سيتضمن العام الحالي مناسبة استثنائية لها رمزية ودلالة خاصتان، إذ ستكون مدينة القدس عاصمة للثقافة العربية، الأمر الذي يتطلب من الدول العربية والإسلامية في شكل عام وضع آليات خاصة في هذه المناسبة لدعم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة السياسات الإسرائيلية الرامية الى تهويد القدس وطرد أهلها العرب، ومحاولة تهويد معالمها الثقافية والحضارية التي ما زالت ماثلة للعيان. تشير البحوث المختلفة الى المكانة المهمة التي تبوأتها المدينة عبر التاريخ، وترجع أهمية موقع القدس الجغرافي والحضاري والقدرة على الاتصال بالمناطق والأقطار المجاورة. الى مركزية القدس بالنسبة الى فلسطين والعالم العربي والإسلامي، وهذا بدوره يؤكد أهمية القدس على الصعد الدينية والسياسية والتاريخية كافة. ولا يقل موضع المدينة الجغرافي عن موقعها المعنوي، فهي تجمع بين طهارة المكان وسهولة الدفاع عنه، وتعاقب كثير من الأمم على هذا المكان منذ بداية التاريخ، وتعرض لاحتلالات عدة وتم تدمير المدينة وإعادة بنائها نحو ثمانية عشرة مرة، لكن أخطر الاحتلالات كان الاحتلال الإسرائيلي الذي يحاول تغيير معالم المدينة لجهة تهويدها والإطباق عليها في نهاية المطاف، من خلال عملية طرد منهجية لأهلها من عرب مسلمين ومسيحيين إحلال اليهود مكانهم لفرض الأمر الواقع الديموغرافي الإسرائيلي عليها. ويعتبر وجود الآثار والمعالم المسيحية في القدس جنباً الى جنب مع المعالم والآثار الإسلامية ذا دلالة مهمة ومعبرة عن مدى التسامح الإسلامي ونبذ الطائفية، الأمر الذي أدى الى تمكين الطائفة المسيحية في القدس وما حولها من مدن فلسطينية من ممارسة طقوسها وشعائرها الدينية. ويشار الى أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب ذهب الى بيت المقدس عام 15ه/ 636 م وأعطى الأمان لأهلها وتعهد لهم بأن تصان أرواحهم وأموالهم وكنائسهم، كما منح سكان المدينة الحرية الدينية، ورفض أن يصلي في كنيسة القيامة لئلا تتخذ صلاته سابقة لمن يأتي من بعده، وهكذا تميز الحكم العربي الإسلامي بالتسامح الديني، واحتفظ المسيحيون بكنائسهم وبحرية أداء شعائرهم الدينية، وبقيت المعالم المسيحية في مدينة القدس ماثلة للعيان حتى وقتنا الراهن، ومن بين تلك المعالم الموجودة في مدينة القدس: كنيسة القيامة، كنيسة المخلص، كنيسة يوحنا المعمدان، كنيسة المسيح، كنيسة مرقص، كنيسة القديس يعقوب وبطريركيات وأديرة للروم الارثوذكس والأقباط واللاتين والأرمن. وجميع تلك المعالم تقع في الجهة الغربية للقدس القديمة المسوَّرة، كما تنتشر كنائس ومواقع مسيحية أخرى في الشمال والشمال الغربي من منطقة الحرم القدسي، بحيث أصبح في مدينة القدس نحو عشرين كنيسة وديراً وبطريركية. وتزخر مدينة القدس بالآثار والمعالم الإسلامية التي تعكس هويتها العربية الإسلامية، وتشير الدراسات إلى أن في القدس القديمة أكثر من مئتي أثر ومعلم إسلامي في المقدمة منها الحرم القدسي الشريف، وكذلك سور القدس الشامخ، كما أهلها، الذي أنشئ في عهد العرب اليبوسيين عام 2500 قبل الميلاد، وطرأت عليه تعديلات وعمليات ترميم في العهدين الايوبي والمملوكي. وتمثل تلك الآثار والمعالم جزءاً من تاريخ الأمة وحضارتها الماثلة للعيان، كما تؤكد في الوقت نفسه أهمية القدس في حياة العرب والمسلمين الذين تربطهم بها روابط عقائدية وثقافية. ومن الآثار والمعالم الإسلامية البارزة في مدينة القدس أبواب الحرم والمسجد الأقصى ومسجد عمر ومسجد وقبة الصخرة المشرفة، فضلاً عن المتحف الإسلامي، والحمامات والزوايا والقباب. ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أن الجيش الإسرائيلي طرد تحت وطأة المجازر نحو مئة ألف مقدسي في عام 1948 من بينهم الآلاف من المسيحيين، وتكررت عملية"الترانسفير"أثناء احتلال الجيش الإسرائيلي للجزء الشرقي من مدينة القدس في عام 1967، إذ تم طرد خمسة عشر ألف عربي من المقدسيين المسلمين والمسيحيين. بعد احتلال القدس القديمة في حزيران يونيو 1967، حاولت السلطات الإسرائيلية القضاء على التراثين الإسلامي والمسيحي في القدس للإطباق عليها وبالتالي تهويدها في شكل كامل، وتمثل النهج الإسرائيلي في عدد من الإجراءات التي تمت ضد الأماكن الإسلامية والمسيحية بهدف تدميرها وتشويه الطابع الحضاري لمدينة القدس وإزالة الاماكن المقدسة والقضاء بالتالي على ما تمثله هذه الأماكن من ارتباطات إسلامية ومسيحية في المدينة المقدسة، ففي 21-8-1969 دبرت السلطات الاسرائيلية عملية لإحراق المسجد الأقصى، كما حاولت نسفه في بداية عام 1980 على يد الحاخام المقتول مئير كاهانا، وتكررت الاعتداءات منذ عام 1967 على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، وأجريت محاولات إسرائيلية لإقامة الصلوات في ساحة المسجد الأقصى، وسرقة بعض محتويات كنيسة القيامة، واستملاك الأراضي التابعة لبعض الأديرة المسيحية في القدس، ومنذ البدء في النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في مدينة القدس تمت مصادرة آلاف الدونمات والعقارات من العرب المقدسيين، مسلمين ومسيحيين، على حد سواء. مما تقدم يمكن القول إن احتفالية القدس كعاصمة للثقافة العربية في عام 2009 لها رمزية استثنائية"فهي مناسبة لتضامن إسلامي وعربي رسمي وشعبي لدعم صمود الشعب الفلسطيني في مدينة القدس لمواجهة سياسات التهويد الإسرائيلية المحدقة بالمعالم والآثار الإسلامية والمسيحية المنتشرة في المدينة المقدسة، ولتلك الرموز دلالات واضحة على مدى التآخي والتعاضد الإسلامي المسيحي في هذه البقعة الطاهرة من العالم، وكذلك تعتبر الاحتفالية مدخلاً لتضامن حقيقي مع سكان القدس لمواجهة آثار الجدار العنصري الإسرائيلي على سكان القدس وعلى المؤسسات الثقافية والمجتمعية هناك. كما يمكن اغتنام فرصة الاحتفاء بالقدس من اجل مخاطبة المجتمع الدولي لفضح سياسات إسرائيل التهويدية في القدس من جهة"والعمل على إعادة الاعتبار الى اكثر من خمسين مؤسسة فلسطينية مغلقة في القدس من عام 2002 والعمل من اجل فتحها ودعم نشاطها وعلى وجه الخصوص بيت الشرق. نشر في العدد: 16745 ت.م: 07-02-2009 ص: 29 ط: الرياض