أعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإطلاقه تصريحات عن ما أسماه "إسرائيل الكبرى"، الجدل من جديد حول الأطماع التوسعية في المنطقة، إذ أثارت هذه التصريحات ردود فعل عربية ودولية واسعة، رافضة لمجرد التلويح بمثل هذا الخطاب الذي يعيد إلى الواجهة نزعة استعمارية تتناقض مع مبادئ القانون الدولي، وتضع مسار السلام في مهب الريح. التلويح بمفهوم "إسرائيل الكبرى" ليس حدثًا عابرًا، بل مؤشر على توجه سياسي خطير يعيد المنطقة إلى مناخات الصراع المفتوح. وفي مواجهة ذلك، يتعين على العرب تعزيز وحدتهم وتكثيف جهودهم الدبلوماسية، مع تحميل المجتمع الدولي مسؤوليته الكاملة في ردع أي مشروع توسعي يهدد استقرار المنطقة ويقوّض أسس السلام العادل. فالسلام الحقيقي لن يتحقق بالخطابات الاستفزازية أو محاولات التوسع، بل عبر الاعتراف بالحقوق الفلسطينية وإقامة دولة مستقلة عاصمتها القدسالشرقية، وفق قرارات الشرعية الدولية ومبدأ حل الدولتين. هذه التصريحات لم تأتِ في فراغ، بل جاءت في لحظة إقليمية ودولية حساسة، تتسم بتشابك الأزمات في الشرق الأوسط، بدءًا من الحرب في غزة وما خلّفته من تداعيات إنسانية وأمنية، مرورًا بتعثر أي عملية سياسية جدية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وصولًا إلى حالة الاستقطاب الدولي التي تلقي بظلالها على مجمل الملفات الإقليمية. الموقف العربي: وضوح وحزم أجمعت الدول العربية، على رفض تصريحات نتنياهو بشكل قاطع، مؤكدة أن الحديث عن "إسرائيل الكبرى" ليس سوى وهم سياسي وخطاب استفزازي لا يمكن القبول به. فقد شددت المواقف الرسمية على أن أي محاولة لتغيير الخريطة السياسية للمنطقة على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية، ستواجه بالرفض ولن تحظى بأي شرعية. موقف المملكة، ومعه المواقف العربية، أعاد التأكيد على أن القدسالشرقية هي العاصمة الشرعية للدولة الفلسطينية، وأن حل الدولتين هو الطريق الوحيد لتحقيق سلام عادل وشامل. وهذا التمسك بالمبادئ يعكس إدراكًا عميقًا بأن الانجرار وراء أي مشروع توسعي يعني تكريس الصراع لعقود طويلة قادمة. خطاب بغطاء انتخابي من الناحية التحليلية، قد يُقرأ تصريح نتنياهو في إطار الخطاب الانتخابي الموجه إلى الداخل الإسرائيلي، حيث يسعى إلى كسب تأييد تيارات اليمين المتشدد والجماعات الاستيطانية. غير أن خطورة الأمر تكمن في أن هذه التصريحات لا تبقى مجرد شعارات انتخابية، بل قد تتحول إلى سياسات فعلية على الأرض، خاصة في ظل التوسع الاستيطاني المستمر في الضفة الغربية وتصاعد محاولات تهويد القدس. إن التلويح ب"إسرائيل الكبرى" ليس مجرد دعاية سياسية؛ بل هو انعكاس لتوجه أعمق يهدف إلى تقويض فكرة الدولة الفلسطينية من أساسها، وتحويل الاحتلال إلى أمر واقع معترف به بمرور الزمن. وهو ما يعني عمليًا القضاء على أي أفق لعملية السلام. انعكاسات إقليمية الخطاب الإسرائيلي الجديد يطرح تحديات مباشرة على الأمن الإقليمي. فإحياء فكرة "إسرائيل الكبرى" يفتح الباب أمام موجة جديدة من التوتر، ويعزز المخاوف من اتساع رقعة الصراع. هذا الخطاب يعيد للأذهان أطماعًا قديمة، ويفرض على العرب واقعًا يتطلب اليقظة والتنسيق لمواجهة أي مشروع يهدد استقرار المنطقة. كما أن مثل هذه التصريحات من شأنها أن تُضعف القوى المعتدلة داخل المنطقة، وتمنح الذرائع للقوى المتطرفة لتبرير مواقفها، وهو ما قد يقود إلى حلقة جديدة من العنف وانعدام الثقة بين الأطراف. التلاعب بخارطة المنطقة المجتمع الدولي لم يلتزم الصمت، إذ صدرت مواقف أوروبية وأممية تعبر عن القلق من تداعيات هذا الخطاب، محذرة من خطورة التلاعب بخارطة المنطقة ونسف مبدأ حل الدولتين. ورغم أن هذه المواقف ما زالت في إطار التصريحات السياسية، إلا أنها تعكس إدراكًا متزايدًا بأن الخطاب الإسرائيلي الأخير يهدد أسس النظام الدولي الذي قام على احترام الحدود المعترف بها ورفض التوسع بالقوة. والأمم المتحدة أكدت أكثر من مرة أن الاستيطان غير شرعي، وأن أي محاولات لفرض وقائع جديدة على الأرض تمثل خرقًا للقانون الدولي. ومن هنا، فإن تصريحات نتنياهو حول "إسرائيل الكبرى" تُعتبر تحديًا مباشرًا لهذه المرجعيات، وهو ما يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية حقيقية تتجاوز حدود الإدانة اللفظية. اختبار للدبلوماسية التصريحات الإسرائيلية الأخيرة وضعت الدبلوماسية العربية أمام اختبار مهم، فالمطلوب اليوم ليس فقط إصدار بيانات الرفض والإدانة، بل صياغة استراتيجية متكاملة للتعامل مع الخطاب الإسرائيلي المتشدد. هذه الاستراتيجية ينبغي أن تشمل تفعيل الأدوات الدبلوماسية في المحافل الدولية، وتكثيف التحركات السياسية لإعادة وضع القضية الفلسطينية على رأس أولويات المجتمع الدولي، والتصدي لمحاولات الاحتلال فرض وقائع جديدة على الأرض. كما أن اللحظة الراهنة تتطلب بناء موقف عربي موحد يعيد الاعتبار لمركزية القضية الفلسطينية، ويؤكد أن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا بالاعتراف بالحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف. رؤية مستقبلية إن خطورة تصريحات نتنياهو لا تكمن فقط في مضمونها، بل في ما تعكسه من غياب لأي رؤية إسرائيلية جادة للسلام. فبينما يرفع العالم شعار حل الدولتين، تأتي هذه التصريحات لتعلن عمليًا رفض هذا الحل وطرح بديل يقوم على الهيمنة والتوسع. وهذا ما يجعل من الضروري التفكير في مقاربة عربية أكثر فاعلية، لا تكتفي برد الفعل، بل تبادر إلى صياغة حلول عملية قادرة على تحريك الجمود السياسي.