفنا الوصول إلى اقتصاد عالمي متماسك من خلال تعزيز التعاون الدولي    اختتام أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي في الرياض    وزير الخارجية: نرغب في تعزيز جهود حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطين    7 دول طلبت من المحكمة الجنائية الدولية وقف اعتقال مسؤولين إسرائيليين    هل يُغادر صلاح ليفربول وينتقل إلى الاتحاد؟ صحفي إنجليزي يُجيب!    إنقاذ معتمرة عراقية توقف قلبها عن النبض    وزير الدولة للشؤون الخارجية يلتقي بالممثل الخاص للاتحاد الأوروبي لمنطقة الخليج    جازان: القبض على 8 مخالفين لنظام الحدود لتهريبهم 160 كيلوغراما من نبات القات    75.3 مليار ريال إيرادات السعودية للكهرباء في 2023    هيئة تطوير المنطقة الشرقية تشارك في منتدى التكامل اللوجستي 2024    الاحتلال اعتقل 8505 فلسطينيين في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر    أمير الشرقية يقلد قائد قوة أمن المنشآت برأس تنورة رتبة لواء    أمين منطقة حائل يفتتح معرض أسبوع البيئة 2024    الاعلان عن الأفضل في دوري روشن في أبريل    نصف نهائي "أغلى الكؤوس".. ظروف متباينة وطموح واحد    شراكة عالمية لجمع 500 مليون دولار لمبادراتٍ في مجال التعليم    أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة    «سلمان العالمي» يُطلق أوَّلَ مركز ذكاء اصطناعي لمعالجة اللغة العربية    أخبار سارة في تدريبات الهلال قبل الكلاسيكو    الكلية التقنية للبنات بجدة تطلق هاكاثون تكنلوجيا الأزياء.    زلزال بقوة 5 درجات يضرب شرق تايوان    أمير المدينة يستقبل سفير إندونيسيا لدى المملكة    أمير المدينة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب بالجامعة الإسلامية    النيابة العامة: التستر وغسل الأموال يطيح بوافد و3 مواطنين لإخفائهم 200 مليون ريال    "جائزة الأميرة صيتة" تُعلن أسماء الفائزين بجائزة المواطنة المسؤولة    القبض على 8 أشخاص لقيامهم بالسرقة وسلب المارة تحت تهديد السلاح    افتتاح الملتقى السنوي الثاني للأطباء السعوديين في إيرلندا    سياسيان ل«عكاظ»: السعودية تطوع علاقاتها السياسية لخدمة القضية الفلسطينية    أمطار مصحوبة بعدد من الظواهر الجوية على جميع مناطق المملكة    «مطار الملك خالد»: انحراف طائرة قادمة من الدوحة عن المدرج الرئيسي أثناء هبوطها    بيئي الشرقية يدشن معرض ( تعرف بيئتك ) بالخُبر    وزيرا الإعلام والعمل الأرميني يبحثان التعاون المشترك    الفيحاء يتوّج بدوري الدرجة الأولى للشباب    اللواء الزهراني يحتفل بزفاف نجله صلاح الدين    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    الأهلي بطلاً لكأس بطولة الغطس للأندية    فيصل بن بندر يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر ويستقبل مجلس جمعية كبار السن    دولة ملهمة    «رابطة العالم الإسلامي» تُعرِب عن قلقها جرّاء تصاعد التوترات العسكرية في شمال دارفور    ديوانية الراجحي الثقافيه تستعرض التراث العريق للمملكة    النقد وعصبية المسؤول    مهنة مستباحة    نائب أمير مكة يطلع على تمويلات التنمية الاجتماعية    فئران ذكية مثل البشر    إستشاري يدعو للتفاعل مع حملة «التطعيم التنفسي»    منجزات البلدية خلال الربع الأول بحاضرة الدمام    اكتمال جاهزية كانتي.. وبنزيما انتظار    جامعة «نورة» تفتتح منافسات الدورة الرياضية لطالبات الجامعات الخليجية    المصاعد تقصر العمر والسلالم بديلا أفضل    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    صحن طائر بسماء نيويورك    ذكاء اصطناعي يتنبأ بخصائص النبات    تطبيق علمي لعبارة أنا وأنت واحد    أمير تبوك يواسي أبناء أحمد الغبان في وفاة والدهم    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    المسلسل    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حروب وازمات وحلول وتسويات وقمم ومؤتمرات . ذاكرة العالم في العام 1995
نشر في الحياة يوم 25 - 12 - 1995

لا يمكن "عزل" عام واحد أو فصل أحداثه عما سبقه أو ما سيليه. فالحياة مستمرة، كما يقول الفرنسيون، وما يحدث اليوم لا بد أن يكون على علاقة بما حدث الأمس وبما يمكن أن يعقبه غداً. واستمرارية الأحداث وترابطها، وتداخل أسبابها وخلفياتها مع نتائجها وآثارها، أمر مفروغ منه مهما اختلفت ظروف الزمان والمكان.
ومع ذلك فإن لكل عام خصائصه وأحداثه وعناوينه والعام 1995 الذي يوشك على إسدال ستاره مؤذنا بمجيء عام 1996 لا يشذ عن هذه القاعدة، بل انه سيترك ذكريات وانطباعات وصوراً ومشاهد وفصولاً في مفكرة كل منا.
ذاكرة 1995 حافلة بالحروب والنزاعات والمآسي في مقابل المفاوضات والاتفاقات والهدنات، بعضها أثبت قدرته على الصمود والبعض الآخر لم يكن أكثر قيمة من الحبر والورق. 1995 عام انتخابات واستفتاءات وتحولات، كما هو عام اضرابات واحتجاجات وتظاهرات وهجمات ارهابية كان بعضها فريداً من نوعه سواء من حيث شراسته أم من حيث مكانه وزمانه وأهدافه. وكان ايضاً عام كوارث طبيعية وهموم بيئية وأوبئة صحية واجتماعية، كما كان عام اكتشافات طبية وعلمية وقفزات تكنولوجية. وهو أيضاً كان عام قمم ومؤتمرات واجتماعات وانجازات سياسية وديبلوماسية واقتصادية.
البوسنة والشيشان وافغانستان
من هذا المنطلق تعود العناوين الكبرى لعام 1995 الى البروز لتطغى على ما عداها. فمأساة البوسنة وحروب الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة تواصلت طوال العام من دون هوادة، ودخلت الى قاموسها السياسي والعسكري مفردات ومحطات جديدة، من تدمير سريبرينتسا وإبادة سكانها أو تهجيرهم على يد الصرب، الى مجزرة السوق في ساراييفو التي أدت الى اتخاذ الحلف الأطلسي قراره شن غارات جوية على المواقع الصربية، ومن عملية "العاصفة" الكرواتية الهجومية التي نجحت في اخراج الصرب من أقليم كرايينا وعاصمته كنين واعادته الى السيادة الكرواتية، الى الهجوم البوسني - الكرواتي المشترك الذي أعقبها وأسفر عن فك الحصار عن بيهاتش وتحرير مناطق شاسعة من وسط البوسنة وشمالها، وصولا الى الوساطة الاميركية ومساعي المبعوث ريتشارد هولبروك التي أثمرت اتفاق دايتون الشهير الذي تم توقيعه رسميا في باريس ليشكل الأساس لوقف الحرب وانهاء الأزمة اليوغوسلافية واعادة تعمير جمهورياتها السابقة باشراف أكثر من 60 ألف جندي أميركي وأطلسي ودولي تقرر إرسالهم لحفظ السلام فيها.
وفيما كانت الأزمة اليوغوسلافية وحروبها كفيلة باشغال أوروبا والعالم على امتداد العام، فإن مناطق أخرى كانت مسرحاً لحروب وصراعات لا تقل وحشية ودموية وتدميرا، وهي لا تزال متأججة من دون ظهور أي بوادر على قرب توقفها. فالحرب في الشيشان، التي دخلتها القوات الروسية أواخر عام 1994 على أمل انهاء الانفصال الذي أعلنه زعيمها جوهر دودايف لا تزال مستمرة بعدما أودت حتى الآن بحياة عشرات الألوف من المدنيين والعسكريين على حد سواء. وينطبق الوضع نفسه على طاحونة التدمير الدموية المستمرة في افغانستان منذ انسحاب القوات السوفياتية منها. فالفصائل المتنازعة لا تزال على مواقفها، وحركة "طالبان" الاسلامية المتشددة مصممة على اسقاط نظام الرئيس برهان الدين رباني وقائده العسكري أحمد شاه مسعود.
"الحروب الصغيرة"
والصراعات العسكرية لم تكن حكراً عام 1995 على يوغوسلافيا السابقة والشيشان وافغانستان، إذ أن عدداً كبيراً منها ظل مندلعاً، بأشكال مختلفة في انحاء أخرى من العالم. ففي الجمهوريات السوفياتية السابقة استمر الصراع الأهلي في جورجيا خصوصاً في اقليم أبخازيا الذي يحاول الانفصال عنها. وكان الوضع مشابهاً في طاجيكستان بين الحكومة وقوات المعارضة التي تتألف في معظمها من عناصر اسلامية متشددة. كذلك استمر الوضع المتأزم بين جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان اللتين تتنازعان منذ سنوات على اقليم ناغورنو قره باخ. وفي افريقيا، لا يزال الوضع في الصومال على حاله من تفكك كامل وغياب لأي سلطة وطنية مركزية فيما الميليشيات والأطراف القبلية والعشائرية المتناحرة تخوض نزاعاً دائماً للسيطرة على مناطق البلاد ومدنها، وهو نزاع تكرّس الغياب الدولي عنه في أعقاب انسحاب القوات الاميركية والدولية مطلع العام بعد محاولة فاشلة قامت بها لاعادة شكل من أشكال النظام اليها، ومساع لم تثمر لايجاد تسوية سياسية، كذلك لم تفلح رواندا في التخلص من آثار الابادة الجماعية التي تبادلتها قبيلتا التوتسي والهوتو، وأدت الى مقتل حوالي مليون شخص عام 1994. وعلى رغم الانتصار الذي حققته في ما بعد قوات جبهة تحرير رواندا وهي من أقلية التوتسي على الحكومة السابقة وتوليها مقدرات الأمور في العاصمة كيغالي بقيادة زعيمها الجنرال بول كيغامي، فإن الوضع لا يزال أبعد ما يكون عن الاستقرار، بل انه يهدد بالامتداد الى بوروندي المجاورة التي تعاني مشكلة مماثلة. ولم يكن السودان خلال العام أفضل حالا من جيرانه الأفارقة. فمع أزماته الداخلية السياسية والاقتصادية، استمرت الحرب في جنوبه بين القوات الحكومية والجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون غارانغ، والفصائل المتفرعة عنه والمتنافسة معه، ليضاف الى هذه المتاعب وازدياد حدة التوتر بين الخرطوم وكل من اوغندا واريتريا، ناهيك عن التأزم المزمن الذي كاد يصل عام 1995 الى شفير المواجهة العسكرية مع مصر.
افريقيا: نزاعات وتسويات
وربما يكون حظ القارة الافريقية أفضل خلال العام المقبل في ضوء انجازات تحققت العام 1995، أقله في ما يتعلق بكل من ليبيريا وأنغولا، حيث أسفرت المساعي والوساطات الدولية عن اتفاقين قد يؤديان الى اجراء انتخابات وانهاء مسلسل الحروب. لكن الأمور تسير بخطوات بطيئة ومترددة. وتختتم القارة السوداء هذا العام بخلاف يبدو مرشحا للتصاعد بين "عملاقيها" جنوب افريقيا ونيجيريا. فالواضح ان الرئيس نلسون مانديلا عازم على لعب دور "الضمير الأخلاقي" في السياسات الافريقية، وهو دور يؤهله له موقعه الفريد الذي يتمتع به معنويا ليس في افريقيا فحسب، بل وعلى المستوى الدولي الواسع. وانطلاقا من هذا الدور، برزت جنوب افريقيا في مقدم المنتقدين لنظام حكم الجنرال ساني أباشا العسكري في نيجيريا والمطالبة بفرض عقوبات سياسية واقتصادية عليه بسبب السياسات المتشددة التي ينتهجها وقمعه المعارضة ورفضه تسليم الحكم للمدنيين واجراء انتخابات في البلاد. وازدادت الأزمة بين البلدين حدة على أثر قيام النظام النيجيري باعدام مجموعة من المعارضين على رأسهم الكاتب والناشط البيئي كين ساراويوا على رغم الاحتجاجات والنداءات الدولية. لكن الرئيس مانديلا يكتشف شيئا فشيئا ان "السياسة الدولية شيء والأخلاق شيء آخر"، اذ سرعان ما اصطدمت دعوته الى مقاطعة الجنرال أباشا بمعارضة دول افريقية عدة شعرت ان مصالحها مع نيجيريا أقوى من المواقف المثالية. ومع امتناع دول كبرى أيضا، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واليابان، عن مقاطعة نيجيريا اقتصادياً نفطياً واقتصارها على الاستنكار اللفظي والاعلامي، تراجعت جنوب افريقيا عن حماسها، لكن الشرخ الحاصل على الصعيد الافريقي العام بدا واضحا، الى حد لم يعد مستبعداً معه أن تشهد القارة في المرحلة المقبلة اعادة توزيع للتحالفات بين دولها على أساس كتلتين رئيسيتين احداهما تسير وراء جنوب افريقيا وزعامتها الصاعدة بينما تتولى نيجيريا زعامة الكتلة المقابلة، خصوصاً في دول غرب افريقيا ووسطها.
المجتمعات الصناعية والارهاب والفساد
والأزمات والمشاكل السياسية والاقتصادية لم تكن عام 1995 حكراً على أقطار العالم الثالث والدول الصغيرة والنامية، بل انها أصابت مجتمعات صناعية رئيسية. ومن أبرز هذه الظواهر "الارهاب الداخلي". وكان العام قاسيا في صورة خاصة على اليابان التي استقبلته باكراً بزلزال قوي هزّ مدينة كوبي الصناعية وأدى الى مقتل أكثر من 5 آلاف شخص واصابة عشرات الآلاف وتدمير المدينة تقريبا. وجاءت عملية تسريب الغازات السامة في أنفاق المترو في طوكيو التي نفذتها جماعة دينية متطرفة تنادي بنهاية العالم وتطلق على نفسها اسم "أوم شين ركيو" الحقيقة المطلقة. هذه المرة اهتز المجتمع الياباني برمته، خصوصاً في ضوء ما كشفته التحقيقات من تفاصيل عن نشاطاتها ومحاولاتها المتكررة لانتاج الغازات السامة وتخزينها بكميات كبيرة تمهيداً لاستخدامها في عمليات لاحقة. كما انها كانت كفيلة باعادة فتح الكثير من الملفات والذكريات القديمة التي كان اليابانيون يأملون أو يتظاهرون بأنها أصبحت من الماضي ولم يعد لها مكان في مجتمع بالغ الحداثة والتطور كالمجتمع الياباني بعد نصف قرن على انتهاء الحرب العالمية الثانية. لكن هذه الجماعة أظهرت ان الشروخ بين الحديث والقديم وبين التطور والتطرف والانغلاق لا تزال موجودة في اليابان، وان القفزات الهائلة التي حققها هذا المجتمع في الاقتصاد والتكنولوجيا والرخاء الاجتماعي ليست كافية، اضافة الى الأزمات السياسية والفضائح الحكومية التي أحاطت بالمؤسسة السياسية الى حد باتت اليابان تقارن بايطاليا.
وأصابت ظاهرة الفساد "عملاقاً" اقتصادياً آخر هو كوريا الجنوبية، وهي احدى الدول التي يطلق عليها اسم "نمور آسيا" نظراً الى أدائها الاقتصادي الباهر خلال السنوات الماضية، حيث جرى اعتقال رئيسين سابقين للجمهورية بتهم الفساد وقبض الرشاوى وقمع الحركات المعارضة، والرئيسان هما نو تي وو وسلفه شون دو وان اللذان حكما البلاد بيد من حديد طوال عقد من الزمن. وهما عسكريان سابقان، واليهما يعود الفضل في اطلاق النهضة الصناعية والاقتصادية الضخمة التي شهدتها كوريا الجنوبية. لكن الواضح ان لكل شيء ثمنه ولكل انجاز استحقاقه. فالأول اعترف باكياً أمام الملأ بأنه قبض رشاوى لا يقل مجموعها عن 600 مليون دولار خلال سنوات حكمه من أرباب الصناعة والتجارة والمال في البلاد تسهيلا لأعمالهم ونشاطاتهم في الداخل والخارج، في حين قبض على الثاني بتهمة التسبب في قتل المئات والبعض يقول الآلاف من الطلاب الذين تظاهروا ضد حكمه العسكري مطالبين بالعودة الى الديموقراطية في مطلع الثمانينات. وهذه القضية، التي لا تزال تتفاعل، كشفت طبيعة العلاقة الوثيقة التي كانت قائمة، ولا تزال على الارجح، بين المجمّع الصناعي - المالي والمؤسسة العسكرية - السياسية على حساب الديموقراطية وحقوق الانسان والحريات الاعلامية والسياسية. والسؤال الذي يشغل الكوريين الآن هو: هل كانت تلك النهضة الاقتصادية ممكنة في ظل نظام ديموقراطي؟ وفي الانتظار يعيش المجتمع الكوري الجنوبي تحت وطأة الصدمة الناجمة عن عملية التطهير السياسي في الوقت الذي "يتنعّم" فيه هذا المجتمع بثمار الانجازات الاقتصادية التي حققها حكامه السابقون المتهمون حالياً محرزاً أحد أعلى معدلات النمو في العالم، فيما يعاني الكوريون الشماليون وطأة الفقر المدقع وخطر المجاعة بقيادة سلالة كيم إيل سونغ الشيوعية ممثلة بابنه الرئيس الغائب عن الأنظار كيم جونغ إيل.
آسيا والأزمات "التقليدية"
والتأزم الدوري الذي تشهده بين الحين والآخر الحدود بين الكوريتين انتقلت عدواه الى "العملاق" الآسيوي الآخر الصين وجزيرتها الخارجة عن طاعتها تايوان. فقد تميّز 1995 بارتفاع كبير في درجة "حرارة" الموقف بين الجانبين، خصوصاً في أعقاب موافقة الولايات المتحدة على منح تأشيرة دخول للرئيس التايواني مكّنته من القيام بزيارة "خاصة" اليها، الأمر الذي اعتبرته بكين نوعاً من التكريس الاميركي للوضع القائم في تايوان و"صفعة" للموقف الصيني التقليدي الداعي الى انهاء الحكم "غير الشرعي" في الجزيرة واعادتها الى السيادة الصينية. لكنه خلافا للوضع الكوري، فإن الخلاف بين الصين وتايوان لم يعد عقائدياً، بقدر ما بات تنافساً على مبدأ التمسك بالوضع القائم.
وتبقى طبعاً ساحة التوتر التقليدية الأخرى في آسيا، وهي النزاع الهندي - الباكستاني على كشمير الذي هدد في اكثر من مرة خلال هذا العام بمواجهة مباشرة بين الدولتين. وحتى الآن، أظهر الجانبان قدرة على تجنب الوقوع في مأزق خطير كهذا علماً بأن العلاقات بينهما تمر منذ مدة غير قصيرة بفتور بالغ، في الوقت الذي يعاني فيه البلدان من أوضاع داخلية متوترة لا سيما على صعيد الارهاب والخلافات المذهبية والعرقية. وهناك مخاوف جدية من أن تؤدي هذه الضغوط الداخلية وتزايد عوامل عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الى تلاشي قدرة الحكومتين فيهما على تلافي ما أمكن لهما تلافيه عام 1995، ووصول الاحتكاك المستمر بينهما حول القضية الكشميرية الى نزاع مسلح.
أوكلاهوما والغرب الأميركي
وبعيداً عن القارة الآسيوية وتعقيداتها التقليدية كانت الولايات المتحدة خلال 1995 مسرحاً لصدمة داخلية ندر أن شهدت مثلها. فانفجار أوكلاهوما الذي أصاب الاميركيين في عقر دارهم أواسط العام وأودى بحياة حوالي 200 شخص وجرح مئات آخرين، لم يكن ناجماً عن عناصر ارهابية خارجية، كما ساد الاعتقاد للوهلة الأولى، بل كانت مسؤولة عنه أيدٍ أميركية محلية، الأمر الذي سلط الضوء على ظاهرة التطرف اليميني والعنصري الأبيض داخل المجتمع الأميركي، والذي وصل في "جنونه" الى حد التلويح بالدخول في حرب أهلية مفتوحة ضد ما يعتبره دعاة هذا التطرف خطر الحكومة الفيديرالية وسلطاتها المركزية على "الحريات الفردية" والمثل العليا التي قامت عليها الولايات المتحدة منذ نشأتها. وربما كان هذا التطرف الفاقع الذي تعبر عنه تيارات وتنظيمات وميليشيات مسلحة لا يزال هامشياً بالمقارنة مع الحجم العام للجسم السياسي الأميركي، لكن انفجار أوكلاهوما وأحداثاً أخرى أقل شأناً انما مشابهة من حيث دلالاتها، كانت مؤشراً الى أزمة حقيقية بات هناك شبه إجماع لدى أوساط اميركية سياسية وأكاديمية عدة على ضرورة معالجتها، وهي تتعلق أساساً بالطريقة التي ينظر بها الاميركيون الى الحكومة الفيديرالية في واشنطن، الى جانب نظرتهم الى المشاكل الحادة التي يعانيها مجتمعهم من بطالة وعنصرية وجريمة ومخدرات، وازدياد الاقتناع لدى قطاعات عريضة من ذلك المجتمع بأن السلطات المركزية لا تقوم بما يكفي لحمايتهم والدفاع عن مصالحهم. لكن الأخطر من ذلك كله ان هذا التطرف على صغر حجمه كان تعبيراً عن اتساع الهوة داخل المؤسسة السياسية نفسها بين اليمين الجمهوري التقليدي من جهة واليسار الديموقراطي الليبرالي من جهة أخرى. وهذه الهوة عبّرت عنها انتخابات الكونغرس التي أسفرت عن نجاح الجمهوريين، وتحديداً الجناح اليميني في الحزب الجمهوري، وأدت الى سيطرتهم للمرة الأولى منذ أربعين عاماً على مجلسي الشيوخ والنواب ليصبح الكونغرس على طرف نقيض مع إدارة الرئيس كلينتون الديموقراطية.
لكن ما بدأ سيئاً للرئيس كلينتون انتهى جيدا الى حد فاجأ الجميع. فالرئيس الاميركي استقبل عام 1995 وهو في موقع ضعيف للغاية: كونغرس معاد، سياسات داخلية شبه مشلولة، سياسة خارجية جامدة، استطلاعات رأي عام سلبية. وبدا في وقت من الأوقات ان كلينتون لن يجرؤ على مجرد التفكير في امكان الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة خريف عام 1996. لكن الرئيس، المعروف بقدرته على البقاء واسترجاع المواقع المفقودة، نجح في استعادة المبادرة. وها هو العام يشارف على الانتهاء وكلينتون يمر باحدى أفضل مراحل رئاسته: نجاح في مواجهة الكونغرس الجمهوري، لا سيما في افشال جميع مخططات الجمهوريين لاقتطاع المصاريف الحكومية وشل عمل الادارة، خفوت نجم المنافسين الجمهوريين المحتملين، بدءاً من نيوت غينغريتش زعيم الغالبية في مجلس النواب، وصولاً الى روبرت دول زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ والمنافس الجمهوري الاكثر ترجيحاً للرئاسة، مروراً بقرار الجنرال كولين باول رئيس الاركان السابق عدم ترشيح نفسه للانتخابات بعد أن بدا المرشح الاكثر شعبية للفوز فيها. وفيما يشهد الاقتصاد الاميركي تحسناً مطرداً، يسجل الرئيس كلينتون نجاحات متتالية على صعيد السياسة الخارجية. فمن التوصل الى اتفاق التسوية في البوسنة بفضل الوساطة الاميركية، الى النجاح في تجاوز معارضة الكونغرس لارسال قوات اميركية لحفظ السلام فيها. ومن اتفاق واشنطن الاسرائيلي - الفلسطيني الى عودة الحياة الى المفاوضات على المسار السوري - الاسرائيلي. ومن دخول الولايات المتحدة على خط التسوية الجارية حاليا للأزمة الايرلندية الى الجولة الأوروبية التي قام بها الرئيس الاميركي أخيراً واتسمت بنجاح كبير. اما نتائج احدث الاستطلاعات للرأي العام في الولايات المتحدة فعادت لتشير من جديد الى أن كلينتون سيكون الأوفر حظاً للفوز بانتخابات الرئاسة عام 1996.
انتخابات واستفتاءات
والانتخابات والاستفتاءات كانت سمة أساسية عام 1995، وستكون كذلك على الأرجح العام المقبل. وفي بعض الحالات، جاءت النتائج كما اشتهت الحكومات والاحزاب الحاكمة. اما في حالات أخرى فكانت الأمور عكس ذلك تماما. ففي كندا، الجارة الشمالية للولايات المتحدة، نجح دعاة المحافظة على وحدة البلاد في افشال خطط المنادين بانفصال ولاية كيبيك الناطقة بالفرنسية، وجاءت نتيجة الاستفتاء الذي أجري في هذا الشأن متقاربة جداً، لكنها كافية لتسجيل انتصار مهم للوحدويين بقيادة رئيس الحكومة الفيديرالية جان كريتيان وهو نفسه كيبيكي على الانفصاليين بقيادة خصمه الكيبيكي اللدود لوسيان بوشار. وفي جمهورية ايرلندا، التي كانت لا تزال الدولة الأوروبية الوحيدة التي تحرّم الاجهاض، أدى استفتاء الى انتصار مؤيدي السماح به ولو بشروط لا تزال الأقسى من نوعها في أوروبا على المعارضين الذين تدعمهم الكنيسة الكاثوليكية ذات النفوذ القوي جدا في البلاد، وتم ذلك بغالبية ضئيلة بلغت أقل من 10 آلاف صوت أقل من واحد في المئة من المقترعين. اما في بولونيا فكانت المفاجأة الكبرى فشل الرئيس ليخ فاونسا في الانتخابات التي جرت قبل أسابيع وفوز غريمه الكسندر كفاشفنيسكي الشيوعي السابق وزعيم تكتل اليسار الديموقراطي. وحملت هذه النتيجة معاني رمزية عدة. فانتصار نقابة "التضامن" العمالية على الحكومة البولونية خلال الثمانينات جعل من زعيمها فاونسا آنذاك رمزاً عالمياً في مواجهة الشيوعية، بل أن ما جرى في بولونيا اعتبر بمثابة الحلقة الاولى من المسلسل الذي أدى في النهاية الى انهيار الأنظمة الشيوعية في دول أوروبا الشرقية وصولا الى تفكك حلف وارسو وهدم جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية مطلع التسعينات. لكن "لكل زمان دولة ورجال"، كما يقول المثل العربي، وسقوط فاونسا لم يكن سوى خطوة من خطوات مماثلة عدة تشهدها منذ فترة الأنظمة الديموقراطية الناشئة في أوروبا الوسطى والشرقية ضمن ظاهرة متزايدة برزت خلال عام 1995 ينتظر أن تتكرر العام المقبل خصوصا في روسيا، وهي تتمثل في عودة المقترعين الى اختيار الأحزاب الشيوعية واليسارية التي خلفتها تعبيراً عن الاستياء المتصاعد ازاء تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والسياسية في تلك الدول.
وفي الوقت الذي يواجه فيه الرئيس الروسي بوريس يلتسن صعوبات متزايدة بدءا من اعتلال صحته الشخصية ومروراً باعتلال صحة اقتصاد بلاده وصولاً الى المشكلة المستمرة في الشيشان وتكاثر عدد المنافسين له يميناً ويساراً استعداداً للانتخابات الرئاسية المقرر اجراؤها صيف العام المقبل، فإن ظروف زميله الفرنسي جاك شيراك ليست أقل صعوبة. بل ربما كان ممكنا القول ان شيراك كان الاسوأ حظاً بين جميع شخصيات 1995. فما بدا للوهلة الاولى عند انتخابه رئيسا جديدا على فرنسا الربيع الماضي وكأنه انتصار كبير أدى الى عودة اليمين الديغولي الفرنسي الى الحكم بعد 14 عاما من رئاسة الاشتراكي فرنسوا ميتران، تحول بسرعة الى كابوس متلاحق من التطورات السلبية التي يحتار الكثيرون في ايجاد تفسير أو تبرير مقنع لها باستثناء انها كانت على الارجح ناجمة عن مزيج من سوء الادارة وسوء التوقيت وسوء الظروف الداخلية والخارجية وسوء الحظ. اذ لم يكن مضى على توليه الرئاسة أسابيع حتى واجه شيراك انعكاسات قراره القاضي باستئناف التجارب النووية في منطقة المحيط الهادي على شكل ضجة دولية وحركات احتجاجات ومقاطعة للمنتجات الفرنسية في دول عدة اشتملت حتى على حليفات فرنسا الاوروبيات. وما لبث ان تبع ذلك دخول الفرنسيين أتون التفجيرات المتتالية التي كانت العاصمة باريس ومدن أخرى مسرحاً لها طوال فصل الصيف ما أدى الى كساد الحركة السياحية. وكأن تلك التفجيرات، التي ألقيت تبعتها على عناصر اسلامية جزائرية متشددة أغضبتها سياسة فرنسا حيال النزاع الدائر في الجزائر بين السلطة والجماعات الاسلامية، لم تكن كافية لقضّ مضاجع الفرنسيين ليعقبها في الخريف بدء حملة الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة النطاق على الاجراءات التي أعلنت حكومة رئيس الوزراء ألان جوبيه العزم على تنفيذها لاصلاح الوضع الاقتصادي الفرنسي المتعثر منذ سنوات استعداداً للبدء بتطبيق اتفاق توحيد العملة الأوروبية حسب معاهدة "ماستريخت" المقرر قبل نهاية القرن. وسرعان ما تحولت هذه الحملة العارمة الى موجة اضرابات وتظاهرات تنذر في حال تصاعدها بشلل كامل في البلاد.
أوروبا ومحيطها
وفي أوروبا عموماً، لا تزال معاهدة ماستريخت وخطوات الدمج النقدية والاقتصادية والمسائل المتفرعة عنها، كتزايد البطالة وظاهرة المهاجرين الجدد الى دولها الثرية من دول القارة الأفقر شرقاً وجنوباً أو من الدول غير الأوروبية، الى جانب قضية رفع الحدود بين دول الاتحاد نفسها، وظاهرة الارهاب والتهريب، ومسائل التعاون الأمني والدفاعي، تشغل الحكومات والناخبين على حد سواء. ويتكاثر عدد الزعماء الاوروبيين الذين يتعين عليهم مواجهة أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية متصاعدة وهم يستعدون لخوض الانتخابات في بلادهم في ظروف غير ملائمة. وبرز هذا الوضع خلال عام 1995 في صورة خاصة في بريطانيا التي نجح رئيس وزرائها المحافظ جون ميجور أواسط العام في اجتياز تحد أساسي من داخل حزبه لزعامته مصدره معارضو خطوات الدمج الاوروبية، لكنه لن يكون واثقا من قدرته على الفوز بانتخابات مجلس العموم المقبلة على حزب العمال المتجدد بقيادة طوني بلير. وفي اسبانيا يواجه حزب رئيس الحكومة الاشتراكي فيليبي غونزاليس خطر الهزيمة للمرة الأولى منذ أواسط الثمانينات تحت وطأة سلسلة من الفضائح الامنية والمالية والسياسية. اما في المانيا، فإن المستشار هيلموت كول يواجه بدوره تحديات متزايدة في الوقت الذي لم يتمكن فيه الاقتصاد الالماني من تجاوز التبعات الثقيلة التي خلّفها توحيد البلاد قبل خمس سنوات.
وعلى صعيد دولي أوسع لا تزال القارة الاوروبية تسعى لصياغة دور جديد لها على مسرح الأحداث العالمي منذ الغموض الذي أحاط بهذا الدور في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وسقوط نظرية المعسكرين الغربي والشرقي التي حكمت السياسة العالمية طوال نصف قرن تقريبا. فدول الاتحاد الأوروبي تعمل من أجل تكريس خطوات تكاملها السياسي والاقتصادي، لكنها تواجه في الوقت نفسه معضلات جوهرية على صعيد علاقاتها المستقبلية المفترضة مع محيطها، خصوصا مع دول وسط القارة الاوروبية وشرقها وجنوبها التي يرغب العديد منها في الانضمام الى الاتحاد تركيا وتشيكيا وبولونيا ما هي الا بعض الأمثلة على هذه الرغبة، ومع الدول غير الأوروبية الطامحة الى اقامة علاقات خاصة معه، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. وربما كان مؤتمر برشلونة الاوروبي - المتوسطي الذي انعقد أواخر تشرين الثاني نوفمبر الماضي مجرد خطوة أولى على طريق التكامل الاقليمي الذي كثر الحديث عنه عام 1995، لكنه لا يزال يصطدم بعقبات أساسية لا بد من ايجاد الحلول لها. اما الاطار الاوروبي الجامع الثاني، أي حلف شمال الاطلسي ناتو، فيواجه بدوره خيارات صعبة. فالحلف يستعد حالياً لخوض أول عملية حفظ سلام مشتركة في تاريخه العسكري عندما ستبدأ قواته بمراقبة تنفيذ اتفاق التسوية في البوسنة، وهو يعكف على صياغة مستقبل علاقاته مع دول أوروبا الشرقية، خصوصاً روسيا، في ضوء احتمالات توسعه شرقا خلال المرحلة المقبلة، كما سيتعين عليه ايجاد الصيغ الملائمة لأطر العلاقات التي ستربط بينه وبين الاتحاد الاوروبي عندما يصبح هذا الأخير حقيقة واقعة في نهاية القرن. وفي هذه الأثناء كان على الحلف اختيار أمين عام جديد خلفا للبلجيكي ويلي كلاس الذي اضطر الى الاستقالة على أثر انكشاف أمر فضيحة مالية حدثت عندما كان وزيرا للاقتصاد في حكومة بلاده الاشتراكية في الثمانينات. وبعد مداولات ومشاكسات، وقع اختيار الحلف على المرشح الذي دعمته واشنطن لهذا المنصب، وهو وزير الخارجية الاسباني خافيير سولانا الذي تم انتخابه بالإجماع.
الشرق الأوسط و"الاستمرارية"
وتبقى المنطقة العربية والشرق الاوسط الذي ربما كانت كلمة "الاستمرارية" هي التعبير الأفضل لما شهدته من أحداث عام 1995، باستثناء واقعة واحدة كانت الحدث الأبرز هذا العام لا على مستوى المنطقة فحسب بل وعلى الأرجح في العالم أجمع، وهي اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين على يد متطرف يهودي اعتبر أن رئيس الحكومة السابقة "فرّط بأرض اسرائيل" عندما وقّع على اتفاقات السلام مع الفلسطينيين. لكن الاغتيال كشف في المقابل عن عمق الانقسام وحدّته داخل المجتمع الاسرائيلي حيال مسألة التسوية والسلام بين الدولة العبرية والعرب. وهذا الانقسام لا يزال قائما، بل انه مرشح للتصاعد مع كل مرحلة من مراحل العملية السلمية. وقد لا يكون من المبالغ فيه القول ان حسم هذا الجدل السياسي والعقائدي والفلسفي، من شأنه أن يحدد لا مستقبل عملية السلام فحسب، بل وهوية المجتمع الاسرائيلي ودور اسرائيل وطبيعة وجودها في المنطقة أيضاً.
في هذه الأثناء، تستمر العملية السلمية. ولعله من المفارقات ان اغتيال رابين ساهم من حيث لا يشاء قاتله طبعا في اعادة تنشيط هذه العملية، خصوصا على مسارها السوري الحيوي. فبعد جمود طويل لم تفلح في إزالته محاولات قامت بها الولايات المتحدة من خلال وزير خارجيتها وارن كريستوفر والمنسّق الخاص دنيس روس، وكذلك المباحثات التي عقدها في واشنطن في حزيران يونيو الماضي رئيسا أركان البلدين العماد حكمت الشهابي والجنرال أمنون شاهاك ولم تحقق أي ايجابيات في ما يختص بالترتيبات الأمنية المتبادلة التي يريدها الجانبان أساساً لأي تسوية سياسية بينهما، يقترب العام من نهايته الآن مع آمال متزايدة بامكان كسر هذا الجمود والبدء بمرحلة جديدة من المفاوضات التي قد تؤدي الى تقدم ملموس.
واللافت ان رئيس الحكومة الاسرائيلية الجديد شمعون بيريز يكرر رغبته في التوصل الى تسوية سريعة مع دمشق، وهي رغبة تجاوبت وسائل الاعلام السورية معها في صورة ملحوظة وأشادت بالايجابيات التي قد تنشأ عنها. كما أن الواضح ان الادارة الاميركية عازمة على الدفع قدما في هذا الاتجاه ربما على أمل منها بالتوصل الى نتائج قبل انتخابات الرئاسة الاميركية والانتخابات العامة الاسرائيلية في أواخر العام المقبل.
ومع عودة النشاط الى المسار السوري، استمرت العملية السلمية طوال العام على مسارها الفلسطيني ونجحت في تجاوز الكثير من العوائق والألغام والتفجيرات التي استهدفت تخريب ذلك المسار وإيقافه. وكان أبرز الانجازات توصّل الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي الى اتفاق واشنطن الذي مهد لتنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق أوسلو، بما في ذلك استكمال انسحاب القوات الاسرائيلية من مدن الضفة الغربية وقراها والاعداد للانتخابات الفلسطينية التي ينتظر اجراؤها مطلع العام الجديد. أما على المسار الأردني فإن سمة 1995 البارزة كانت تسارع خطوات تطبيع العلاقات والدخول في برنامج تعاون بين الأردن واسرائيل تطبيقاً لبنود معاهدة السلام التي وقعها البلدان أواخر عام 1994. وكانت قمة عمّان الاقتصادية التي عقدت أواخر تشرين الاول اكتوبر الماضي تكريساً للعزم الأردني على التوصل الى صيغة جديدة من علاقات التعاون الاقليمي بين دول المنطقة، بما فيها اسرائيل، وعنوانا لمرحلة مقبلة فيها ربما كانت تنتظر حاليا استكمال عملية السلام واتمامها على مساريها السوري واللبناني.
من هذا المنطلق كانت "الاستمرارية" العنوان الأبرز في المنطقة عام 1995. فعملية السلام استمرت على رغم اغتيال رابين. وتنفيذ الاتفاقات الاسرائيلية - الفلسطينية استمر على رغم معارضة المستوطنين واليهود المتشددين وقوى اليمين الاسرائيلي من جهة، ومعارضة الفصائل الفلسطينية اليسارية والاسلامية لتلك الاتفاقات من جهة ثانية. والحوار بين السلطة الفلسطينية ومعارضيها، خصوصاً حركة "حماس"، استمر بدوره وربما نجح في اقناع هذه الأخيرة بالمشاركة في الانتخابات الفلسطينية المقبلة. وفي لبنان استمر حكم "الترويكا" الرئاسية وتكرّس بالتمديد للرئيس الياس الهراوي لمدة ثلاث سنوات، وبقاء الرئيس رفيق الحريري على رأس الحكومة. واستمر مع هذا "الاستمرار الرئاسي" انشغال اللبنانيين بملفاتهم التي باتت مزمنة، من نفايات سامة الى آثار تكتشف تباعاً، ومن أزمة اقتصادية ومعيشية الى فساد اداري وتنظيمي، واستمر مع كل ذلك الأمل في نجاح برامج الاعمار والانماء.
وفي مصر استمرت المواجهة بين الحكومة والاسلاميين وأخذت أشكالاً عدة تراوحت بين العمليات الارهابية التي سجلت السلطات نجاحات لا يستهان بها في تقليصها، وبين الاعتقالات والمحاكمات التي تعرّض لها قياديون من التيارات الاسلامية، بما فيها جماعة "الاخوان المسلمين" التي ظلت في منأى، نسبياً، عن تلك المواجهة. ثم جاءت الانتخابات التي فاز بها الحزب الوطني الحاكم، والتي احتجت أحزاب المعارضة، على نتائجها. وفيما استمر التأزم في العلاقات بين القاهرة والخرطوم على مثلث "حلايب" الحدودي والاتهامات المصرية لنظام الفريق عمر حسن البشير بدعم الجماعات الاسلامية المصرية وتقديم المأوى لها، نجا الرئيس مبارك من محاولة لاغتياله في أديس أبابا اثناء انعقاد القمة الافريقية. وأكد الجانب المصري مراراً ان السودان كان يقف وراء هذه المحاولة، أو أنه على الأقل كان متورطاً فيها بشكل أو بآخر، في حين أكدت الخرطوم عدم صحة ذلك، وكانت النتيجة تزايد حدة التوتر بين البلدين الى درجة هددت في وقت من الأوقات بالوصول الى المواجهة المسلحة.
اما في العراق، فاستمر نظام الرئيس صدام حسين، واستمرت معه العقوبات الاقتصادية والعزلة السياسية المفروضة عليه، ومعها معاناة الشعب العراقي ومصاعبه المعيشية المتفاقمة. واجرى الرئيس العراقي استفتاءه الذي جاءت نتائجه حسبما كان مرسوماً لها، اذ أيدت بقاءه في الحكم نسبة 99.95 في المئة من الناخبين ليظهر بذلك قدرته على الاستمرار حتى مع التصدع الذي أصاب عائلته خلال العام وأدى الى فرار صهريه، الفريق حسين كامل وشقيقه وزوجتيهما ابنتي الرئيس العراقي ولجوئهم الى الأردن. ومع استمرار المحاولات الدولية للكشف عما بقي لدى بغداد من أسلحة تدميرية وذخائر كيماوية وبيولوجية وصواريخ، شهد موقف عمان من حليفتها السابقة بغداد خلال 1995 تغيراً ملحوظاً، إذ نادت بضرورة رحيل صدام. لكن هذه الدعوة لم تثر قدراً كبيراً من الحماسة لدى جيران العراق الآخرين مثل سورية وتركيا وايران، كما انها لم تحرز الكثير من التأييد في أوساط المعارضة العراقية التي استمرت بدورها تعاني من الخلافات والتناقضات داخل صفوفها. واستمرت أيضاً الخلافات بين الفصائل الكردية في شمال العراق، ولم تفلح "اتفاقية دبلن" التي توصلت اليها قيادتا الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني في وضع حدّ للخلافات والمعارك المتكررة بين قوات الطرفين، فيما استمر حزب العمال الكردي على خلافه مع الآخرين، واستمرت المواجهة بينه وبين القوات الحكومية التركية التي شنت أكثر من عملية عسكرية واسعة على المناطق التي يتواجد فيها الحزب في جنوب البلاد وداخل الأراضي العراقية.
وفي الخليج والجزيرة العربية برزت أنباء التوصل الى الاتفاق على ترسيم الحدود بين المملكة العربية السعودية واليمن الذي وقع الجانبان مذكرة تفاهم في شأنه مطلع العام، لكن أوضاع اليمن نفسه لم تكن على ما يرام.
ومرّت الذكرى الخامسة لغزو العراق للكويت فيما يستعد الكويتيون للاحتفال بالذكرى الخامسة لتحرير البلاد من ذلك الغزو. وشهدت قطر تغييراً أدى الى تسلم الأمير حمد بن خليفة آل ثاني الحكم. أما الامارات فاستمر نزاعها مع ايران التي احتلت الجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى.
وكانت ليبيا بدورها عرضة لظاهرة الاستمرارية التي ميّزت المنطقة خلال 1995، أقله على صعيد حكم العقيد معمر القذافي الذي استمرت العقوبات المفروضة دولياً على بلاده بسبب قضية "لوكربي". لكن العقيد الذي طالما طلع بالمفاجآت لم يشذ هذا العام عن القاعدة إذ فاجأ الجميع بترحيل آلاف الفلسطينيين العاملين في ليبيا، بحجة انه بات يفترض فيهم التوجه الى مناطق السلطة الفلسطينية، تعبيراً عن امتعاضه من الاتفاقات التي توصلت اليها هذه السلطة مع اسرائيل. ثم اتبع ذلك بقرار مماثل قضى بطرد مئات الآلاف من العمال العرب والأفارقة معتبراً ان ليبيا لم تعد في حاجة اليهم.
بوادر مشجعة
أما في الجزائر المجاورة حيث استمر طوال العام الصراع الدامي بين السلطات والاسلاميين مودياً بحياة الآلاف فإن الحدث الأبرز كان نجاح الحكم في اجراء الانتخابات الرئاسية وفوز الرئيس اليمين زروال بها. وعلى رغم ان ذلك لم يؤد في حد ذاته الى إنهاء الصراع وإيقاف سفك الدماء، فإن مجرد حدوثه شكل انجازاً مهماً خصوصاً في ضوء المشاركة الشعبية الواسعة في الانتخابات والابتهاج العفوي الذي أثارته نتائجها لدى قطاعات واسعة من المجتمع الجزائري أعياها العنف. وكان من جراء ذلك ان الفرصة أصبحت متوافرة أكثر من أي وقت مضى لبدء حوار بين السلطة والاسلاميين يحمل في بذوره الأمل في وضع حد للأزمة وإعادة البلاد الى وضع طبيعي. لكن ذلك لم يحدث حتى الآن، وسيكون ضرورياً انتظار عام 1996 لمعرفة المسار الذي ستتخذه الجزائر في المرحلة المقبلة.
وفي انتظار العام الجديد وما سيحمله من أحداث وتطورات لا يبقى إلا ان نقول: كل عام وأنتم بخير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.