لا اليمين الأميركي التقليدي المحافظ ولا الليبراليون الأميركان مرتاحون مع نهج الإدارة الأميركية في المنطقة العربية. نقول في المنطقة العربية وليس في الشرق الأوسط لأنها وضعت الحالة العربية على رأس سلم أولوياتها. فاليمين الأميركي التقليدي محافظ في نزعة التدخل وراء الأطلسي أصلاً، وبعض اعضاء الكونغرس المحفافظين يفخرون بأنه ليس لديهم جواز سفر. وإذا دعم التدخل خارج الولاياتالمتحدة او الاميركيتين فإنه لا يرفض أن يتم ذلك بدوافع من نوع إنقاذ البشرية او نشر الديموقراطية في العالم، ولا يهمه وجود الديكتاتوريات والأنظمة الملكية والسلطانية اذا كانت علاقتها مع اميركا ودية او في صالح الولاياتالمتحدة. وهو مستعد ان يقبل نظريات النسبية الثقافية من منطلقات مختلفة لتبرير عدم فرض نمط الحياة الأميركي على الآخرين والتعصب له في الوقت ذاته. وقد يكن اليمين الأميركي التقليدي لإسرائيل ولكن ليس لليهود كمسألة، ولا كقضية، ولا كحالة ثقافية واجتماعية منظمة في الولاياتالمتحدة. في هذا السياق مرّ اليمين التقليدي المحافظ بتحولات بإتجاه التكيف مع نفوذ اللوبي الصهيوني داخل المؤسسة الأميركية، ولكن ليس إلى درجة خطف سياسة البلد الخارجية من جانب لوبيات ذات علاقة بدول أجنبية، بما فيها اسرائيل. وطبعاً علينا ان نميز هذا اليمين في المؤسسة الحاكمة عن اليمين الراديكالي الشعبوي المعادي للسامية والذي يعرض سياسة البيت الابيض كأنها تطبيق لبروتوكولات حكماء صهيون، وال"معادي لواشنطن"ولمركزية الدولة إذ تحولت الى دولة بوليس معادية في نظره لنمط الحياة الاميركي وللحريات الفردية وللأسس الفيديرالية التي قامت عليها الولاياتالمتحدة. هذه العناصر الناقدة للسياسة الاميركية في الشرق الأوسط بمصطلحات تشابه مصطلحات اليسار مثل"ليبرتي لوبي"التي تصدر صحيفة"سبوت لايت"و"بوبيولست بارتي"وحتى اتباع ليندون لاروش بعيدة عن التأثير على سياسات الولاياتالمتحدة الخارجية. والليبرالية الاميركية غير مرتاحة للسياسات الاميركية الحالية في المنطقة لأسباب عديدة أهمها أنها من صنع الحزب الجمهوري وانها تعارض سياسات هذا الحزب الداخلية، في قضايا مثل الاجهاض والحريات الفردية والتعددية الثقافية وتعددية الخيارات الجنسية وحقوق الاقليات وذاكرة حرب الفيتنام وكيفية التعامل معها ثقافياً، وأن الحرب الاميركية في العراق اصبحت قضية داخلية اميركية، هذا اضافة الى استغلال هذه الادارة احداث 11 أيلول ليس فقط لمهاجمة العراق، وانما ايضاً لمهاجمة منجزات ليبرالية حقوقية اميركية. ولكن القوى الليبرالية الاميركية لم تكن ليبرالية في سياستها الخارجية عموماً، خاصة عندما تعلق الامر بالقضية الفلسطينية. لا في عهد كارتر ولا كلينتون، ولا غيرهم. جميعهم اداروا سياسات القوة لدولة عظمى. وجميعهم تستروا وراء شعارات مثل الديموقراطية وحقوق الانسان من دون ان يقصدوها فعلاً، وجميعهم تحالفوا بموجب معيار"عدو عدوي صديقي"من دون تدقيق النظر بما يفعله"صديقي"في بلده. ولكن الليبراليين الاميركيين حاولوا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تأسيس ايديولجية هيمنة ومنظومة علاقات تظهر فيها الولاياتالمتحدة كحامية للقانون الدولي. في أي حال، انجرّ الحزبان في الولاياتالمتحدة وراء قرع طبول الحرب ضد العراق. ولا أصدق ان أحمد الجلبي بمفرده ضلل المؤسسة الاميركية الحاكمة في ما يتعلق باسلحة الدمار الشامل. ولدي قناعة تامة ان الحربجيين الاميركان كانوا يعلمون انهم يكذبون بهذا الشأن. وكانت اصوات الخبراء التي تنفي وجود اسلحة الدمار الشامل اعلى من غيرها. ولا شك ان بعضهم، خاصةً المحافظين الجدد، كان يعلم انها سياسة امبريالية ولم يكن يؤيدها فحسب، بل يدعو اليها لان على الولاياتالمتحدة ان تنفذ سياسات قوة وتتصرف على أنها امبراطورية، لا قانون دولي ولا كلام فارغ. وقد تنافس الكتاب في تبيين دوافع المحافظين الجدد بما في ذلك التواطؤ مع الرؤية الاسرائيلية لما يجب ان تكون عليه المنطقة منذ حقبة ريغان وبوش الاب ومذكرات ولفوفيتز 1992 وبيرل 1996 وغيرهم من ال"بلو برنتس"التي اطلنا في تحليلها. وينطبق ذلك على الممارسة الاميركية ضد سورية. ويمكن الاطالة في تفسير العلاقة الامريكية الاسرائيلية بالمصالح المشتركة والاستراتيجية ومركباتها الثقافية والدينية وحتى الغيبية. ولا نحتاج الى اقتباس متطرفين مثل مايكل ليدين، وذلك اولاً، لكي لا نكتفي بمهمة سهلة، وثانياً، لأن كتابات كهذه تجعل الامر يبدو مسألة جنون وغرابة أطوار. ولن نقتبس تعليمات الكنائس الانجيلية الصهيوينة رغم اهميتها، اذا يقدر البعض تأثيرها ب 33 في المئة من مصوّتي الحزب الجمهوري وينتمي اليها توم دايلي رئيس الغالبية في الكونغرس، والمدعي العام جون آشكروفت. ولكن لا يجوز الا نأخذ بجدية مذكرة ولفوفيتز من العام 1992 التي تجمع اليوتوبيا بسياسات القوة machtpolitik من مخلفات كارل شميت وليو شتراوس. وقد تبنى البيت الابيض هذه المذكرة عمليا بشكل رسمي في مذكرة من 33 صفحة هي"استرايجية الامن القومي NSS"من 21 أيلول سبتمبر 2002، واَضحت بذلك سياسة رسمية. وكان ولفوفيتز قد دعا الى تواجد عسكري أميركي في ست قارات والى الضربة الاستباقية ضد اية دولة تحاول ان تتحدى دور الولاياتالمتحدة بادعاء دور عالمي او حتى اقليمي اكبر. وكان هنالك من العرب من أيد التدخل الاميركي في العراق سراً لأسباب متعلقة بمصالحه، ولكن كان هنالك ايضاً من آمن بأنها قد تكون فعلاً وسيلة لنشر الديموقراطية في العالم العربي، خصوصاً أن المحافظين قد تخلوا عن مقولة"عدو عدوي صديقي"وعن"الاستقرار"و"الوضع القائم"في دول حليفة لأميركا. وبعضهم سارع الى تخيير الانظمة بين"الاصلاح من الداخل"و"الاصلاح من الخارج"، وكأن الاصلاح هو موضوع العلاقات الدولية الراهنة. راهن هؤلاء على الاوتوبيا وتجاهلوا ال Machtpolitik. ولم يتم كل هذا بسذاجة فقد دخل هؤلاء أيضاً لعبة المصالح. لم يكن أحد بحاجة للمثال الليبي لتنفنيذ مقولة أن المسالة مسألة ديموقراطية. ولا كان سجن أبو غريب مجرد دحض لها. إن منطق السياسة الاميركية ومنطلقها، والتبني الاميركي شبه الرسمي لأصولية"صراع الحضارات"ومسألة الطاقة وضرورة وجود قواعد عسكرية قريبة منها، وأسرلة الموقف الاميركي من الصراع العربي - الاسرائيلي، كلها تؤكد ان مسألة الديموقراطية لم تكن محورية بالنسبة الى أهداف الحرب على العراق، وأن الديموقراطية ايديولوجية تغطي سياسات الامبراطورية وتؤكد فهم اميركا لذاتها في العالم، ولما يجب ان تكون عليه الدول في النظام الدولي كما تراه اميركا. واقع هذه الدول ذاتها ليس قضية، وليست الديموقراطية في هذه الحالة برنامجاً سياسياً فعلاً. ورغم ان جزء من المحافظين الجدد يناوئ علناً الموقف الرسمي الاميركي السابق ان"عدو عدوي صديقي"حتى لو كان غير ديموقراطي، إلا أنه يعاديه في الشرق الاوسط فحسب، وذلك ليس فقط لأسباب متعلقة بالديموقراطية والضيق من التحالف مع انظمة رجعية، وانما لأن القضية الفلسطينية جعلت حتى"عدو عدوي"عدواً لإسرائيل أيضاً. ولذلك يضاف فقط التمييز التالي: عدو عدوي صديقي اذا لم يكن عدوا لإسرائيل أيضاً. كاد الجنرال انتوني زيني يؤكد هذا الحكم في نقده للحرب على العراق في مقابلة CBS يوم 21 أيار مايو 2004 حيث اتهم زيني القائد السابق للمنطقة الوسطى الإدارة الأميركية بأنها خرجت للحرب خدمة لمصالح اسرائيل، ولا يوجد تفسير آخر لهذه الخطوة برأيه. لم يكن كلام زيني مفاجئاً، فقد كانت هذه قناعاته منذ فترة طويلة وقد عمل على ترويجها. وقد عدت بعد نشر هذا التصريح الى نشاطه فوجدت محاضرته في 23 آب اغسطس 2002 أمام نادي فلوريدا الاقتصادي، وهو يؤكد فيها بشكل قاطع معارضته للحرب ويؤكد أن هذا هو ايضاً في الواقع موقف شوارزكوف وكولن باول وبرنت سكوكروفت، أي بإختصار موقف كل من تخصص بالخليج وقيادة المنطقة الوسطى في الجيش الأمريكي منذ حرب الخليج الثانية بما فيهم رؤساء اركان سابقين. ويعدد زيني في نفس المحاضرة ما يجب ان تكون عليه اولويات الادارة الاميركية في المنطقة وهي نفسها التي تستدعي عدم شن الحرب على العراق. وهو يبدأ اولاً بتعزيز"العملية السياسية"و"مسيرة السلام في الشرق الأوسط"، والتركيز في"مكافحة الارهاب"على آسيا الوسطى وافغانستان وصب الجهود لكي لا ينهض تنظيم القاعدة من جديد... إلخ، وان على الولاياتالمتحدة ان تتوقف عن صب الزيت على نار الكراهية لها. وفي حديث آخر أغريت بمراجعته بعد النشر الذي حظي به تصريحه الأخير، يؤكد زيني يوم 6 آذار 2001 في لقاء طويل مع هاري كرايسلر في معهد العلاقات الدولية في بيركلي ان"الارهاب"ليس مسألة اسلامية او مسيحية، بل هو قضية اجتماعية اقتصادية ناجمة اما عن عدم قيام دول بواجبها تجاه مجتمعاتها او عن انحلال دول، وعن وجود شباب يبحثون عن عناوين لتفريغ العنف، وهو يعود ويؤكد ان المسألة ليست مسألة تعصب بالطبيعة او كره طبيعي لأميركا. لدينا عسكري اميركي يحلل افضل من اليسار العربي الذي تحول الى اليمين وبات يهددنا بولفوفيتز. تحليل تقليدي محافظ، ب"العقل السليم"والمصلحة الأميركية نجده عند عسكري سابق ليس في سيرته ما يذكر سوى العسكرية. في أي حال، لقد عدنا الى تصريحات اقل شهرة لنفس الشخص لنثبت للقارئ انه لا جديد في تصريحاته الأخيرة. ما الجديد إذاً؟ الجديد هو نشرها بهذا الاتساع في وسائل اعلام مركزية كانت تعتِّم عليها، ولذلك كان المواطن العادي يجهل هذا الموقف، وأصبح يعرفه. حصل التغيير في الاعلام الذي تملكه الشركات الكبرى corporate media بلغة اليسار الاميركي. إنه الاعلام نفسه الذي عمم صور فظاعات ابو غريب بهذا الشكل الواسع. ولم ينشر صور فظاعات في مرحلة الحرب. الجديد ان وسائل الاعلام التي تمثل مصالح اقتصادية وسياسية متشعبة بدأت تغير موقفها من الحرب، وربما قريباً من الادارة التي تقف وراء الحرب. وهذا هو الجديد، فمواقف شخصيات من خارج المؤسسة مثل بات بوكانان او ديفيد ديوك ضد الحرب معروفة وكذلك ايضاً مواقف العسكريين الذين ذكرهم زيني ويضاف اليهم جيمس بيكر وكين دبرشتاين وريتشارد ارميتاج وريتشارد هاس وجون بيرس من المؤسسة الاميركية السياسية، ولكن الفرق ان هذه المواقف غير المؤيدة للحرب لم تحظ بالتغطية التي تحظى بها اليوم. وما دامت شبكة"فوكس"للأخبار قد انتقلت الى لهجة السخرية من أحمد الجلبي فهذا يعني ان المحافظين الجدد بأسوأ حال. ولم تنتقل"فوكس نيوز"الى معسكر السلام بل تمهد للتعديل في سياسة الادارة الاميركية باتجاه نقل السلطة للعراقيين والاختباء وراء دور انشط وابرز للأمم المتحدة. ولكن يجب التمييز بين اضطرار الادارة الاميركية لتغيير نهج المواجهة، والأدق أن نقول تغيير تكتيكها، في العراق وبين نهج معارضة الحرب القائم حتى في اطار السياسات الاميركية التقليدية. والأمر الأكثر غرابة في هذه السياقات والمواضيع ان موقف الدول العربية التي أيدت الحرب وتظاهرت بمعارضتها ما تزال رغم ورطة الادارة الحالية اقرب الى تأييد تغيير التكتيك عند نفس الادارة منه الى معارضة الحرب او سحب القوات الاميركية من العراق. فبالنسبة الى البعض"زينة الانسان عقله"وبالنسبة الى آخرين العقل هو مجرد زينة ليست للاستخدام. وما العجز العربي الذي بدا في اوضح صورة منذ اقامة الجامعة العربية في القمة الأخيرة إلا تعبيراً عن عدم قدرة بعض الانظمة العربية على تقبل حقيقة ان السياسة الاميركية قد تورطت، وان الادارة الاميركية الحالية تغير النهج ليس تعبيراً عن قبول نصائح هذه الانظمة ولا عن حكمة ودراية اميركية، وانما لأن موقف الاقلية إبان الحرب اصبح موقف الغالبية في الولاياتالمتحدة حالياً. وهو الموقف الذي يرى ان هذه الحرب لم تكن ضرورية لأن العراق قد تم احتواؤه كبلد ضعيف ولم تكن هنالك حاجة لإحتلاله، ناهيك عن تحطيمه، وان الحملة الدموية الأخيرة لن تجلب إلا الأذى والكراهية للولايات المتحدة. ففي مقابل مخزون النفط الذي يتناقص في جوف الارض العربية يزداد في جوف نفس الأرض مخزون الحقد العربي على اميركا واسرائيل. وهذا بمفهوم السياسة الاميركية التقليدية عبارة عن فشل سياسي وعسكري في تأدية المهمة التي صدَّق من دعمها من التقليديين انها فعلاً"المهمة"بأل التعريف، ألا وهي"مكافحة الارهاب". لاحظ بعض الديموقراطيين العرب الذين هددونا بالتدخل الاميركي في صور سجن ابو غريب حرجاً يردع عن متابعة هذا النهج في التهديد، ولذلك فقد صمتوا موقتاً. ولم تلاحظ الانظمة العربية ان السياسات الاميركية في ورطة ولذلك استمرت في انتهاج سياسة الضعف والمراءاة التي تجعل الولاياتالمتحدة تستمر بالتجرؤ على العرب. وعلى رغم الورطة فرضت العقوبات على سورية، وصدرت التصريحات الاميركية الأولى حول الممارسات الاسرائيلية في رفح كدفاع عن النفس. ويبدو انه ليس هنالك من بديل للقوى الديموقراطية في الوطن العربي عن لملمة وتجميع القوى الاجتماعية والاسباب الداعية الى اجراء الاصلاح داخلياً وذلك في حزمة واحدة ونفَس واحد مع ضرورة تصليب الموقف العربي في ما يتعلق بالقضايا الوطنية والقومية. فالسياسات الاميركية في ازمة، ولا يمكن الاستعانة بالنظام العربي القائم ضدها رغم الأزمة. ومن ناحية أخرى هنالك حاجة للاصلاح عربياً، وقد باتت الاستعانة بأميركا لغرض الاصلاح خيانة في نظر الشعوب. فولفوفيتز الذي يجمع بين يوتوبيا وودرو ويلسون وتوسعية وعدوانية الفيلد مارشال فون مولتكه في طريقه لدفع ثمن فشل السياسة التي ارتبطت بإسمه وباسماء تشيني ورامسفيلد وبيل كريستول وريتشارد بيرل ونيوت غينغريتش وجيمس وولسي، والطابور الخامس داخل الخارجية الاميركية جون بولتون وليز تشيني، ووليام سافير وارئيل شارون ونتانياهو و"فوكس نيوز"و"ناشيونال رفيو"، و"ديفنس بوليسي ريفيو"و"ويكلي ستاندرد"و"كومنتري"و"وول ستريت جورنال". وباتت حتى الحركات الصغيرة في العالم العربي عندما تصدر مناشير ديماغوجية ضد الخصوم تستخدم اسم احمد الجلبي شتيمة لنعتهم به. لقد انتهت ديموقراطية الدبابة الاميركية قبل ان تبدأ. وعلى القوى القومية والوطنية الديموقراطية ان تطرح تصورها للإصلاح والديموقراطية في كل بلد على حدة كقوة وطنية تؤكد بنفَس واحد حق المقاومة ضد الاحتلال، والتضامن مع الشعب الفلسطيني ورفض العقوبات ضد سورية، ورفضها لتسويات غير عادلة مع اسرائيل. * كاتب عربي.