محافظ العارضة يستقبل مفوض الإفتاء فضيلة الشيخ محمد شامي شيبة    ترقيم الماشية شرط الرعي    الهيئة الملكية للجبيل وينبع    مذكرة تفاهم سعودية-موريتانية حول قطاعات الكهرباء والطاقة المتجددة والهيدروجين النظيف    توقيع مذكرتي تفاهم لتعزيز استدامة إدارة النفايات    السعودية للكهرباء تتلقى اعتماد العائد التنظيمي الموزون لتكلفة رأس المال على قاعدة الأصول المنظمة ب 6.65%    تأكيد خليجي على ضرورة وقف إطلاق النار في غزة    إسرائيل تناهض تحركات المحكمة الجنائية    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية التركي    فيصل بن بندر يستقبل مدير 911 بالرياض.. ويعتمد ترقية منتسبي الإمارة    فتح بوابات سد الملك فهد ببيشة    شؤون الأسرة و"نبراس" يوقعان اتفاقية للتوعية من المخدرات    أمير المدينة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب    اليوم.. آخر يوم لتسجيل المتطوعين لخدمات الحجيج الصحية    جدة: القبض على مقيمين لترويجهما مادة الحشيش وأقراصا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    السنيد يتوج أبطال الماسية    مواهب سعودية وخبرات عالمية تقود الأوبرا الأكبر عربياً "زرقاء اليمامة"    حارس النصر "أوسبينا" أفضل الحراس في شهر أبريل    اختتام أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي في الرياض    هل يُغادر صلاح ليفربول وينتقل إلى الاتحاد؟ صحفي إنجليزي يُجيب!    إنقاذ معتمرة عراقية توقف قلبها عن النبض    الاحتلال اعتقل 8505 فلسطينيين في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر    نصف نهائي "أغلى الكؤوس".. ظروف متباينة وطموح واحد    «سلمان العالمي» يُطلق أوَّلَ مركز ذكاء اصطناعي لمعالجة اللغة العربية    أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة    أخبار سارة في تدريبات الهلال قبل الكلاسيكو    الكلية التقنية للبنات بجدة تطلق هاكاثون تكنلوجيا الأزياء.    زلزال بقوة 5 درجات يضرب شرق تايوان    أمير المدينة يستقبل سفير إندونيسيا لدى المملكة    النيابة العامة: التستر وغسل الأموال يطيح بوافد و3 مواطنين لإخفائهم 200 مليون ريال    القبض على 8 أشخاص لقيامهم بالسرقة وسلب المارة تحت تهديد السلاح    "جائزة الأميرة صيتة" تُعلن أسماء الفائزين بجائزة المواطنة المسؤولة    سياسيان ل«عكاظ»: السعودية تطوع علاقاتها السياسية لخدمة القضية الفلسطينية    افتتاح الملتقى السنوي الثاني للأطباء السعوديين في إيرلندا    أمطار مصحوبة بعدد من الظواهر الجوية على جميع مناطق المملكة    «مطار الملك خالد»: انحراف طائرة قادمة من الدوحة عن المدرج الرئيسي أثناء هبوطها    أمير الرياض: المملكة تدعو لدعم «الإسلامي للتنمية» تلبية لتطلعات الشعوب    وزيرا الإعلام والعمل الأرميني يبحثان التعاون المشترك    «رابطة العالم الإسلامي» تُعرِب عن قلقها جرّاء تصاعد التوترات العسكرية في شمال دارفور    نائب أمير مكة يطلع على تمويلات التنمية الاجتماعية    فيصل بن بندر يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر ويستقبل مجلس جمعية كبار السن    الفيحاء يتوّج بدوري الدرجة الأولى للشباب    الأهلي بطلاً لكأس بطولة الغطس للأندية    ديوانية الراجحي الثقافيه تستعرض التراث العريق للمملكة    النقد وعصبية المسؤول    مهنة مستباحة    دولة ملهمة    اللواء الزهراني يحتفل بزفاف نجله صلاح الدين    فئران ذكية مثل البشر    إستشاري يدعو للتفاعل مع حملة «التطعيم التنفسي»    المصاعد تقصر العمر والسلالم بديلا أفضل    صحن طائر بسماء نيويورك    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    ذكاء اصطناعي يتنبأ بخصائص النبات    تطبيق علمي لعبارة أنا وأنت واحد    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رويت من دمها الثرى ... !
نشر في الحياة يوم 07 - 10 - 2008


حدَّث سهم بن كنانة قال:
كنتُ عند شيخنا الهمام، المسيِّب بن تمام، ولم أجد عنده تلك الليلة أحدا، فقرَّتْ عيني وتنفستُ الصُّعدا، وتمتمتُ في نفسي: ما أسعد جدِّي، سأخلو الليلة بالشيخ وحدي، وأخذنا من كل حديث بطرف، وتبادلنا الأخبار والطُرف، وجرّنا الحديث إلى التدخين، وكيف ابتلي به الملايين.
قال: لم أر بلاءً استساغه الناس، وتبلد به الإحساس، كتعاطي الدخان، والتباهي به في السر والإعلان، وأذكر أنني امتحنتُ به في شبابي، فأتلف مالي وثيابي، بل مزق عقلي وإهابي، حتى عافني أهلي وأصحابي.
قلت: كيف أفسدتْ بالك، سيجارةٌ لا أبا لك؟ قال: ابتليتُ برفقة طيش وجهل، قاطعة للرحم والأهل، لا تعرف للدين حدودا، ولا للمودة عهودا، يقضون النهار في اللهو، ويحيون الليل باللغو، ويتعاطون أثناء ذلك مئات"السجائر"، ويقدمونها لكل زائر، حتى إذا بقى ثلث الليل الآخر، وورمت الشفاه والمناخر، نادوا"بالشيش"والمباخر، وهم بين ضاحك وساخر، وأمسوا يعبُّون دخانها، ويجرعون أنتانها، ولو أنك اطلَّعتَ عليهم في ذلك المكان، الذي أثرت فيه سُحُب الدخان، وشممت تلك الرائحة، وأبصرت تلك الوجوه الكالحة، لرأيت منظراً تحار فيه العين، ويطرب له غراب البين.
قلت: لكن كيف انغمست في هذه الحمأة، وأنت المعروف بصلاح النشأة، كيف استوحلت في هذا الوحل، واستعضت عن الشهد بإبر النحل؟
قال: الرفقة يا سهم... الرفقة. لقد كنت أعجبُ من أهل السجائر، وأعدُّهم عُميَ البصائر، حتى أغراني قومٌ بالسيجارة الأولى، فأصبحت بحب الدخان مشغولا، وكنت كلما جادلتهم في أمره، محاولاً هتك ستره، صاحوا بي: إنه ديدنُ العباقرة، ودأبُ الأباطرة، وبريدُ الإنجاز، وآية الإعجاز، وكلما ساءلتهم عن أسقامه، مؤكداً أسباب اتهامه، هتفوا بي: بل هو سر الرشاقة، ومعجزة الأناقة، وإكسير الرجولة، ووقود الفحولة، وهكذا أصبحت السيجارة بفضل أعوان إبليس، أقرب نديم وخير جليس.
قلت: ألم تحاول إنقاذ نفسك، والتحرر من أغلال حبسك؟
قال: لو فعلت لأصبحت بين أصدقائي كالغريب، ونظروا إلي نظر المستريب، وربما سموني"المطوع"و"الأديب"، فأصبحت بلا صديق، وحاصرتني مشاعر الضيق، لقد نالني من أذى القوم، فصرت أدخن أربعين سيجارة في اليوم، تنقص ولا تزيد، وتشتعل حتى تبيد. وكنت كلما ألم بي خطب، أو عصف بي كرب، فزعت إلى السيجارة، ولثمتها بحرارة، ثم عصرت في صدري تبغها"العريق"، وأنا أنتفض انتفاض الغريق، فإذا فرغت من امتصاص رحيقها، والاستمتاع بنكهتها وبريقها، اطفأتها أو دهستها ولسان حالي يردد قول ديك الجن:
روَّيتُ من دمها الثرى ولطالما
روَّى الهوى شفتيَّ من شفتيها.
تباً لي! كيف استمرأت ذلك العبث، واستسغت ذلك الخبث! لقد كنت أعجب من عبادة الجاهليين للأصنام، وانقيادهم للخزعبلات والأوهام، حتى رأيت صاحب الدخان، يقدس لفافة أنتان. يالله وللعقول! كيف يحرق المرء نفسَه، ويحفر بيديه رَمسَه، كيف يتهافت على النار، ويرد موارد الدمار، كيف يحرق رئتيه، ويشوي شفتيه، ويلوث أسنانه، ويؤذي أقرانه، فيصبح كنافخ الكير، لا حامل العبير؟ أما نظرت يا سهم إلى إهابه، ومراتب سيارته وثيابه؟ أتت عليها الخروق، وانتشرت فيها الحروق، أما نظرت إلى حيائه كيف قل، ووقاره كيف اختل، وهو يرمي أعقاب السجائر أينما حل؟
قلت: ألم تكن تعرف هذه الحقائق، أم حجبتك عنها عوائق؟
قال: هو ما تقول.. لقد استبدت بي الغفلة، فكنت كمن فقد عقله، أنفق في التدخين حرَّ مالي، وأمثل أسوأ قدوة لعيالي، ووصل بي الإدمان إلى انتفاض يديّ، واصطكاك ساقيّ، وضمور وجنتيّ، وكان بعض الفضلاء يفر مني، أو تؤذيه رائحتي فيصد عني، وتاهت قدمي في سنوات الضياع، وصرت كالبضاعة التي لا تباع، بل تحولت إلى حرف امتناع، وضعفت قدرتي على الجماع، وكدت أختفي من نحول، ولم يبق مني إلا طلول.
قال سهم بن كنانة: فلما بلغ صاحبي هذا الحد، لم أتمالك نفسي فهتفت: آمنت إيماناً لا تخامره الظنون، وأيقنت كما أيقن العارفون، أن من يشرح للدخان صدره، فقد سلم للشيطان أمره. ثم تنبهت إلى سوء عبارتي فاستدركت قائلاً: رحم الله والديك، لا يصدق هذا الوصف عليك.
قال المسيب بن تمام: لله أبوك، بل الصواب ما نطق به فوك، لكن الله سلمني من هذه الورطة، التي لا تنقذ منها حكومة ولا شرطة، وعدت إلى الحياة بعد احتمال الهلكة، كما عادت إلى البحر السمكة. قلت: كيف؟
قال: حاولت ترك الدخان فما استطعت، واجتهدت في تقليل تعاطيه فأخفقت، فنمت ليلة فرأيت شيخاً سيء الريح، ذا منظر قبيح، لحيته كثة، وملابسه رثة، لا يبدو عليه الوقار، وله أنياب وأظفار، فكأنه من أهل النار، وإذا به يباغتني كالعاصفة، ويمطرني بوابل من الأحجار القاصفة، ولما حاولت الفرار، تبعني باقتدار، وقذف أولادي الصغار، وبدا لي أنه غول يريد قتلي، والتهام أبنائي وأهلي، وكنت شديد الضعف أمام بأسه، كعصفور يترنح في حبسه، واستيقظت من النوم فزعاً وأنا أغمغم: هو التدخين لا غير، ومتى ظفر المدخن بخير؟
قلت: وماذا بعد؟
قال: عدت إلى النوم، فرأيت أني في يوم عيد، والاحتفالات تملأ الحضر والبيد، وكنت لابساً ثوباً جديدا، ومعتمراً شماغاً فريدا، ولما حمدت الله على اللباس، وهممت بالخروج إلى الناس، شعرت أن في جيبي ورقة، كأنها لصغرها علقة، ففتحتها فإذا مسطور فيها هذه الأبيات:
هيَ يا صاحبي ضياعُ الأمان
واستعارُ الجوى وموت الأماني
واصفرار الذبول يغشى المحيَّا
واختلاط الأشباه والألوان
تقتل الطيبَ: طيبَ علم وفضل
ثم طيبَ الشَّذى ورَوْحَ الجِنان
هي يا صاحبي المصائبُ تترى
من بلاء ولوعة وافتتان
ثم تبقى مكبَّلاً وحسيراً
وأسيراً لحزمة من دخان
لا تجيدُ الحديث إلا سُعالاً
يتهادى على رفات البيان
يا صديقي فلتسمع اليوم نصحي
أو ستردى في هوَّة الإدمان
ارمها تائباً وأطفِ لظاها
وأبدها لفائفَ الشيطان
استعنْ بالدعاء ما ضلَّ ساعٍ
مخبتٌ في عبادة الرحمن
أنت بالله أمة من عطاءٍ
أنت بالله واحة من أمان
انتفضْ يا أخي بعزمة حرٍّ
هيَ أو أنت في غمار الطعان.
قلت: وماذا حدث بعد ذلك؟ قال: حدث في حياتي انقلابٌ كبير، حصل لي به خيرٌ كثير، لقد تركت هذا البلاء، بلا تدرج ولا دواء، واشتغلت بالصلاة والذكر، ورياضة البدن والفكر، وصاحبت ثلة من الشبان المتحلين بالآداب، الداعين إلى الصواب، النور مؤتلق على جباههم، والشهد منسكب من أفواههم، تنجذب إليهم العيون، ولا تساء بهم الظنون، سيماء العلم بادية عليهم، والكرم اللباب ملء يديهم، فنالني منهم عبق الورد، وأريج الند، واكتشفت كذب"العراقة"، وزيف الدعاوى البراقة، وعادت إلي"الطاقة"، وعوفيتُ من الحماقة، وكنت"جائع بن الفاقة"، فأصبحت"موسر بن الإفاقة"، وعزمت على مناصحة المبتلى بهذه السموم، فإن ارعوى وإلا هجرته هجر المجذوم.قال سهم بن كنانة: وشعرت أنه داهمني الوقت، وخفت أن ينالني من زوجتي أذى أو مقت، فاستأذنت في الذهاب، آخذاً بالأسباب، مفوضاً أمري إلى العزيز الوهاب، ومردداً قول شيخنا أبي الأطياب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
وتعظمُ في عين الصغير صغارُها
وتصغرُ في عين العظيم العظائمُ.
* أكاديمي وصحافي سعودي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.