الأمير تركي الفيصل عرض رؤية عملية لما بعد الحرب في غزة، ترتكز على تمكين السلطة الفلسطينية من إدارة القطاع، وإعادة الحياة المدنية، والشروع في إعادة الإعمار، استنادًا إلى الخطة المشتركة بين الرياض وباريس، ويعكس هذا الطرح فلسفة سعودية أعمق، وهي أن الاستقرار لا يتحقق بالفراغ أو بالإقصاء، بل ببناء مؤسسات قادرة على تلبية احتياجات الناس ومنحهم الأمل.. مقابلة الرئيس الأسبق للاستخبارات السعودية، الأمير تركي الفيصل، مع الإعلامية كريستيان أمانبور على شبكة CNN، تجاوزت الحدث الإعلامي العابر، إلى كونها خطابًا سياسيًا متماسكًا يضع النقاط على الحروف في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، فحملت تصريحاته، التي وصف فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ب"المجرم والمختل"، أبعادًا تتجاوز الموقف الشخصي لتصبح تجسيدًا لجوهر السياسة السعودية في القضية الفلسطينية، وخطًا أحمر سعوديًا تجاه أي محاولة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل في ظل الواقع الراهن. لم يراوغ الأمير تركي الفيصل بلسان دبلوماسي أو ترك الباب مواربًا، بل جاء خطابه حاسمًا: "لا سبيل لأن تقوم المملكة بالتطبيع مع إسرائيل في الوضع الحالي"، وينسجم هذا الموقف تمامًا مع الرؤية السعودية التي وضعتها مبكرًا منذ مبادرة السلام العربية عام 2002، حين ربطت الرياض أي تطبيع بإنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية، وحل عادل وشامل وفق قرارات الشرعية الدولية. هذا الثبات في الموقف السعودي يعكس إدراكًا استراتيجيًا أن التطبيع في غياب السلام لن يكون إلا غطاءً لإطالة أمد الاحتلال وتعميق المأساة الفلسطينية، كما أن الإشارة إلى المبادرة العربية في سياق الحوار، وربطها بالخطة السعودية - الفرنسية لوقف الحرب في غزة، يوضح أن المملكة لا تكتفي بالرفض السلبي، بل تقدم بدائل عملية وواقعية مدعومة بتحالفات دولية. أحد أكثر الأجزاء لفتًا للانتباه في الحوار كان تناول الأمير تركي للفكرة التي يروجها نتنياهو عن "إسرائيل من النيل إلى الفرات"، يرى الأمير هذا الطرح امتدادًا لطموحات توسعية لا تخفي أطماعها في أراضٍ عربية وسعودية، ويسلط الضوء على خطورة البُعد الأيديولوجي في السياسة الإسرائيلية الراهنة، فحين تتحول الخرائط والأساطير إلى موجهات للسياسة الخارجية، يصبح خطر الصراع الوجودي أكبر بكثير من مجرد نزاع حدودي. في مقابل هذه الرؤية التوسعية، عرض الأمير تركي الفيصل رؤية عملية لما بعد الحرب في غزة، ترتكز على تمكين السلطة الفلسطينية من إدارة القطاع، وإعادة الحياة المدنية، والشروع في إعادة الإعمار، استنادًا إلى الخطة المشتركة بين الرياض وباريس، ويعكس هذا الطرح فلسفة سعودية أعمق، وهي أن الاستقرار لا يتحقق بالفراغ أو بالإقصاء، بل ببناء مؤسسات قادرة على تلبية احتياجات الناس ومنحهم الأمل. لم يكتفِ الأمير تركي بمخاطبة الداخل العربي، بل وجه رسائل واضحة إلى الرأي العام وصناع القرار في الولاياتالمتحدة والغرب، مشيرًا إلى تراجع الدعم الشعبي لإسرائيل، خصوصًا بين الشباب الأميركي وأوساط الحزب الديمقراطي، وهنا تتقاطع الرؤية السعودية مع المتغيرات في المزاج العالمي، الذي بدأ يعيد النظر في سياسات القوة العارية، ويبحث عن حلول قائمة على القانون الدولي وحقوق الإنسان. تكمن أهمية هذا الحوار في إعادة التأكيد على أن السعودية ليست طرفًا إقليميًا يتفاعل مع الأحداث، بل هي فاعل رئيس يملك رؤية متكاملة للسلام، ويستطيع صياغة مبادرات وتحالفات قادرة على التأثير، فالمملكة التي تقود اليوم مشاريع التحول الوطني والانفتاح الاقتصادي، لا تزال متمسكة بثوابتها تجاه القضية الفلسطينية، وترفض أي مساومة على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وفي زمن يحاول فيه كثيرون إعادة رسم خرائط المنطقة بالقوة، يأتي خطاب الأمير تركي الفيصل كتذكير أن السياسة السعودية لا تخضع للإملاءات، بل هي امتداد لرؤية استراتيجية ترى في السلام العادل والشامل الضمانة الوحيدة لأمن المنطقة واستقرارها، وبينما يمضي نتنياهو في طريق التصعيد، تتمسك الرياض بدرب القانون الدولي والمبادرات الدبلوماسية، في معركة مستقبل الشرق الأوسط برمته.