يمكن مشاهدتُهم عن بعد. انهم روّاد حديقة "هايد بارك". عددُهم كبير. إنّها ظهيرةُ يومِ أحدٍ مشمس في العاصمة البريطانية لندن، وممارسة التقليد البريطاني الأكثر شهرةً بدأت كالعادة. هذا هو المكان الذي يأتي إليه اللندنيون والسياح ليقولوا ما شاؤوا. الكلام كله مسموح. الممنوع واحد: اهانة الملكة. والشرط واحد : أن تقف على منصّة ولو صغيرة، ليس ليراك الحشدُ في شكل أفضل، بل لترتفع عن الأرض البريطانية وتقول ما تشاء من دون تدنيسِها!...الرجلُ الأسود الذي يقف على يمين مدخل "هايد بارك" يعرف اللعبةَ جيداً. خلفَ منصته يافطة كُتِب عليها: "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. محمد يتكلم". يحيطُ به ستّةُ شبان، سود أيضاً. كلهم يرتدون بدلات زرقاً، وربطات عنق حمراً، ونظارات سوداً. هم "حراس" المتحدث ويعتقدون أنهم يلعبون دورهم جيداً. لكنهم يثيرون الضحك. يلتفتون شمالاً ويميناً بعصبية مفتعلة، محاولين تقليدَ حراس كبار الزعماء، بحثاً عن مجرم محتمل قد يريد أن يُسكِت "زعيمَهم". لكن لا وجود لمجرمين هنا. فقط نحو عشرين بريطانياً يستمعون إلى المتحدث، وسائحة إندونيسية. يقول زعيمُ منصة "محمد يتكلم" ان "هيمنة البيض" على المجتمع إلى ارتفاع. وأن مأساة السود تتفاقم. "لكن ما علاقة التمييز العنصري بالطابع الديني لاسم مؤسستِكم؟" سأله أحدُ البريطانيين. فأجاب: "لأنَّنا نحن المسلمين نحترم السيد المسيح، وقد ذُكِر اسمُ سيدنا عيسى في القرآن الكريم، لكننا نخالف المسيحيين في بعض الامور. لذلك نحن نسعى إلى العدالة الاجتماعية وإلى المساواة بين البيض والسود". علامات التعجب ظهرت على الوجوه. بعض الحاضرين ربما اعتقد أنَّ هناك فلسفةً ما وراء أفكاره التي لا يربط بينها رابط. لم يسمح المتحدث بسؤال ثانٍ ووعد بالإجابة عن كلِّ الأسئلة لاحقاً. وتابع: "بدأنا مهمتنا هنا في لندن، ثم انتقلنا إلى هولندا..." في هذه اللحظة، مرّت امرأة بريطانية بقرب الحشد وهي تردد بصوتٍ مرتفع ترانيم مسيحية، رامقةً المتحدّث بنظرةِ تحدٍّ قبل أن تختفي بين الحشود. وتابع "ومنها إلى المغرب ثمّ زمبابوي. نريد أن يصل صوتنا إلى العالمية". صَمَتَ قليلاً محاولاً قراءةَ عيون المستمعين وجسَّ نبضهم، ثم أضاف: "لذلك، نحن بحاجة إلى تبرّعاتِكم". اغرورقت عينا السيدة الإندونيسية السائحة بالدموع تأثراً. وهي وضعت في كيس أحد "الباديغاردز" مبلغاً من المال. البريطانيون والسياحُ الآخرون فهموا أنَّ تلك "الجمعية" ليست سوى محاولة شبان فقراء، البقاء على قيد الحياة في عاصمة السبعة ملايين نسمة. فكانت الكلمات ملجأهم الوحيد. كلمات تحمل معاني أم لا، لا يهم. أليس "هايد بارك" منبراً مفتوحاً لكل أنواع الكلام؟ ... ثمّ المعاني لا تهمّ أيضاً، لأنّ ال "nonsense" أو اللامعنى، مفهوم يعشقه الإنكليز ويعملون على إتقانه. هو جزءٌ من هُويتِهم ولطالما فخر به كبار كتابهم وشعرائهم وأبرزهم أوسكار وايلد. والمثل الصارخ على ذلك، جمعيةٌ تقفُ في الجهة الاخرى وتطلق على نفسِها اسمَ "الإلحاد المسيحي". والمتحدثُ باسمِ الجمعية يقولُ من على منصتِه أي خارج الأراضي البريطانية طبعًا!: "المسيحية أوجدت الرأسمالية وعليها الآن أن تقضي عليها وتسحقها...". بالقرب من "المسيحيين الملحدين" يدور الجدلُ الأكثر حماسةً في "هايد بارك". العراق. جبهتان: الأولى مؤلفة من عشرات الباكستانيين. والثانية من بريطانيين وأميركيين. الجوّ مشحون والصراخ عال. التقاطُ طرف الحديث يحتاج إلى تركيزٍ قوي. "الفارق بين صدام حسين وأسامة بن لادن هو أنّ الأول أخذ أموالكم أي الأميركيين وقتل بها شعبَه، أما بن لادن فأخذ مالَكم وقتلكم أنتم به! فيحيا بن لادن". بهذه الكلمات أطلق الرجل الباكستاني سلسلةً طويلة من جميع أنواع الضجيج والاحتجاجات يصعبُ فهمُها. شابٌّ أميركي أعاد الهدوء بقوله: "استيقظوا يا جماعة! الحادي عشر من ايلول سبتمبر وقع في الولاياتالمتحدة، لكنَّ الإرهاب قد يصل إلى حيث تعيشون أنتم، هنا، على جسر ويستمنستر!". وأجاب الرجل الباكستاني: "لا لا لا! هذا بلدنا ونحن نحبه ولن نؤذيه وسنوجّه اعتداءاتِنا إليكم أنتم الأميركيين". ثمّ بعيداً عن السياسة اشتعل صراعُ الحضارات بين شابٍ باكستاني وفتاة أميركية شقراء. "على الأقل يمكنني أن أقول ما أشاء في وطني. أحب الولاياتالمتحدة. على الأقل يمكنني أن أقود سيارتي بنفسي". أجاب الباكستاني: "أجل أجل! أعرف قيمَكم جيداً! قولي لي...حين كنتِ في السادسة عشرة كم شاباً واعدت؟". صدمت الشابة الأميركية وحاولت الاستفاقة من صدمتها، فقالت منقطعةَ الأنفاس: "يا إلهي أنا سيدة محترمة". صرخ رجلٌ بريطاني من الخلف: "أنتم حثالة". الساعة تأخرت. إنها الثالثة بعد الظهر وحديقة "هايد بارك" باتت شبه فارغة. اقترب الشاب الباكستاني من الأميركية ليختتم اللقاء وقال تحبّباً: "تعلمين أنا لا أقصد ما أقول. إنها عطلة الأحد المضجرة وليس لدي ما أفعله سوى الكلام...".