بعد سقوط الدولة الشمولية العراقية التي كان يحكمها حزب البعث في 9 نيسان أبريل 2003، على أيدي قوات الاحتلال الأميركي المدفوعة بقوة إيديولوجية المحافظين الجدد، وبتهيئة المناخ للغزو عبر سلسلة كاملة من الأكاذيب، هاهو الغزو الأميركي - البريطاني يتحول كارثة حقيقية للمحتلين وحلفائهم، وللشعب العراقي في آن معاً. وباتت المعطيات الإنسانية المعروفة تتحدث عن نفسها. ففي جانب المحتلين، هناك ما يقارب ال4000 قتيل، وأكثر من 24000 جريح مشوه. وفي جانب الشعب العراقي، حصدت الحرب المدمرة أكثر من 650 ألف قتيل حسب إحصائيات المصادر المحايدة. وشردت الحرب مليونين من العراقيين في البلدان المجاورة، وهم مهددون بدورهم بعدم الاستقرار. وهناك أكثر من مليون عراقي فقير جدا يسكن في مخيمات الطوارىء داخل العراق نفسه. بيد أن أخطر ما حل هو الانقسام الطائفي والسياسي الذي بدأ بتحريض من المجموعات المسلحة في بغداد منذ 2004، والذي يمس الطائفتين الرئيستين في العاصمة. بيد أن هذا الانقسام ليس وليد الاحتلال فقط، بل إن الحرب العراقية - الإيرانية المدمرة 1980-1988، ثم حرب الخليج الثانية والحظر الاقتصادي الدولي 1990-2003 مسخا الثقافة العراقية التي كانت قائمة على التعايش في كنف التعددية. وعلى الصعيد المالي، كان هول الهزيمة ساحقا. فهناك على الأقل 500 مليار دولارتطايرت كالدخان، لا سيما لمصلحة الشركات المقربة من إدارة الرئيس جورج بوش: هاليبورتون، باكتيل، بلاك ووتر، وغيرها. بيد أن هذه الشركات التي أخذت على عاتقها إعادة إعمار البلاد، وأكدت أن البترول العراقي سيتدفق من جديد، تبين أن مردودها من الناحية العملية يقارب الصفر. ذلك أن البنيات التحتية لم يتم تحديثها، في حين أن استخراج النفط ظل أقل من المعدل الذي كان عليه في ظل النظام السابق. ولأن انعدام الأمن ما انفك يتوسع، ظلت إعادة الإعمار التي وعد بها كل من بوش وبلير العراقيين حبرا على ورق. وبصورة إجمالية، ازداد الشعب العراقي فقرا، وتضاعفت وفيات الأطفال، وبلغت البطالة مستويات قياسية، من 40 في المئة إلى 60، حسب المناطق. أما الجريمة المنظمة، فتتقدم في كل مدن العراق، مكونة عصابات من السارقين والخطافين والقتلة. ويجمع معظم المحللين الغربيين على أن حجم إخفاق الاحتلال كان كبيرا، وإن كان حقق إنجازا مهما هو زرع الفتنة وتهيئة التربة الخصبة لتقسيم العراق خدمة لمصالح الكيان الصهيوني. لقد أصبح العراق"فيتنام جورج بوش"، وهذا ما يردده السيناتور الديموقراطي ادوارد كينيدي، وبفاصل زمني يمتد ثلاثين عاماً لا ينفك العراقوفيتنام يثيران الضجة. وعلى أرض الواقع، لا يوجد أي تشابه بين الصراعين. لكن مبررات الحرب واحدة في الحالتين: تحقيق أمن الولاياتالمتحدة بدمقرطة بلد يعتبر بنظرها مركزاً لتهديد أيديولوجي أكبر. بالأمس كانت الشيوعية واليوم الإسلام الأصولي. ومن الناحية العسكرية، يعتبر التورط الأميركي في العراق مختصراً أكثر. لقد كان لدى الولاياتالمتحدة 580 ألف جندي في فيتنام مقابل 156 ألف جندي اليوم في العراق. وثمة فرق آخر أساسي: الجندية الإلزامية. كان الجنود سابقاً من الشباب الذين يؤدون خدمتهم العسكرية، أما اليوم فهم متطوعون. وأخيراً، ففي عدد الضحايا، لا مجال للمقارنة. هل يوجد تماثل بين الحرب الأميركية في العراق المستمرة منذ أربع سنوات، والحرب الأميركية في فيتنام المنتهية منذ أكثر من ثلاثين عاما؟ معظم المحللين الغربيين، لا سيما الأميركيين منهم، يعتبرون أن العراق غلطة السياسة الخارجية الأكبر منذ الحرب الفيتنامية التي كانت أطول الحروب في التاريخ الأميركي. ولقد ابتدأت بفصل يقارنه الكثيرون بقضية أسلحة الدمار الشامل لصدام حسين: الهجوم على مدمّرة صغيرة أميركية في خليج تونكين. وهذه استخدمت ذريعة أمام الكونغرس من قبل الرئيس ليندون جونسون، في آب أغسطس 1964، لإطلاق يده في إرسال قوات مقاتلة. وحسب روبيرت بريغهام، صاحب كتاب"العراق، هل هو فيتنام جديدة؟"، أنتج نفس السيناريو في تشرين الأول أكتوبر 2002، للسماح لبوش باستخدام القوة ضد العراق. لقد صوت الكونغرس للحرب، ثم بدأ الدعم يتآكل، وندم معظم البرلمانيين على تصويتهم. وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في مقال كتبه، قبل أيام، لصحيفة"لوس أنجلوس تايمز"، قارن بين العراقوفيتنام مؤكداً أن"التاريخ لا يعيد نفسه أبداً بالطريقة نفسها. العراقوفيتنام حربان مختلفتان في زمانين مختلفين"، إلا أنه أقر بوجود"تشابه مهم"بينهما. واعتبر أن هذا التشابه يكمن في أنه في الحالتين"وصل النقاش الداخلي الأميركي إلى درجة من الحدة استبعدت النقاشات العقلانية والخيارات الصعبة". في الحقبة الفيتنامية، أخذ الرأي العام وقتاً طويلاً قبل أن ينقلب على الحرب، فكان يصغي إلى دعوات الصبر، والخطابات حول"الإشارات المشجّعة"التي تصل من أرض المعركة. في حال العراق، كان الانحسار في دعم الحرب ثابتاً، لكنه تدريجي. الانتصار الديموقراطي في انتخابات تشرين الثاني نوفمبر، وما تبعه من تقرير لجنة بيكر- هاميلتون، أسرع في وتيرة أزمة الضمير. ومع أن الديموقراطيين لم يروّجوا في حملتهم الانتخابية للانسحاب، وإنما فقط ل"تغيير في الاستراتيجية"، فقد وجدوا أنفسهم وسط رأي عام يطالب في ثلثيه، بعودة القوات قبل عام 2008. والإدارة الأميركية الحالية وفقا لما نشرته صحيفة"نيويورك تايمز"في 26 أيار مايو الماضي، تدرس خفض عدد القوات الأميركية في العراق بنحو 50 في المئة منتصف العام المقبل، إضافة إلى تغيير وتحديد المهمة الموكلة للجنود الأميركيين لتتركز على تدريب القوات العراقية وقتال تنظيم القاعدة. وقد لعب كل من وزير الدفاع روبرت غايتس ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس دورا أساسا في إقناع الرئيس بوش بتغيير موقفه من لجنة بيكر- هاملتون، بعدما توصلا إلى حقيقة إخفاق زيادة عدد القوات في تحقيق تقدم سياسي حقيقي في العراق. هذا الرأي طبعا يشاركهم فيه ومنذ مدة طويلة جنرالات الميدان العراقي وعلى رأسهم قائد القوات الأميركية في العراق ديفيد بتريوس. فما لا شك فيه أن الحرب الكارثية أكدت على تراجع الولاياتالمتحدة الذي من مظاهره سقوط بول ولفوفيتز من رئاسة البنك الدولي بسبب فضيحة الفساد. وبدوره وُضع الرئيس بوش في موضع الدفاع، بعد أن تقوضت مكانته بسبب شبح الإخفاق في العراق، فضلا عن اضمحلال نفوذ صقور المحافظين الجدد الذين بدأوا يتساقطون كأوراق الخريف لمصلحة"الحمائم"الذين تولوا مقاليد الشؤون الخارجية. وكان هؤلاء الذين عقدوا العزم على تنفيذ استراتيجية تقوم على استخدام قوة الولاياتالمتحدة الضخمة"لإحداث ما يشبه الثورة في العالم من خلال العمل على تغيير الأنظمة الديكتاتورية واستبدالها بأنظمة ديموقراطية"، إما تركوا الإدارة الحالية بول ولفوفيتز، دوغلاس فيث، أو تخلوا عن خطابهم الإيديولوجي، أمثال فرانسيس فوكوياما. ومن الشخصيات الأخرى المثيرة للجدل والاستهجان داخل تيار المحافظين الجدد جون بولتون الذي استقال من تمثيله لبلاده في الأممالمتحدة بعد سيطرة الحزب الديموقراطي على الكونغرس. كما ضحى بوش أيضا بوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد عقب هزيمة الجمهوريين في الانتخابات النصفية، أما نائب الرئيس ديك تشيني فضعف مركزه الآن، لا سيما بعد إدانة مدير ديوانه لويس ليبي في آذار مارس الماضي بالكذب أمام المحققين حول تصرفاته. وهو يواجه حكماً بالسجن لمدة سبعة أعوام وسيتم إصدار الحكم في الشهر المقبل. والمراجعة الجارية حول مرتكزات الغزو للعراق هي الأعنف حاليا منذ حرب فيتنام. والحال هذه، ليس غريبا أن تأخذ هذه المراجعة، في الصحافة الأميركية، طابعا ثأرياً أحياناً، بحق المتسببين الرئيسيين بهذه الحرب. ف"السلطة الرابعة"التي أسقطت ريتشارد نيكسون عام 1974، تم التلاعب بها لمصلحة تبرير الحرب على العراق. وهكذا، فإن أجهزة الإعلام التي أهينت، تريد استعادة مصداقيتها أمام الرأي العام الأميركي والعالمي. ومن هنا تأتي حملتها على مجموعة المحافظين الجدد. والآن أصبحت الدول الثلاث التي وصفها بوش بمحور الشر تمثل المزيد من التهديدات والأخطار. فالعراق أصبح بؤرة لنشاط تنظيم القاعدة، أما إيران فتمضي قدماً في برنامجها النووي بينما أصبحت كوريا الشمالية دولة نووية معروفة! * كاتب تونسي مقيم في سورية.