اختار الباحث الفرنسي اريك لوغيب خمسة وستين سينمائياً، من الأعلام ومن أجيال مختلفة، ليتحدثوا بصراحة، في لقاءات مكثفة، عن تجاربهم، من جوانبها كلها، وخصوصيتها، على مدى قرن من تاريخ السينما الفرنسية، التي كانت على علاقة وثيقة بتيارات فكرية وفنية وأدبية، تركت تأثيرات واضحة على ثقافة القرن العشرين وفنونه. وفي هذه الحوارات، أو الشهادات التي تحمل اعترافات بالأسود والأبيض، مفاجآت وأحداث، لم تكن معروفة، في كتابات المؤرخين والباحثين والنقاد، الذين كتبوا عن المخرجين والكتّاب والأفلام من الخارج، بينما جاءت هذه الحوارات من الداخل، وكان عدد من السينمائيين أعضاء في الأكاديمية الفرنسية، مجمع الخالدين، وهم: جان كوكتو، مارسيل أشار، رينيه كلير، مارسيل بانيول، ما يشير إلى أهمية الفن السينمائي في نسج الثقافة الفرنسية. عنوان الكتاب هو"السينما الفرنسية في قرن"ترجمة محمد علي اليوسفي - سلسلة الفن السابع، ويمكننا النظر اليه على انه سلسلة الفن السابع، نموذج نادر من الكتب التي تختار زوايا أكثر قرباً من المنجزات الإبداعية، حينما نقرأ هذه المنجزات بعيون مبدعيها أنفسهم. يؤكد المؤلف، بداية، أن السينما الفرنسية هي أغنى السينمات وأعرقها وأكثرها تنوعاً، غير أنها تظل الأكثر صعوبة، حيث تتعدد أوصافها بتعدد مخرجيها، وهي سينما المؤلف، فكل مخرج هو"فارس متوحد"كما يقول المؤلف. في شهادة آبل غانس رصد لأعماله المهمة التي امتدت نحو ستين عاماً، بين السينما الصامتة والسينما الناطقة، ومنها الفيلم الصامت"نابليون"الذي أنجز عنه نسخة ناطقة بعد خمسة وأربعين عاماً من تصويره بعنوان"نابليون والثورة"وكان آخر أعماله السينمائية. ويتحدث غانس بحب وأسى عن أعماله التي كتبها بنفسه، وتحولت إلى أفلام، وعن نجاحاته وإخفاقاته، وعن الذين عرفهم وعمل معهم، مثل سارة برنار وساشا غيتري، وعن السينما:"لم أكن أسعى إلى السينما، كانت السينما هي التي تسعى إلي... أعتقد بأنني اكتشفت قسماً كبيراً من الحروف الأولى لأبجدية السينما". أما جان كوكتو الذي أضاف السينما إلى مواهبه المتعددة في الشعر والمسرح والأوبرا والقصة والرسم والتمثيل، فإنه أضاف إلى السينما أربعة أفلام مهمة خلال ثلاثين عاماً:"دم الشاعر"،"النسر ذو الرأسين"،"الآباء المزعجون"وپ"وصية أورفيه". وكانت هذه الأفلام محوراً لدراسات الباحثين في السينما وجمالياتها وشعريتها وغرابتها، فالسينما عند كوكتو هي التي تجعل اللامرئي يرتدي الضوء. ويبدو أن الحواجز التي تفصل الكتابة عن الإخراج السينمائي كانت واهية، كما هي الحال بين المسرح والسينما، ومن هنا جاءت تجربة مارسيل ليربييه، التي امتدت من أوائل العشرينات إلى منتصف الخمسينات من القرن الماضي، حيث انتقل إلى الأعمال التلفزيونية، وكان نشاطه موزعاً بين الكتابة والإخراج، وأسس مع رينيه كلير وجاك فيدر وجان رينوار وآبل غانس لجنة الدفاع عن السينما الفرنسية، كما أسس معهد الدراسات السينماتوغرافية العليا إيديك. ثمة رأي لجان رينوار، الذي باع لوحات أبيه ليصنع بعض أفلامه، يبرر فيه حبه للكوميديا، يقول:"إن الحياة ذاتها ليست على ذلك القدر من البهجة، فلماذا نريدها أكثر سواداً". ويؤكد رينوار أن فيلمه"غداء على العشب"ليس من له علاقة بلوحة مونيه الشهيرة، لأن"صورة السينما مضروبة بأربع وعشرين صورة في الثانية، أما اللوحة فهي الصورة القرن". ويمكننا أن نلاحظ أن عدداً كبيراً من السينمائيين الفرنسيين كانوا يعملون في السينما والتلفزيون معاً، بينما يرفض آخرون العمل في التلفزيون. أما موريس كلوش فيرى أن"المعركة بين السينما والتلفزيون مفتعلة"، وينحصر الخلاف بين الفريقين في أن أحدهما يرى أن التلفزيون يشوه السينما، ويرى الآخر أن التلفزيون يخدم السينما في الإنتاج والتوصيل إلى الجمهور العريض. ونقرأ في إجابات السينمائيين حول بداية علاقتهم بالسينما، ما هو مختلف جداً بين سينمائي وآخر، ويبدو أن عدداً كبيراً منهم بدأ من خلال خدمته في الجيش، أما مارسيل كامي فإنه تعلم الإخراج في معسكر اعتقال نازي، وآخرون بدأوا من خلال إعجابهم الجنوني بفيلم أو مخرج أو ممثلة، لكن جان جيرو أصيب بفيروس السينما حين كان يدرس الطب. ويرتبط الاختلاف في الأسلوب، بالاختلاف في تعريف السينما، والموقف من التقنية والجمهور، وهذا ما نراه لدى الروائي والسينمائي آلان روب غرييه الذي يرى أن السينما التي يحلم بها هي"لغة موسيقية، شعرية، تشكيلية، أما الجمهور فيجب أن يهتز دائماً، لأنه قد يفضل النوم في السينما".