شهدت الأسابيع الماضية صوراً من العرائض والمطالبات بتفعيل الإصلاح الداخلي، على شكل بيانات"إنترنتية"ومحاضرات حواها منتدى جدة الاقتصادي في الأيام الماضية, وكانت من وجهة نظري متباينة الوجهة والمقصد, وهي جزء من مسلسل الإصلاح المتعثر الذي تلد بعض مشاريعه أجنة ميتة لا حياة فيها, وعادة ما يتم النقد بعد خروج الخطابات الإصلاحية بأنها لم تؤخذ باهتمام وعُطّلت عن العمل وكأنها وحي منزل لا يقبل إلا التطبيق العاجل في أرض الواقع, ومع أهمية دفع عجلة الإصلاح من دون توقف وحسن القصد للقائمين بهذه المطالبات الوطنية، إلا أن الخطاب الإصلاحي المحلي يحتاج إلى مراجعة ملحة في أهم أبجديات المشروع الإصلاحي, ولعلي أختصر المقام في عرض بعض التساؤلات والمراجعات التي قد تطور وتنمي هذا الخطاب، سعياً لعمل ايجابي بأقل الأضرار المتوقعة، ومن هذه التساؤلات: أولاً: إن الخطاب الإصلاحي تنقصه الرؤية الواضحة والمنهجية الواقعية قبل الخوض في التجارب الميدانية التي ستضطر المطالبين بالإصلاح إلى الدخول في تقاطعات معقدة وعنيفة مع قوى السلطة والمجتمع، تجعل من همهم الأكبر التصدي للمواجهة الراهنة مع تلك القوى, وتنسيهم فحوى الخطاب وجدوى الإصلاح الذي ينشدونه, وفي تجربة التسعينات الماضية سؤال مطروح لأصحاب مذكرة النصيحة الماضية، كم مما جاء فيها مازالت القناعة به قائمة وراسخة؟ مع ظني أن حتميات الماضي وقطعياته أصبحت إما مردودة أو مظنونة لكثير من أولئك الدعاة، ثم أريد أن أعود حول مقصودي من الرؤية المطلوبة في الخطاب الإصلاحي، حيث يجب أن تظهر الأهداف الكلية، التي عادة لا يختلف حولها الفرقاء، ثم يُتدرج في تطبيقها وفق المراحل التي تمليها طبيعة المجتمع والقائمون عليه, وقد يكون من الأولى في حالٍ تأخير بعض المطالبات قد يحسن القيام بها في ظرف زماني أو مكاني آخر. وبهذا الوضوح والجلاء والنقاء ينبغي أن يكون خطاب الإصلاح المنشود, ومن الطبيعي أن السلطة والمجتمع لن يثقا بمشروع ظهرت في أجندته مصالح خفية ومطامع شخصية تمرر من خلال هيبة الدين واحترام المطالبين. ثانياً: التشنج الواضح من دعاة الإصلاح، سواء حصل هذا التشنج من أصحاب السلطة والمسؤولين تجاههم أم حصل منهم تجاه الآخرين, والواقع يشهد بهذا التوتر المتبادل بين أطراف وجهات الإصلاح الوطني, وبما أن هذه الحال مشاهدة من خلال عنف الخطاب وعنف رد الفعل أحياناً تجاه دعاته. أتساءل هل يمكن أن يتم إصلاح ظاهره الوعود بالرخاء والعدالة والأمن وباطنه العداوة والبغضاء والتشفي بين أولئك المصلحين؟ وهل يمكن أن نلغي أحد أطراف المعادلة الإصلاحية، سواء أكانوا من المطالبين أم من المسؤولين؟ ولا أظن أن حل الإلغاء والتهميش يمكن القيام به، خصوصاً في مثل ظروفنا الحالية بثورتها المعلوماتية والاتصالية. والذي أجزم به أن هناك قدراً كبيراً من المشترك الإصلاحي الكل يتفق عليه, ولكن يحدث الاختلاف في آليات تنفيذه أو سرعة المبادرة إليه أو التعجل في تطبيقه أو التخوف الزائد من تبعاته، وهذه المخاوف لا تقتضي صب المزيد من النار على الزيت المنسكب في الكثير من الميادين الحياتية"بل نظرة واحدة نحو أعدائنا المتربصين والمنتظرين الناقمين لأي زعزعة امن في البلاد تضطرنا لأن نكون كاليدين للإنسان تغسل أحداهما الأخرى، ولو اقتضى بعض التنظيف نوعاً من الألم الموقت والخفيف. ثالثاً: المشروع الإصلاحي مشروع وطني تبنيه أيدي أبناء الوطن كل الوطن، ويسقى بمائه وينسجم مع ثقافته وأعرافه, والمستورد من المشاريع الإصلاحية لا نعني رده وتجاهله, ولكن ينبغي إخضاعه لحاجاتنا الراهنة وتطلعاتنا المستقبلية وموافقته لأحوالنا الثقافية والبيئية, ومن العجيب أن تُسوّق في بلادنا منتجات أجنبية الصنع للإصلاح والتطوير, والغرابة ليست في كونها بعيدة عن واقعنا وتطلعاتنا"بل ما فيها من النزق والجراءة أن تهمش سيادتنا على بلادنا، أو ترسِّخ التبعية لمستقبل بلادنا ونهضتنا. إن واقع الإصلاح في بلادنا يشهد مرحلة حساسة من التغيير تتطلب كفاءةً وروحاً عالية لا تنظر سوى مصلحة الوطن، وتتعامل مع هذا المشهد بحنان الأب وحزمه وإصراره على النجاح, والوعي بمدركات العمل الإصلاحي يجنبنا خطر التصدع الداخلي أو التباطؤ الحضاري، ويكفي أنه يعلمنا روح الجسد الواحد ولو تعددت الرؤى واختلفت الأعضاء. * أكاديمي وكاتب سعودي [email protected]