نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    المملكة تؤكد استعدادها مساعدة الأجهزة الإيرانية    ثلاثة أهداف تتنافس على جائزة الأجمل في الجولة 32 من دوري روشن    الملك يستكمل فحوصات طبية في العيادات الملكية    وصول طلبة أكاديمية طويق إلى أرض الوطن بعد حصولهم على ميداليات ذهبية وفضية وجوائز خاصة    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    «أسمع صوت الإسعاف».. مسؤول إيراني يكشف اللحظات الأولى لحادثة «الهليكوبتر»!    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    أمير تبوك يرأس اجتماع «خيرية الملك عبدالعزيز»    ارتفاع أسعار الفائدة يتراجع بأداء السوق العقاري بالقطيف    جائزة الصالح نور على نور    الجائزة وفرحة الفائزين والفائزات.. عاجزون عن الشكر    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    مبادرة «طريق مكة» مرتبطة بالذكاء الاصطناعي    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    مدرج الأهلي أمر !    دوري روشن.. ما الذي تحقق؟    نيابة عن سمو ولي العهد.. الفضلي يرأس وفد المملكة في المنتدى العالمي للمياه    انطلاق مؤتمر «مستقبل الطيران» بالرياض    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    "إنفاذ" يُشرف على 38 مزادًا لبيع 276 من العقارات والمركبات    وحدات الأحوال المدنية المتنقلة تقدم خدماتها في (42) موقعاً حول المملكة    الانتخابات بين النزاهة والفساد    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    الخارجية: المملكة تتابع بقلق بالغ ما تداولته وسائل الإعلام بشأن طائرة الرئيس الإيراني    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    عن "المؤتمر الدولي" و"قوّة الحماية الأممية"    تشكيل أول لجنة للتطوير العقاري ب "اتحاد الغرف"    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    السعودية تطلق منصة فورية لإدارة حركة الإحالات الطبية    انقسام قادة إسرائيل واحتدام الحرب    «حرس الحدود» بجازان يحبط تهريب 180 كيلوغراما من نبات القات    أرامكو السعودية توقع ثلاث مذكرات تفاهم خلال زيارة وزير الطاقة الأمريكي    وزير الصحة الماليزي: نراقب عن كثب وضع جائحة كورونا في سنغافورة    الأرصاد: استمرار فرص هطول الأمطار على بعض المناطق    ولي العهد يستقبل مستشار الأمن القومي الأمريكي    رفضت بيع كليتها لشراء زوجها دراجة.. فطلقها !    تحدي البطاطس الحارة يقتل طفلاً أمريكياً    دعاهم إلى تناول السوائل وفقاً لنصائح الطبيب.. استشاري: على مرض الكلى تجنّب أشعة الشمس في الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القيود التاريخية والإقليمية والدولية على سير الديموقراطية في لبنان . عمل السلطة التنفيذية ناقص والإصلاح الديموقراطي والمؤسساتي يبدو شبه مستحيل 2 من 2
نشر في الحياة يوم 16 - 07 - 2005

القيود التي تثقل كاهل تمثيل الوطن والشعب، تثقل أيضاً كاهل رأسي السلطة التنفيذية في لبنان. فهنا أيضاً، شوّهت الطائفية لعبة المؤسسات قبل اتفاق الطائف وبعده. ومن الممكن القول إن اتفاق الطائف الذي قسّم السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، زاد من سوء الوضع الملتبس السائد حتى ذلك الحين.
في الواقع، بموجب الميثاق الوطني، حصل رئيس الجمهورية على الدور المستحيل، وهو دور حامي المؤسسات أي الشعب بكامله من جهة، ومن جهة أخرى، دور ممثل الطائفة المسيحية، لا سيما الموارنة فيها. وهذا دور متعب، لا بل مستحيل. فإذا بقي رئيس الجمهورية على حياد وترفّع عن الصراعات الطائفية، سيعطي انطباعاً بأنه يخون أبناء طائفته ولا يهتم لدعم مصالح الطائفة التي يفترض به تمثيلها. أما إذا اهتم بدعم طائفته وسعى إلى التعبير عن مشاعرها السياسية الطائفية بالنسبة إلى المسائل المحلية أو الإقليمية والدولية، وإذا أراد ترقية طائفته في النظام السياسي والإدارات الرسمية الكبرى، فسيعادي الطوائف الأخرى ويزعزع لعبة المؤسسات.
فرؤساء الجمهورية الذين ترفّعوا عن الصراعات الطائفية لم يكونوا محبوبين جداً في الطائفة المسيحية، خصوصاً عندما لم تعكس سياستهم الإقليمية التفضيلَ الإيديولوجي للطائفة التي ينتمون إليها. أما أولئك الذين التزموا التزاماً كبيراً بحساسية طائفتهم السياسية فقد حظوا بشعبية أكبر، غير أنهم زعزعوا الاستقرار في البلد. وفي الأحوال كافة، إن الطائفة تضعف لأن رئاسة الدولة مسندة إليها من دون سواها. ففور انتخاب رئيس الدولة هذا، يصير موضع انتقاد عنيف في طائفته نفسها من كل الذين يعتبرون أنهم مؤهلون أكثر لشغل هذا المنصب وينوون كل النية أن يفوزوا به في الانتخابات المقبلة. لهذا السبب، نجد أن رئاسة الجمهورية تضعف باستمرار، وهذا ما يسهم في تجريد الدولة من صدقيتها. فليس من باب الصدفة أن يفسح انتخابُ رؤساء الجمهورية المجالَ لصفقات إقليمية ودولية، فلا يعود الانتخاب داخل المجلس النيابي إلا مسألة شكلية. فالنواب يصادقون على خيار تمّ خارج سيطرتهم في كواليس السفارات الأجنبية والبلدان العربية المجاورة.
أما رئيس الحكومة، فقد صعّب عليه الميثاق الوطني أن يكون حليفاً رئيس الجمهورية على الدوام، وإلا سيبدو وكأنه خاضع له ولا يهتم بتعزيز مصالح الطائفة المسلمة، لا سيما السنية التي يفترض به تمثيلها. والجدير بالذكر أن رئيس الحكومة كان يتمتع بسلطات دستورية قليلة في النسخة الأصلية للدستور وقبل التعديلات التي أدخلها اتفاق الطائف. غير أن هذا لم يمنعه، عندما طُرحت المسألة الفلسطينية بكامل وطأتها في لبنان، من شلّ عمل السلطة طوال أشهر حتى يُرضِخ إرادة رئيس الجمهورية بصون سيادة لبنان وإلغاء وجود التنظيمات الفلسطينية المسلّحة. حتى أن المسألة الفلسطينية قد استعملت كأداة في محاولة لتغيير قواعد التوازن الطائفي في لبنان الذي اعتبره البعض منحرفاً لمصلحة الموارنة.
وقد أتت التعديلات الدستورية التي أدخلها اتفاق الطائف لتزيد من تفاقم مشكلات عمل السلطة التنفيذية وصفتها التمثيلية. فبما أن سلطات رئيس الجمهورية اختفت بكاملها تقريباً، فقد انتقلت السلطة التنفيذية مبدئياً إلى مجلس الوزراء مجتمعاً. في الواقع، إن نفوذ رئيس الوزراء المتجدد عبر اتفاق الطائف جعل من رئاسة الوزراء رمزاً حصرياً لنفوذ الطائفة السنية، لا بل"لكرامتها". وإذا كان الرئيس الهراوي ترك طوعاً الأمور على سجيّتها طوال سنوات رئاسته التسع، في ما عدا بعض التصادم في نهاية ولايته أشهر تصادم كان حول مشروع قانون الزواج المدني، لم تكن الأمور على هذه الحال مع الرئيس لحود. وأصلاً، لن تكون المعركة منصفة بين الرجل العسكري الذي لا يهتم كثيراً بصورته في وسائل الإعلام فيلغي حتى أموال الدولة السرية التي تغذي وسائل الإعلام والأتعاب الخفية للصحافيين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، البليونير الذي يجيد أيّما إجادة لعبة وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية، ويخلق من حوله، في لبنان كما في الخارج، موالاة لا تشوبها شائبة وجوّاً من عبادة الشخص لا تهزّه ريح. وسيظهر هذا التعبّد لشخصه حتى أبعد الحدود بعد عملية اغتياله الإجرامية التي كان لها وقع الزلزال في ظروف إقليمية ودولية دقيقة جداً، أي الظروف التي أوجدها القرار 1559 لمجلس الأمن في أيلول 2004.
وعلى غرار رؤساء الجمهورية الموارنة الذين لم يلعبوا دور"البطل"الطائفي وأرادوا أن يكونوا رؤساء للشعب كله، حصد رؤساء الوزراء السنة الذين ترفّعوا عن الصراعات الطائفية ووضعوا أيديهم بأيدي رؤساء الجمهورية، عدم محبة الشعب لهم. ويكفينا أن نذكر في هذا الخصوص سامي الصلح، أو شفيق الوزان، أو أخيراً عمر كرامي.
وكان من شأن الازدواجية القائمة في السلطة التنفيذية أن أدّت إلى نظام الترويكا الكريه، إذ أصبح رئيس مجلس النواب حكَماً في النزاعات الرئاسية، إما مباشرة أو إذا اقتضى الأمر عبر الوسطاء من سورية. وتحولّت الديموقراطية في لبنان إلى نظام محاصصة في دولة لم تعد مؤسساتها إلا ديكوراً براقاً زائفاً.
في ظل التمثيل النيابي الناقص والمنحرف، والسلطة التنفيذية المنقسمة الضعيفة... هل من الممكن إصلاح النظام اللبناني؟
الإصلاح الديموقراطي في لبنان...
هل هو مهمة مستحيلة؟
هل الإصلاح ممكن في ظلّ ديموقراطية ناقصة إلى هذا الحد وخاضعة لكل هذه القيود؟ أي قوى سياسية ستكون قوى التغيير القادرة على إطلاق عملية الإصلاح المؤدية إلى تحقيق السيادة الكاملة كما إلى الديموقراطية الفعلية لا الشكلية؟ كيف السبيل إلى تخطي هذه الطائفية الكريهة، وهي الداء والدواء الذي نعتقد أننا لا نستطيع الاستغناء عنه؟
لنبدأ أولاً بالقول هنا إنه ينبغي أخذ الواقع الطائفي في لبنان في الاعتبار. وينبغي أن نقوم بالإصلاح بشكل معتدل وألا ننجرف في منطق الإصلاحات المؤدية إلى تكريس الطائفية أكثر فأكثر في عمل المؤسسات، بحجة تحقيق شكل من أشكال الديموقراطية التوافقية. ففي ما يلي، لن نقترح إلا إطاراً وقائياً عاماً، أما روحية الإصلاحات وتوجّهاتها فهي روحية وتوجّهات إلغاء التطييف، بما أن هذا الإلغاء هو الوحيد الذي يسمح لنا بأن نحقّق دولة كاملة السيادة وبالتالي بأن نؤمّن للمواطنين شعوراً فعلياً بالحرية.
من أجل الوصول إلى الإصلاح، يمكن سلوك طريقين هما في الواقع مرحلتان إلزاميتان، ولا نستطيع حرق المرحلة الأولى كي نبدأ الثانية مباشرة. ينبغي أولاً تطبيق اتفاق الطائف الذي تحرّر من عبء الوصاية السورية. والرئيس الحسيني نفسه الذي كان المحرّك الرئيسي في هذا الاتفاق يعتبر أن بنود الطائف هي مبادئ كبرى ينبغي الانطلاق منها لبناء مؤسسات جديدة أكثر توازناً من سابقاتها. فبما أنه الميثاق الوطني الجديد، لا يمكن تخطيه قبل تطبيقه الصحيح وتحديده بموجب تشريعات دستورية. وأي مساس بهذا الاتفاق قد يكون هدماً لپ"العيش المشترك"في لبنان وقد يفتح المجال أمام المجهول.
فبحسب رأي الرئيس الحسيني ورأي لبنانيين كثر غيره، لم يعمل هذا الاتفاق كما يجب لأن نظام الترويكا شوّهه، ولأن رجال الحكم في الجمهورية الثانية لم يصدروا التشريعات الإضافية الهادفة إلى إعادة تنظيم الدولة وإقامتها على الأسس الواضحة لدولة القانون. نذكّر في هذا الإطار بأن الرئيس الحص ندّد هو أيضاً بنظام الترويكا هذا. كذلك، استنكر كاتب هذه السطور مراراً وتكراراً ممارسات الجمهورية الثانية وتحويل المؤسسات الرسمية إلى ممالك مقفولة وموقوفة لكبار زعماء الطوائف.
وفي هذا الإطار أيضاً، من المتوقّع أنه، بعد وضع الجمهورية الثانية على السكة، وتحقيق الدولة الاستقلاليةَ التي تسمح لها بالعمل لمصلحة الشعب كله، سيكون من الممكن بدء مرحلة جديدة من الإصلاح نصّ عليها الاتفاق نفسه، من خلال آلية إلغاء الطائفية السياسية المذكورة في اتفاق الطائف.
لا شك في أن وجهة النظر"المحافظة"هذه، هي وجهة نظر الحكمة اللبنانية التقليدية. فهي تناسب رؤية لبنان كمجموعة من الطوائف الدينية التي وقّعت في ما بينها عقداً اجتماعياً. إنه منطق الديموقراطية الطائفية والتوافقية، لا منطق الديموقراطية القائمة على أساس استقلالية الفرد، ولا منطق سيادة الدولة الواحدة التي لا تقبل هيئة وسيطة بينها وبين المواطن.
كذلك، ليس منطق الدولة الفدرالية الديموقراطية إذ ما من وسيط أيضاً بين الدولة والمواطن، بل حيث تتألف الدولة من طبقتين ويكون ولاء المواطن للولاية العضو في الاتحاد الفيديرالي كما للاتحاد الفيديرالي نفسه. وفي رأينا، أكبر عائق في وجه حسن سير الدولة في لبنان، هو طبيعته كفيديرالية من الطوائف ووجود حساسيات سياسية متعارضة في ما يتعلق بالعلاقات التي ينبغي إقامتها مع القوى الإقليمية والدوليةوصفنا أخيراً هذه الحساسيات المتعارضة التي ينبغي المصالحة بينها من أجل إرساء أسس متينة لسيادة الدولة والقيام بإصلاح ناجح في مقال في"الحياة"بتاريخ 19- 5 - 2005 بعنوان"نحو تخطي الانقسامات التقليدية".
ولكن، من الصعب أن نتصوّر كيف نتخطى فوراً هذا الإرث الدستوري المتناقل من جيل إلى جيل، الذي يُظهر الكثير من اللبنانيين تعلّقاً كبيراً به. إذاً، لا بد من إطلاق عملية تطوير العقلية. كذلك، لا بد من إقناع اللبنانيين بأنه، من دون سلوك وطني معمّق نفتقده تماماً، لا يمكن لأي شكل من أشكال الدولة الطائفية أن يؤمّن السيادة الحقيقية ومجتمع العدل والقانون.
إن أكثر ما يميّز لبنان ربما، هو الخلط بين الوطنية التي تعرّف على أنها حب الأرض والعاطفة السياسية للمصير من جهة، ومن جهة أخرى، السلوك الوطني، وهو مجموعة التصرفات الهادفة إلى احترام النظام العام في أدقّ تفاصيله وإلى الإسهام في المنفعة العامة. فاللبنانيون يتمتعون بقدر كبير من الوطنية، غير أنهم لا يتمتعون إلا بالقليل القليل من السلوك الوطني. وهذا ما يفسّر أيضاً، بطريقة ما، غضبهم العظيم لعدم حصولهم على لبنان المثالي الذي لا يكفون عن الحلم به. فالمشكلة هي أن لبنان الذي يحلم به اللبنانيون يتألّف من أيديولوجيات ورؤى متناقضة حول ماضي البلد كما حول مستقبله، أي أنه يترتّب علينا العمل على إصلاح أنفسنا من أجل التقريب بين هذه الرؤى ومحاولة تحقيق التناغم بينها، أو على الأقل، إلغاء تناقضها.
وعنف الخطاب السياسي اللبناني الذي سمعناه بعد اغتيال الرئيس الحريري، يذكّرنا بالوطنية المفرطة غير المدروسة، القائمة غالباً على أجزاء مقتطعة إما من خطابات قوية حول السيادة، وإما من خطابات لا تقلّ قوة حول محاربة الهيمنة الأميركية - الإسرائيلية المشتركة على الشرق الأوسط. للأسف، يغطي هذان النوعان من الخطابات أيضاً، إلى حد كبير، ولكن ليس تماماً، الحساسيات الطائفية. ومن دون التوافق بين هاتين الحساسيتين، سيبقى إصلاح الدولة وهماً مثالياً، وستبقى مؤسساتنا السياسية معاقلَ نفوذ مغلقة ومتناقضة.
لهذا السبب، لن ندخل في الكثير من التفاصيل بل سنكتفي ههنا باقتراح أفكار للإصلاح السياسي والدستوري، مع التذكير بضرورة احترام مرحلتي التغيير الذي سيتوصّل اللبنانيون إلى الاتفاق عليه.
خطوط الإصلاح المؤسساتي في لبنان
1 - السلطة التنفيذية
يبدو لنا من الضروري أن يُنتخب رئيس السلطة التنفيذية، لدى انتهاء هذه الولاية، بالاقتراع العام. ففي هذا العالم الغارق في الإعلام المفرط المحيط بنا، لن يحظى رئيس الدولة الذي لا ينتخبه الشعب والذي ليس إلا صورة شكلية للحكم كملوك أوروبا أو رئيس ألمانيا أو رئيس إيطاليا، إلا بالقليل القليل من السلطة والصفة التمثيلية.
فالانتخاب على أساس الاقتراع العام سيسمح بإلغاء الالتباس بين تمثيل الطائفة وتمثيل الشعب كله، كما شرحنا أعلاه.
ينبغي أن تكون رئاسة الجمهورية مفتوحة أمام الجميع، لكن يمكن أن نعتمد إطاراً وقائياً من خلال تنظيم انتخابات أولية. في هذه الانتخابات، لن يكون المرشحان الباقيان للدورة الثانية هما المرشحين الفائزين بأكبر عدد من الأصوات في لبنان كله فحسب، بل سيتعيّن عليهما أن يحصلا على 15 أو 20 في المئة على الأقل من الأصوات على صعيد كل قضاء في الانتخابات الأولية. فمع نظام مماثل، وشرط أن يُستبعد نفوذ المال من اللعبة الانتخابية، لن يستطيع المرشحان المنتقلان إلى الدورة الثانية إلا أن يكونا من المعتدلين. ويمكننا أن نقوّي هذا الإطار الوقائي إذا اشترطنا التالي: كل مرشح لم يحصل على 35 إلى 40 في المئة على الأقل من أصوات الطائفتين الكبريين المسيحية والمسلمة، لا يحظى بالأهلية لخوض الدورة الثانية.
وثمة إطار وقائي آخر وهو اشتراط التالي: إذا كان الرئيس المنتخَب مسيحياً، سيتعيّن عليه حُكماً اختيار رئيس وزراء مسلم، والعكس صحيح.
وينبغي أن تكون الولاية لست سنوات غير قابلة للتجديد، كما يمكن اعتماد ولاية الأربع سنوات القابلة للتجديد مرة واحدة. ولكن النظام الأول يبدو لنا أفضل: فرئيس الجمهورية الذي يُمنح ست سنوات للعمل، يمكنه أن ينجز إصلاحات مهمة. أما في النظام الثاني فلا يمكن للإغراء السهل الذي تمارسه الغوغائية والتسويات من أجل الفوز بولاية جديدة، إلا أن يبرد الحماسة الإصلاحية لدى الرئيس الذي لن يشاء التصادم مع مجموعات المصالح المختلفة.
وإذا اعتبرنا أن نظام انتخاب الرئيس بالاقتراع العام، هو أمر خطير على رغم كل شيء، يمكننا أن نعود إلى المجلس النيابي لانتخابه، ولكن سيصبح من الضروري أن يكون عدد النواب في المجلس أكبر بكثير كي نتفادى تأثير القوى الإقليمية والدولية بشكل حاسم على اختيار النواب.
كذلك، يمكننا طبعاً أن نفكر في نظام الرئاسة الدوّارة أو الجماعية. لكن التجارب في هذا المجال نادرة ونتائجها غير مقنعة تماماً، إلا في سويسرا التي يصعب تقليد ديموقراطية الكانتونات فيها، لا سيما في لبنان إذ تكاد الروحية الوطنية حتى اليوم، تغيب عن الثقافة السياسية.
2 - النظام الانتخابي
لا شك في أن نظام الاقتراع الأغلبي في دورة واحدة هو الأسوأ بين الأنظمة، إلا إذا أردنا أن نكرّس نظام الزعامة ووراثة التمثيل السياسي في بعض العائلات. وأظن أننا في لبنان، نستحق أفضل من استمرار هذا النظام الذي لا ينسجم مع فكرة الديموقراطية نفسها حيث يُفترض أن يشكّل التفوّق الأخلاقي والمعرفي معياراً أساسياً في اختيار الحكام. فحكم الزعماء يعني تحويل الديموقراطية إلى حكم الأثرياء، أي أنه نقيض الروحية الجمهورية.
وحده النظام الانتخابي القائم على أساس التمثيل النسبي كفيل بأن يؤمّن تمثيل كل التيارات السياسية الموجودة داخل الطوائف أو عبرها في ما يتعلق بالأحزاب العلمانية. كذلك، يسمح نظام التمثيل النسبي بتشجيع وجود الأحزاب السياسية التي تقدّم برامج واضحة، في حين أن الاقتراع بالأغلبية في دورة واحدة يشجع الشعبية الفردية أو تأثير المال ونفوذ عائلات الزعماء.
باختصار، إن إصلاح النظام الانتخابي أولوية مطلقة وضرورة طارئة وكبرى، وينبغي التساؤل حول عدم جاهزية اللبنانيين، من كل الميول، في هذا المجال. لقد تأخر كثيراً مناصرو النظام النسبي في خوض الحرب من أجل تحقيقه، وكانت النتيجة، مرة جديدة، أن برزت الحساسيات الطائفية. فمشاريع الإصلاح. إن من أجل الحفاظ على الدائرة الصغرى ونظام الأغلبية، أو من أجل النظام النسبي، لم تأخذ فعلاً في الاعتبار العيوب الأساسية الأخرى التي نعاني منها والتي حددناها في القسم الأول تمثيل اللبنانيين في المهجر والاقتراع في محل الإقامة الفعلي، والأهمية المتساوية للأصوات في كل دائرة.
من الضروري أيضاً التنبّه إلى التطورات الديموغرافية والإبقاء على أطر وقائية مرنة... فهل يجدر بنا فعلاً أن نستمرّ في توزيع المقاعد النيابية بحسب الطوائف الفرعية أو أننا نستطيع الانتقال إلى نظام يكتفي بتوزيع هذه المقاعد بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، من دون التوزيع الفرعي داخل هاتين المجموعتين الكبيرتين؟ على خلاف ما هو شائع، ستشكّل الأصوات"المسيحية"، ولو قلّ عددها، عاملَ توازن وتحكيم بين الحساسيات المختلفة داخل الطوائف المسلمة نفسها. ألا يُعتبر دور الحكَم دوراً مهماً وأكثر رقياً من دور حشر المرشحين المسيحيين في دوائر صغيرة تشجّع الزعامات الطائفية التقليدية بحجة تحرير الاقتراع من عبء الأصوات المسلمة الأكثر عدداً اليوم؟
هنا، يجب أن تظهر جدية في التفكير أكثر مما كانت الحال حتى الآن.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى إمكان خلق مجلس شيوخ كمجلس طائفي، كي نحرّر مجلس النواب من القيود الطائفية في توزيع المقاعد النيابية. فإذا كان الأمر يتعلّق بإرضاء الطائفة الدرزية و"زعامتها"الرئيسية، يبدو أن الثمن الذي ندفعه غالٍ جداً، خصوصاً أن هذا يعزّز أكثر فأكثر الطائفية المؤسساتية التي تمنع الدولة من العمل وتعوق تحقّق السيادة الوطنية الكاملة.
3 - دور الطوائف الدينية ووضعها
تبقى نقطة أساسية ينبغي التطرّق إليها هنا، وهي دور الطوائف الدينية... فهل تتوافق الديموقراطية فعلاً مع إدخال الطوائف الدينية، ليس بصفتها قاعدة للنظام العام فحسب، بل أيضاً بصفتها محور الحياة السياسية؟ في الماضي، انتقد اللبنانيون المسيحيون أشدّ انتقاد، دورَ الديانة الإسلامية في الأمور الزمانية وتسييس المشايخ والمفتين وتأثيرهم في الطوائف المسلمة في البلد. غير أن الصورة التي نراها اليوم، على الأقل بالنسبة إلى الطائفة المارونية، هي صورة خلط تام بين الدور الروحي للكنيسة الذي أصبح ممحواً أكثر فأكثر لمصلحة دور سياسي كبير للبطريرك الماروني الذي تخضع له الطبقة السياسية المسيحية كلها تقريباً. قد نفسّر هذا الخلط بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية عند المسيحيين، من خلال الظروف الاستثنائية التي شهدها لبنان في السنوات العشرين الماضية، ولكن حبذا لو يتغيّر هذا الوضع بسرعة. فلا ينبغي للكنيسة المارونية أن تقحم مكانتها المعنوية في تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية اليومية. فهذا أمر لا يندرج ضمن التقاليد اللبنانية والمسيحية، وإن استمرّ هذا الوضع فترة أطول ستضعف مكانة الكنيسة وسلطتها المعنوية.
في الواقع، لن نحظى بإصلاح ديموقراطي معمّق في لبنان إلا بعد إلغاء القرار رقم 60 عام 1936. ويجب أن يلغى دور الطوائف الدينية كقاعدة للنظام العام كما هو منصوص عنه في هذا القرار لتعود إلى دورها الأساسي الروحي والثقافي والاجتماعي. فهذا القرار هو الذي ما زال يسجن العلمانيين في المنطق الملتوي القائل بخلق طائفة جديدة ينضمّ إليها من يرغب في الخضوع لقانون أحوال شخصية مدني الطابع، مع العلم أن هذا ما نصّ عليه القرار 60، لكنه لم يطبَّق قط.
طبعاً، قد تكون هذه الخطوة الأولى. ولكن، أليس من الأفضل أن نطالب بقانون أحوال شخصية مدني موحّد كقاعدة للنظام العام كما هي الحال في تركيا أو تونس على سبيل المثال، وفي الوقت نفسه أن نترك لكل لبناني بلغ سنّ الرشد، لو أراد ذلك، حق اختيار قانون الأحوال الشخصية الخاص بالطائفة التي ينتمي إليها عوضاً عن الخضوع لقانون الأحوال الشخصية العام؟ لا شك في أن هذا سيثير موجة قوية من الاعتراضات في الطوائف المسلمة كما لدى السلطات الدينية المسيحية. ولكن، إذا تركنا لكل لبناني حق اختيار قانون الأحوال الشخصية الذي يريد الالتزام به، ألن يتوافق هذا أكثر مع روحية الديموقراطية الفردية ويِؤمّن بشكل أفضل الاحترام الكامل للحرية الدينية العزيزة جداً على قلب كل منادٍ بالديموقراطية وعلى كل مؤمن يحترم الحرية ولا يمارس أي شكل من أشكال التعصّب والإكراه في الدين؟ هذا سؤال يستحقّ أن نفكر فيه.
بناء المستقبل
1 - التحرّر من شعارات الجيل السابق
لا بدّ هنا من الاستشهاد بعبارة الأب المرحوم لوبري عام 1962 الذي أدار بعثة IRFED في لبنان، وهي التي استند إليها الجنرال شهاب في عمله الإصلاحي، فأقول إن لبنان يجد نفسه مرة أخرى اليوم"عند مفترق طرق". فبعد أن تحرّر من الهيمنة السورية، ليس من المفترض أن تفرض قوى مهيمنة أخرى نفسها على لبنان مستفيدة من انتهازية الجزء الأكبر من الطبقة السياسية - الطائفية ومن الانقسامات التقليدية بين اللبنانيين. بالعكس، يجب أن يشكّل الحوار القاعدة اليومية للحياة السياسية، ويجدر بنا أن ننبّه طبقتنا السياسية حتى تلغي كل عنف في خطابها. فإذا لم نكن حذرين، فقد يتحوّل هذا العنف الخطابي مع الوقت إلى عنف جسدي. وفي هذا الإطار، لا يمكننا إلا أن نهنّئ الجيل الشاب، بكل مذاهبه مجتمعة، لأنه تظاهر بشكل سلمي لمطالب متناقضة من دون أن تظهر العدائية.
ولكن، لا يجوز أن يكون العنصر الشاب أسير شعارات الجيل السابق وزعماء الطوائف أو قادتها الذين ينادون بها. فقد آن الأوان لتتحرّر من خضوعها للأشكال المختلفة للتزلّم لمروّجي الحرب التي مزّقت لبنان بين العامين 1975 و1990. آن الأوان لترمي ولاءها إلى الزعماء التقليديين جانباً كي تفكّر في برامج الإصلاح وتوجّهاته، لا في الشعارات الفارغة، وكي تحرر فعلياً لبنان من زعمائه الطائفيين الذين جلبوا الويلات على البلاد بشكل متكرر منذ عام 1840.
2 - تجديد رسالة لبنان كبلد رائد في المشرق العربي
إذا أردنا أن نتخطى التباينات الحادة التي مزّقتنا منذ الاستقلال وحتى في نزاعات القرن التاسع عشر، فهذا يعني أن نخرج من منطق الطائفية التقليدية الذي يزجّ بنا في حلقة مفرغة متجسدة في وضع الدولة الحاجز الذي أنشأ هذه الطائفية منذ العام 1840. ولهذه الغاية، يجب أن يتوصّل الجيل الجديد إلى التفكير باستقلالية في مصير جديد للبنان متحرّر من العنصر المأسوي والدامي في تاريخنا المعاصر. يجدر بنا أن نستعيد رسالة الوجود اللبناني النبيلة، رسالته كرائد لنهضة ثانية ضرورية أكثر من أي وقت مضى في المشرق العربي بعد أن أجهضت النهضة الأولى المجيدة بسبب اشتداد الحرب الباردة في المنطقة وتأسيس دولة إسرائيل الغاصبة. هذا هو إرثنا الرئيس، ومن دون هذا الإرث، لن يكون لبنان إلا مكاناً للهو والتسلية للسياح ومركزاً للصفقات العقارية والمالية التي أسقطتنا في هاوية المديونية وبيع أجمل عقاراتنا لغير اللبنانيين.
هذا هو الوضع الذي يتعيّن علينا قلبه من الأساس، كي يصبح لبنان مركز تفوّق فكري وتقني ومعرفي يتسنى فيه أخيراً للعنصر الشاب أن يجد فرص عمل على مستوى كفاءاته وديناميّته، بدل أن يهاجر إلى غير عودة، ويترك مصير البلاد إلى مزيد من التشنّج الطائفي الفرغائي وانحراف الممارسة الديموقراطية واستمرار القيود عليها والبقاء على وضع لبنان دولة حاجز لا يتحكم بها أبناؤها.
باحث لبناني. وزير سابق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.