لم يغب أبداً عن مخيلة الفنان التشكيلي تيسير بركات، وهو يعد معرضه الجديد،"الرقم الذي صار اسماً"، وجه جدته التي ودعت آخر لحظاتها في الحياة وهي تنتظر ابنها المفقود منذ عام 1956، بعد توجهه لتنفيذ عملية فدائية. ويقول بركات:"توفيت جدتي وهي تنتظره على ناصية الشارع في مخيم جباليا للاجئين في قطاع غزة. بقيت تنتظره أكثر من ثلاثة عقود. كانت تعيش مع ما يشبه الأساطير حول ابنها الذي ربما ابتلعه الموت، وربما لا يزال على قيد الحياة. لم يغب وجه جدتي الشاحب عن مخيلتي أبداً وأنا أعد هذا المعرض، بل كان أحد عوامل إنجازه". والمعرض الذي استلهم فكرته من رسائل الأسرى في سجون الاحتلال مع أقاربهم، وبدأ في قاعة الحلاج في رام الله، يتضمن مقاطع من رسائل"إنسانية"للأسرى، بعضها محبوس في غرف زجاجية ضيقة فوق أعمدة سود كقضبان السجون وأيامها، مع وجوه مكوية بالنار على الخشب، وبعضها مصلوب على بياض جدران المعرض، في حكايات فنية تضرب في القلب عميقاً. و"عاش"بركات عامين مع آلاف الرسائل التي كان يتبادلها الأسرى مع أقاربهم وأصدقائهم منذ الانتداب البريطاني، مروراً باحتلال 1948، فاحتلال 1967، إلى يومنا هذا. واللافت أن لابنه ورد 7 سنوات حكاية مثيرة مع هذه الرسائل، إذ يقول بركات:"كان يقرأ الرسائل في غرفته من دون علمي إلى أن اكتشفت مدى الحزن الذي بات يغمره. عندما بدأ يسألني عن عالم مجهول تعرّف إليه في الظلام. كان متأثراً جداً الى درجة أصر على مشاركتي في أعمال المعرض، فساعدني في تقطيع الزجاج، وحرق الخشب، والتصوير". ويشرح بركات أنّ"كل ما قدم عن الأسرى لم يكن أكثر من معرض احتفائي، أو تظاهرة تضامنية. حاولت في هذا العمل أن أقدم عملاً فنياً عميقاً، يؤنسن حكايات الأسرى ويومياتهم التي ترصدها الرسائل. لذا ابتعدت عن اللوحة لاعتقادي أنها لا تعبر عن عمق مأساة أسير يناضل للمس أطراف أصابع ابنه الصغير عبر السياج". ويأمل بركات بأن ينتقل المعرض إلى مدن فلسطينية أخرى وعواصم عربية وعالمية، خصوصاً أنه يمس جميع من سبق له أن تعرض لتجربة الأسر. فهذه التجارب تحمل من المعاناة والعذابات الكثير، سواء كان الأسر لأسباب نضالية، أم سياسية، أم حتى فكرية تتعلق بحرية التعبير عن الرأي. كما يتمنى أن تسنح له فرصة إيصال المعرض إلى الجمهور الإسرائيلي ليدرك"هذا الجمهور ما تتسبب به دولته المحتلة من معاناة لأبناء شعبي". وفي كتيب المعرض يخاطب بركات الأسرى قائلاً:"تسرقني تفاصيل الحياة، وتفاجئني تفاصيلكم على كل منعطف. أغيب عنكم، وتدميني ملامسة أطراف أطفالكم على الشباك. تصعقني كهرباء الحياة التي تتواصلون بها من فتحات صغيرة. أغيب وتعيدوني إليكم".