يدخل شهر مارس آذار حافلاً بأجندة احداث حاشدة لبنانياً واقليمياً ودولياً منها الظاهر ومنها المستتر من دون اغفال عامل المفاجآت الذي يمكن ان يغير الكثير من المعطيات القائمة ويطرح معادلات جديدة قد تغير مسار الازمات القائمة والحلول المطروحة لها. والبداية كانت قبل ساعات قليلة وتمثلت بزيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الى المملكة العربية السعودية ولقائه خادم الحرمين الشريفيين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والقمة الايرانية - السعودية تمثل تلاقي محور الرياض وثقله مع الدور الايراني وتداخلاته. وبالقدر الذي سيتم فيه التفاهم الفعلي بين الجانبين سوف تظهر انعكاسات ذلك على المشهد الاقليمي والدولي، سواء في السلب أو في الايجاب مع التمني بطبيعة الحال ان تطغى العوامل الايجابية على كل ما عداها نظراً للمخاطر التي تنطوي على عدم التوافق على جوامع مشتركة في هذه الفترة المفصلية بالذات. ومن شأن الوفاق السعودي - الايراني اذا ما وضعت له معالم واضحة ومحددة ان ينقذ المنطقة بكاملها من مواجهات بالغة الخطورة وتداعيات، اذا لم يتم استدراك الأمور ضمن مروحة عريضة من الاحداث والمحطات من الملف النووي الايراني الى ترشيد العلاقات مع الولاياتالمتحدة الاميركية مروراً بالوضع المأزوم في لبنان والتوتر القائم مع سورية، وصولاً الى الحدث المستجد الذي يتمثل بالمؤتمر الخاص في بغداد الذي سيجمع بعض الاطراف السياسية المتنافرة للمرة الاولى منذ اندلاع الحرب الاميركية والبريطانية على العراق والتورط الذي اوقع الرئيس جورج دبليو بوش نفسه والولاياتالمتحدة والمنطقة بكاملها، فيه. واجتماع بغداد هو الحدث الآخر المرتقب خلال الشهر الجاري ومع التحضير لانعقاده قريباً - اذا لم تحدث مفاجآت - يُطرح رهان كبير: هل تكون بغداد هي الحل؟ كما كانت المأزق منذ قلب نظام صدام حسين وغرق التطور الاميركي في المستنقع العراقي الكبير، ويحتاج الرئيس بوش بشكل ملح الى"خروج مشرف"من العراق يعطي الانطباع بعدم حدوث هزيمة كاملة، كما تحتاج دول الجوار الى حل يوقف انتشار النار العراقية والتي لا تقف اخطارها داخل الحدود، بعد ان اصبح العراق ملتقى الارهاب المحلي والوافد من كل حدب وصوب. وكلما عملت الدوائر الاميركية على نفي التوصل الى صفقة مع النظامين السوري والايراني فهذا يؤكد أهمية التوصل الى مثل هذه الصفقة اجلاً ام عاجلاً مع دفع الاثمان التي ستضطر السياسة الاميركية الى تحملها على حسابها الخاص والقسم الأكبر على حساب الآخرين في المنطقة. ومع"موافقة"ادارة الرئيس بوش على مشاركة سورية وايران في اجتماع العراق بعد طول مكابرة وتردد يحمل الكثير من المؤشرات، ويرى بعض المراقبين فيه اقتناع الرئيس الاميركي ببعض ما ورد في تقرير بيكر - هاملتون في هذا المجال وخاصة التركيز على ضرورة التعاطي مع دمشق وطهران على اساس انهما جزء من الحل وليس فقط في المشكلة، وفي هذا المجال يمكن للجانب الايراني ان يلعب دوراً بارزاً في تهدئة البركان العراقي المتفجر مذهبياً وطائفياً وأمنياً، كما سبق للرئيس السوري الدكتور بشار الاسد ان عرض خدماته في هذا الشأن وقال إن النظام في سورية يملك الطاقة والامكانات لوقف"النزاعات المذهبية والطائفية"في العراق، واعتبرت في حينه تصريحات دمشق وكأنها عملية استدراج عروض للمساعدة على اطفاء الأتون العراقي المتفجر. والذي يساعد على اضطرار واشنطن الى الاستعانة بالخبرات الايرانية والسورية ان الخطة الأمنية الجديدة التي وضعت موضع التنفيذ قبل ايام لم تؤد الى خفض درجة العنف وعمليات التفجير اليومية، فقد اعلن الناطق العراقي في واحد من بياناته عن حدوث تحسن في الوضع الأمني"بدليل تسليم ما لا يزيد على عشرين جثة في اليوم"! وعليه سيكون مؤتمر بغداد لقاء سيحدد مسار الواقع العراقي وجواره للسنوات المقبلة خاصة أن رئيس الاستخبارات المركزية الاميركية اعترف قبل أيام بأن"مصطلح الحرب الأهلية هو الوصف المناسب لعناصر أساسية في النزاع القائم، وان الوضع في العراق يسير في اتجاه سلبي"علماً أن واشنطن كانت ترفض استخدام تعبير الحرب الأهلية، وهذا ما يمهد لاضطرار إدارة الرئيس بوش لاتخاذ سلسلة خطوات تراجعية في الموضوع العراقي مقابل التسليم بالهيمنة العراقية او النفوذ السوري رغم كل ما يحكى في هذه الأيام عن بعض الاختلافات في تبويب اولويات المرحلة ما بين دمشق وطهران، لكن هذا الأمر لن يبلغ بعض الحدود المعينة ولن يتحول الى أزمة أو صراع باعتبار ان المصالح الاستراتيجية تتحكم بالعلاقات السورية - الايرانية في اكثر من موقع وأكثر من مكان. وفي سياق الحديث عن الوضع العراقي المتأجج لا بد من التوقف عند القرار البريطاني الذي اعلنه توني بلير بعد طول تردد عن بداية سحب القوات البريطانية من البصرة. وتكمن خطورة وأهمية هذا القرار ليس بعدد الجنود الذين سيتم سحبهم 1500 جندي بل بالمبدأ، حيث ان بريطانيا الحليف الأكبر والأوثق لاميركا. وقد اختلفت التفسيرات لهذا القرار فهناك القراءة التي تحدثت عن الاقرار بالهزيمة والفشل في تحقيق اهداف الحرب والاعتراف بسوء تقدير توني بلير في هذا الشأن، في حين ان قراءة اخرى رأت ان بداية سحب القوات يعني ان الوضع بدأ يميل الى التحسن! لكن قرار بلير الذي يستعد لمغادرة الحكم اضطراراً قبل اكمال ولايته الثالثة، وأحد الاسباب الحرب في العراق، ترك العديد من الاصداء في واشنطن، حيث سارع الحزب الديموقراطي المعارض لتسجيل نقاط سلبية على مواقف وسياسات الرئيس بوش، ومضاعفة الضغوط لارغام الرئيس الاميركي على اعلان برنامج محدد لبدء انسحاب القوات الاميركية من العراق بصورة تدريجية لأن الرأي العام الاميركي ضاق ذرعاً بالضحايا والخسائر الكبيرة التي يتحملها وكما قيل لبوش: كيف نستطيع الوصول الى القمر ولا نتمكن من الوصول الى محافظة الانبار في العراق؟ اما الرهان العام فيأخذ بعين الاعتبار في خطوطه العريضة العناصر التالية: رحيل توني بلير المبكر عن الحكم، يقابله رحيل الرئيس الفرنسي جاك شيراك الشهر المقبل بعد انتهاء ولايته، فيما يبقى الرئيس بوش في البيت الابيض لفترة ثمانية عشر شهراً، وكما كتب توماس فريدمان في صحيفة" النيويورك تايمز"ان فوز المعارضة الديموقراطية ارغم الرئيس على جمع اوراق مكتبه استعداداً للرحيل... لكن هذه العملية سوف تستغرق سنة ونصف السنة، وكأنه لا يريد ان يقول ان امام الرئيس بوش فسحة زمنية معينة لاحداث بعض التغييرات من العراق الى فلسطين وصولاً الى لبنان. والساحة اللبنانية مقبلة بدورها على تطورات يصعب تحديدها بالضبط نظراً للأجواء المأزومة القائمة ولتحول الوطن الصغير الى ساحة تجاذب حاد بين"دول كبرى"وفي الاطار اللبناني المحلي يقترب الاعتصام الشعبي حزب الله - التيار الوطني الحر - المردة وسائر اطراف المعارضة من المئة يوم، ورغم انه وجه رسالة واضحة لكنها لم تكن حاسمة في احداث التغيير المطلوب. ومن مفارقات المشهد اللبناني ان فريق السلطة يطالب فريق المعارضة"بالجلاء"عن ساحتي رياض الصلح والشهداء بسبب تعطل الدورة الاقتصادية في منطقة الاعتصام، فيما يرد فريق المعارضة بمطالبة رئيس الحكومة فؤاد السنيورة"بالجلاء"عن السراي الكبير! وتقتضي الموضوعية السياسية الاعتراف بوضوح ان الاعتصام الشعبي لم ينجح في تقويض الحكومة كما كان التوقع وفي المقابل فان حكومة الرئيس السنيورة لا تستطيع اغفال مطالب المعارضة وان تمضي في سياسة التجاهل والرهان على عامل الوقت لأن تفاقم حالة الاحتقان في الداخل اللبناني تنذر بعواقب وخيمة اذا لم يتمّ استدراك الامور. خاصة أن"عدة الشغل"لأي صراع يمكن ان ينشب باتت متوافرة وفي طليعتها الاموال والاسلحة. وفي اعتقاد بعض العارفين في الشأن اللبناني ان ما يتدفق على مختلف الاطراف اللبنانية من اسلحة من خلف الحدود بشتى الطرق والوسائل من شأنه ان يؤمن ما يسمى ب"توازن الرعب"بين الاطراف المتنازعة، لكن وجود عناصر التفجير في الايدي اللبنانية يؤمن الارضية الخصبة لتدهور الموقف في كل لحظة باعتبار ان تداخل العامل الداخلي مع العامل الخارجي بات شديد الوثوق ويخشى ان يستغل الخارج هذا الداخل اللبناني في أي صراع يكون فيه اللبنانيون على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم الوقود والذخيرة الحية لهذا النزاع. ورغم اجماع الكثير من اللبنانيين على رفض العودة الى زمن الحروب الاهلية فإن بعض الاطراف يخوض معركة مصيرية ستحدد هوية لبنان لفترة آتية باعتبار ان ما يشهده لبنان تخطى ان يكون أزمة سياسية عابرة يمكن ان تنتهي ببعض الحلول التقليدية كتأليف حكومة والاعلان عن بعض الاصلاحات الفرعية، في حين ان الاحداث تؤشر الى وجود لبنان عشية فترة مفصلية في تحديد هويته. ولأن الحروب الاهلية لا تصدر في العادة بقرارات وزارية أو غير وزارية فالخشية تبقى قائمة من ان يستمر لبنان في ان يكون الساحة المستباحة للآخرين للتبارز على ارضه والطعن باستقراره، مع بلوغ المفارقة اللافتة ان يكون مصير لبنان ضمن الصفقة الاكبر، رغم اصرار واشنطن على التأكيد للزعيم اللبناني وليد جنبلاط على ان المصير اللبناني لن تتم المقايضة عليه في اجتماع بغداد أو في أي مجال آخر. ويبقى لبنان على رجاء حدوث معجزة قبيل انعقاد القمة العربية في الرياض في نهاية الشهر الحالي. والشجاع من يراهن على ثبات السياسة الاميركية وعلى صدقيتها مقابل مصالحها الكبرى. فهل يعي اللبنانيون ما الذي ينتظرهم من أخطار وان عليهم اتخاذ المبادرات الشجاعة لإنقاذ العيش المشترك من اخطار حقيقية تتهدده حتى لا يسبق السيف العزل وحتى لا تضيع بعض الفرص الذي لا تزال متاحة والتي يخشى ان يفقدها اللبنانيون في رسم مسار مستقبل الوطن الذي يشكو من كثرة التهافت عليه وخطب وده؟ ولكن على طريقة"من الحب ما قتل..."قد يكون هذا النوع من التهافت الإقليمي والدولي... * اعلامي وكاتب لبناني