دروس غزة كثيرة، فقد انتصرت إسرائيل في تدميرها، وحتى المدارس والمساجد ودور الإيواء للأمم المتحدة لم تحيّدها في هجومها، لكن الفائدة أن الضمير الحر حتى من بعض اليهود وحاخاماتهم، انتقدوا حربها ووصل توصيف بعضهم للاعتداء بأنه جريمة حرب وفعل نازي، وقد يكون الدافع حماية أخلاق اليهود، لأن العالم الذي اعتقدت إسرائيل أنه مبايعها حتى في تصوير جرائمها بأنه دفاع عن النفس واجهت هجوماً حتى من بعض أنصارها، ولعل الملاحقات القانونية، والمرافعات التي سوف تأخذ مسارها من خلال الدول العربية، أو المنظمات الإنسانية وضعتها في مواجهة لم تحدث لها بعد مذابح صبرا وشاتيلا، وقانا وغيرها ، ولعل سوء تقديرها لانتقال الصورة مهما كان المنع لم يجعلها تتخذ احتياطاتها وهذا أكسب الفلسطينيين تعاطفاً عالمياً لم تكن تتوقعه من خلال جرائمها في غزة.. الأغرب في الموقف أن محطة ال«بي.بي.سي» البريطانية وبمفهوم الحياد لم توافق على بث نداءات ودعوات للتبرع لغزة، وهي صورة مناقضة لما تدعي أنها حرة تنقل الحدث كما هو في الحرب والسلم، والموضوع هنا ليس انحيازاً سياسياً، أو تعاطفاً مع موقف، وإنما هو جزء من عمل إنساني، لكن إذا كانت سطوة اليهود إلى درجة تخيف القائمين على هذه الوسيلة الإعلامية التي رفضت دعماً إنسانياً، فإننا نعتقد أن الصورة ستنقلب لو أن النداءات تخص إسرائيل، وهذا الموقف جرّد هذه المحطة من روح رسالتها، لأن المطلوب هو إنقاذ شعب، وليس المطلوب شرح ما حدث إذا كان لا يتناسب مع ما تدعي أنه حياديتها.. المواقف الشعبية في الشعوب الحرة لا تؤثر فيها السياسات إذا ما رأت أن غبناً أو اعتداءً غير مبرر جاء من قوة عظمى أو من دولة ذات تسليح متقدم على أخرى، وقد شهدنا كيف قامت المظاهرات تستنكر المجازر، والحروب، وقد شهد الغرب وحتى أمريكا استنكاراً شعبياً على احتلال الكويت من قبل العراق، أو العراق من قبل أمريكا، وحدث في مناسبات أخرى أن قادت تلك المجتمعات رفضها لتلك الأساليب، وحتى وسائل الإعلام المنحازة وجدت نفسها في ورطة أمام مشاهد مرفوضة وغير إنسانية.. المشكل في الأمر أن نفوذ إسرائيل على الإعلام الغربي وحتى الجامعات والهيئات كبير، حتى إن من يتهم إسرائيل بتضليل الرأي العام عن المذابح النازية يُطارد قانونياً ولا تحميه دساتير كل الدول الغربية وأمريكا إذا ما رأت أنه مذنب تجاسَر على حق اليهود.. أما عندما تنتقدها صحيفة أو محطة إخبارية فضائية، فهنا يحدث انقلاب أخطر عندما تشن وسائلها الضاغطة حملات كبيرة، ومقاطعة لإعلاناتها أو دعمها، والشكوى للقضاء الذي غالباً ما ينتصر لأي دعوى لإسرائيل، والمحطة البريطانية لاتزال تأخذ بهذه التقاليد لأن المؤسسات التابعة لإسرائيل تخيفها، وهو ما صنع حيادها المزيف..