أساءت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي الى نفسها والى الاستقلالية والحياد اللذين تقول إنهما شعارها، بذلك القرار الغريب والمستهجن الذي اتخذته ادارتها برفض بث اعلان يدعو الى التبرع لمساعدة ضحايا العدوان الاسرائيلي على غزة، وجهته مجموعة من الهيئات الانسانية العاملة هناك، ومن بينها الصليب الاحمر البريطاني ومنظمة"اوكسفام"و"ساعدوا الاطفال"، فضلاً عن جمعيات اسلامية اخرى. مبرر القرار كما شرحه المسؤولون في ال"بي بي سي"، ومنهم مديرها العام مارك طومسون، ان هذا الاعلان يعتبر"رسالة سياسية"، اذ انه سيستخدم صوراً للدمار في غزة وللضحايا الذين سقطوا، وبينهم ما لا يقل عن 400 طفل، مما يمكن أن يُفسّر على انه اتخاذ موقف سياسي الى جانب احد اطراف النزاع ضد طرف آخر، في قضية لا تزال موضع اهتمام المشاهدين والمستمعين. ثم جاء ما هو اسوأ. اذ قالت مسؤولة اخرى في ال"بي بي سي"كارولين طومسون في مجال الدفاع ايضاً عن القرار، ان هناك فرقاً بين الذين يموتون نتيجة كوارث طبيعية كالفيضانات او الزلازل، وبين الذين يموتون نتيجة الكوارث التي تحصل بسبب الحروب. اي أنها ارادت أن تحمّل الذين ماتوا في غزة المسؤولية عن موتهم! لقد ارتكبوا"ذنباً"بالموت على يد القنابل الاسرائيلية، بدلاً من الموت ضحية اعصار على شاطئ غزة، ذلك أن السقوط تحت القذائف والصواريخ يحرج"حياد"ال"بي بي سي"، اما الموت بالطريقة الثانية فهو افضل لها، لأنه لا يعرضها لمأزق في وجه اسرائيل، التي لا ترى المحطة البريطانية، كما يبدو، ما يستوجب اسعاف ضحاياها، او ارسال المساعدات لهم. اما تبرير القرار بعدم التورط في موقف منحاز فهو الانحياز بعينه. فال"بي بي سي"ارادت ان تقول من وراء موقفها هذا إنها غير مستعدة لإغضاب اسرائيل او لإغضاب اليهود البريطانيين، الذين غالباً ما انتقدوا تغطيتها لنزاع الشرق الاوسط، التي كانوا يعتبرونها اكثر تعاطفاً مع العرب، ولو كانت تلك التغطية في حدود وصف حالة انسانية تشهد لها الصور والكاميرات، التي لا تعرف"الانحياز"، ودعوة من يرغب من المتعاطفين الى ارسال المساعدات لضحاياها. وحقيقة مأزق المحطة البريطانية هنا انها تفتقر الى الشجاعة، كوسيلة اعلامية، في قول الحقيقة. ذلك ان المرء، سواء كان اعلامياً او شخصاً عادياً، لا يحتاج ان يكون"منحازاً"كي يستنتج من خلال الأشرطة التلفزيونية، ومنها ما بثته ال"بي بي سي"نفسها، أن هناك كارثة وقعت في غزة، سقط بنتيجتها ضحايا، معظمهم مدنيون ونسبة كبيرة من هؤلاء من الاطفال، وان كون الدولة اليهودية هي التي ارتكبت هذه المجازر لا يخفف من اعتبارها مجازر. على العكس، لو شاءت ال"بي بي سي"ان"تخدم"اسرائيل والجالية اليهودية في بريطانيا، التي لا ترتفع حساسيتها الا عند تغطية الارتكابات الاسرائيلية، لعمدت الى العمل مع من يعملون على تخفيف آثار المأساة الانسانية في غزة، لا على منع المنظمات الانسانية الدولية من إسماع صوتها لمن يرغبون في المساعدة. من حسن الحظ، ان القرار الذي اتخذته هذه المحطة لقي ادانة على كل المستويات، من حكومية ودينية واعلامية. وزير التنمية الدولية دوغلاس الكسندر انتقد القرار قائلاً ان الرأي العام البريطاني يستطيع التمييز بين تقديم الدعم الانساني واتخاذ المواقف المنحازة. اما الوسائل الاعلامية المنافسة لل"بي بي سي"، مثل هيئة التلفزيون المستقلة ومحطة التلفزيون الرابعة، فقد قررت بث النداء الانساني، فيما تبحث محطة"سكاي"التي يملكها المتمول الاسترالي روبرت مردوخ إمكان بثه هي ايضاً. حتى مردوخ يعيد النظر في"انحيازه". فهل تجرؤ ال"بي بي سي"هي ايضاً على ذلك؟ نشر في العدد: 16733 ت.م: 26-01-2009 ص: 15 ط: الرياض