ربما كان الاستبداد والتسلط السياسي أشنع صور الاعتداء على كرامة الفرد وإنسانيته، ولكن هناك لحظات في الحياة يكون فيها الاستبداد الفكري أشنع حالاً وأعمق أثراً في تحطيم دافعية الإنسان نحو الحرية، أو تهميش إرادته في التعبير عن قناعاته وآرائه، أو تكريس لمذلة الاتباع لمن له الحق المطلق في المعارف والأحكام وشؤون الواقع وحتى الغيب! فالطغيان المادي وإن كان يضرب الإنسان بعصا من حديد إلا أن الطغيان الفكري يخنق الإنسان بحبل من حرير! وحينما تكبل عقول الأفراد بالتخويف والتهميش والتسطيح تصبح المجتمعات سجناً كبيراً يُمنع فيه الأفراد من التفكير والتعبير، ويرسفون من حيث لا يشعرون في قيود الخوف من نقد أو مخالفة الوثن المعبود وإلا أصبح كل جريءٍ متمرداً منبوذاً مخالفاً للجموع المرعوبة، وهذا ما فعلته زمرة من الأوثان البشرية قضوا فيها على أمم لم تَعُد للحياة إلا بعد زوال عروش التسلط الفكري عنهم، كما حصل للألمان في عهد هتلر أو الطليان مع موسوليني أو ماوتسي تونغ في الصين أو ستالين في روسيا كأمثلة صارخة للإبادة الفكرية الجماعية وتقديس الوثن الأوحد. أما في عصرنا الحاضر ونحن في مرحلة استحالة تكبيل العقول بالأفكار المقفلة نتيجةً للانفتاح الفضائي وتوسع وتنوع وسائل الاتصال بالعالم، أصبحت بالتالي مجتمعاتنا الإسلامية في حيرة من تعدد الخيارات الإصلاحية وانجذابها للتيارات الفكرية المتكالبة على كسب أسواقها الجديدة الواعدة، فظهرت أزمة حقيقية لدى الفرد المسلم في عدم القدرة على التمييز بين تلك المنتجات الوافدة من الأفكار والمشاريع وما هو الأصلح للتطبيق والأنسب للعمل، وظننا أن نجاح بعض تلك المشاريع الفكرية في بلدانها أنه العلاج الجذري والكافي لمشكلات بلادنا، فالديموقراطية على سبيل المثال أصبحت جوقة كل التيارات المتنافرة في عالمنا الإسلامي، ولمّا تم استنباتها في مجتمعاتنا من خلال توسعة الشراكة الحزبية في إدارة السلطة وتعميم التجربة الانتخابية أنتجت لنا مرضاً خطيراً كان من أسباب الشقاء في نكساتنا التاريخية، من خلال عودة القبيلة وتكريس العنصرية الإقليمية وتأجيج نار الطائفية التي جعلت من الدولة الواحدة دويلات متحفزة للاشتعال من أدنى فتيل، بينما كان الأولى والأسلم في نقل أي مشروع أن نفحص تربة البناء ونمهد الأرض للعمل، حتى لا نخسر بعد بذل الجهد أرضنا ومشروع البناء، لكن هذا الواقع يخفي في طياته مصالح فردية ودولية تسرّع في نقل الدم إلى مريض لم يتم فحص فصيلته المناسبة، ما يجعل المغامرة تتراوح بين الحياة أو الموت. أتساءل أحياناً لماذا التهيب من الطرح الفكري والمعالجات الموضوعية لأزماتنا الراهنة من خلال التحليل الاجتماعي والفلسفي، ثم عرضه على ثوابتنا الدينية لتؤكّده أو تنفيه؟ لماذا ارتبطت صورة المفكر في وعينا بالمتمرد على الدين والمتآمر على المسلمين، في حين بدأ بعض المفكرين الملاحدة للعودة إلى الدين ونبذ العقلانية الحداثية؟ هل لأن هناك صوراً تاريخية محبطة لبعض المفكرين جعلتنا ننفر من جدوى الاستفادة أو العودة لنظريات التغيير ومشاريع الإصلاح العالمية كونها مشتركاً إنسانياً جديراً بالعناية والتفعيل؟... أسئلة تحتاج إلى إجابة داخلية هامسة، تعيد فتح الملفات المغلقة داخل كل العقول الغائبة؟ * أكاديمي وكاتب سعودي [email protected]