ارتفاع عقود البن في بورصة إنتركونتننتال    إيتاوما ووايت يتواجهان في المؤتمر الصحفي قبل نزال قمة الوزن الثقيل    رسمياً .. العبسي اتحادياً حتى 2029    المملكة توزّع (600) سلة غذائية في البقاع بلبنان    أوهام «إسرائيل الكبرى» تعرقل السلام    الهلال يختتم المرحلة الأولى من برنامجه الإعدادي في ألمانيا    تطوير الإطار التنظيمي للصناديق التمويلية بتعميم الاستثمار فيها    نحو جودة التعليم المحوكم    الاستثمار الأهم    النوم عند المراهقين    السعال الديكي يجتاح اليابان وأوروبا    نادي الحائط يتعاقد مع المدرب الوطني الخبير أحمد الدوسري لقيادة الفريق لأول    الهلال يكسب ودية" فالدهوف مانهايم"الألماني بثلاثية    النفط يرتفع 2% مع ترقب خفض الفائدة الأمريكية ومحادثات ترامب وبوتين    بوتين: الإدارة الأميركية تبذل جهودا حثيثة لإحلال السلام    المملكة تتوّج بالذهب في الأولمبياد الدولي للمواصفات 2025 بكوريا    ضبط مواطن في جازان لنقله مخالفين من الجنسية الإثيوبية بمركبة يقودها    هاتفيًا... فيصل بن فرحان ووزير خارجية هولندا يبحثان المستجدات الإقليمية والدولية    ثالث وفاة جراء الحرائق في إسبانيا    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظم حلقة نقاش بعنوان: (تمكين الابتكار الرقمي في العمل التوعوي للرئاسة العامة)    محمد بن عبدالرحمن يعزي في وفاة الفريق سلطان المطيري    أمير منطقة الباحة يستقبل الرئيس التنفيذي لبنك التنمية الاجتماعية    نائب أمير جازان يستقبل مدير مكتب تحقيق الرؤية بالإمارة    اليوم الدولي للشباب تحت شعار"شبابُنا أملٌ واعد" بمسرح مركز التنمية الاجتماعية بجازان    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة أبوعريش    السعودية للشحن توسع قدرات أسطولها بطائرتين من طراز A330-300    نائب أمير جازان يلتقي شباب وشابات المنطقة ويستعرض البرامج التنموية    سفراء الإعلام التطوعي يشاركون في معرض "لا للعنف" للتوعية بمخاطر العنف    مكتبة "المؤسس" تواصل إبراز التراث العربي والإسلامي    بلدية صبيا تكثف استعداداتها لموسم الأمطار وتحدد أولويات المعالجة    زراعة أول نظام ذكي عالمي للقوقعة الصناعية بمدينة الملك سعود الطبية    الإنجليزي أوسيلفان يحسم تأهله إلى الدور ربع النهائي من بطولة الماسترز للسنوكر.. وحامل اللقب يغادر    الصين تطلق إلى الفضاء مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية للإنترنت    حظر لعبة «روبلوكس» في قطر    في إنجاز علمي بحثي.. خرائط جينية جديدة تُعزز دقة التشخيص والعلاج للأمراض الوراثية    التضخم السنوي في السعودية يتباطأ إلى 2.1 % في يوليو    فلكية جدة تدعو لمشاهدة نجوم درب التبانة    أكد إطلاق برنامج «ابتعاث الإعلام» قريباً.. الدوسري: طموحات الرؤية تؤمن بإمكانات الإنسان والمكان    للمرة الثانية على التوالي.. خالد الغامدي رئيساً لمجلس إدارة الأهلي بالتزكية    اطلع على أعمال قيادة القوات الخاصة للأمن البيئي.. وزير الداخلية يتابع سير العمل في وكالة الأحوال المدنية    موجز    انطلاق ملتقى النقد السينمائي في 21 أغسطس    «البصرية» تطلق «جسور الفن» في 4 دول    الشيباني: نواجه تدخلات خارجية هدفها الفتنة.. أنقرة تتهم تل أبيل بإشعال الفوضى في سوريا    واشنطن تشرع في تصنيف الإخوان منظمة إرهابية    دعت إلى تحرك دولي عاجل.. الأمم المتحدة تحذر من مجاعة وشيكة في اليمن    الأسمري يزف تركي لعش الزوجية    بحضور الأمير سعود بن مشعل .. العتيبي يحتفل بزواج إبنيه فايز وفواز    وطن يقوده الشغف    متحدثون.. لا يتحدثون    الأمن يحث زوار المسجد الحرام على عدم الجلوس في الممرات    (ولا تتبدلوا الخبيثَ بالطَّيب)    ناصر بن محمد: شباب الوطن المستقبل الواعد والحاضر المجيد    فهد بن سلطان يكرم الفائزين بمسابقة إمارة تبوك للابتكار 2025    نجاح عملية دقيقة لأول مرة بجازان    استخراج هاتف من معدة مريض    أمير جازان يعزي في وفاة معافا    مباهاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوهام «إسرائيل الكبرى» تعرقل السلام
نشر في الرياض يوم 14 - 08 - 2025

تنامي العزلة الدولية ل(إسرائيل) مع تصاعد سياسات التوسع والاستيطان
استطلاعات: تراجع غير مسبوق في شعبية ودعم إسرائيل عالميًا
لم تكن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول ما يسمى «إسرائيل الكبرى» مجرد فرقعات إعلامية للاستهلاك المحلي، بل عكست قناعة أيديولوجية راسخة لديه، ففي مقابلة تلفزيونية مع قناة i24News؛ سُئل إن كان يؤمن برؤية إسرائيل ضمن حدودها التوراتية الموسَّعة، فأجاب ب«شدة» وأنه يشعر ب«مهمة تاريخية وروحانية» لتحقيق ذلك.
ولم يتورع نتنياهو عن تأييد خريطة ل«أرض إسرائيل» تضم أجزاء واسعة من الدول المجاورة –من الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى أجزاء من الأردن ولبنان وسوريا ومصر – مؤكدًا دعمه القوي لهذه الرؤية التوسعية، وهذه التصريحات ليست نزوة خطابية؛ فقد جاءت بعد نحو 50 يومًا فقط من إقرار الكنيست خطة لضم الضفة الغربية بكاملها لإسرائيل؛ مما يشير إلى أن نتنياهو يُضفي طابعًا عمليًا على أوهامه حول «إسرائيل الكبرى» ولا يعتبرها مجرد شعارات مرحلية.
كيان ديني متطرف
ومن يتابع الصحافة الإسرائيلية وحوارات الكنيست وتغريدات السياسيين الإسرائيليين، سيدرك أن المنطقة ابتليت بكيان ديني قومي متطرف، بات يعتبر التطرف ذاته مصدر بقائه وتماسكه، أكثر من اعتماده على أي استقرار حقيقي، فلأول مرة تتبوأ الحركة الصهيونية الدينية المتشددة مكانًا مركزيًا في الحكومة الإسرائيلية، ويجاهر نتنياهو بتحالفه مع رموز اليمين الديني الأكثر تطرفًا مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير. وقد أشار محللون إلى أن نتنياهو تربى فكريًا في بيت يتبع نهج الصهيونية التصحيحية ويؤمن بأفكار منظّرها جابوتنسكي الداعية لتوسع إسرائيل، ما يفسر احتضانه لأجندة المستوطنين المتطرفة، وتبعث تصريحاته الأخيرة حول «إسرائيل الكبرى» برسالة واضحة مفادها أن فكر وزرائه المتطرفين لم يعد حكرًا عليهم، بل هو فكر رئيس الحكومة المنتخب من قطاع واسع من الإسرائيليين.
وبحسب مراقبون فإن هناك كتلة رئيسية وازنة في المجتمع الإسرائيلي تنزع نحو التطرف الديني والقومي، وتتغلغل في أوساطها نزعات فاشية جديدة بكل ما تعنيه الكلمة، أي أن التشدد الديني والقومي لم يعد هامشيا، بل أصبح التيار السائد الذي يستمد منه الكيان الإسرائيلي تماسكه وديمومته.
والأخطر أن هذا كيان لا يعترف بترسيم الحدود مع جواره، فعلى مدى عقود تهربت حكومات إسرائيل المتعاقبة من تحديد أين تبدأ حدود إسرائيل وأين تنتهي، وكما صرّح تامير باردو الرئيس الأسبق للموساد "إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي لم ترسم حدودها حتى الآن بعد أن تهربت جميع الحكومات السابقة من القيام بهذا الأمر"، ولم يجرؤ أي رئيس وزراء إسرائيلي على الإعلان صراحة عن ماهية حدود إسرائيل النهائية، وهذا الغموض المتعمد يُترجم فعليًا إلى أطماع مفتوحة في أراضي الآخرين، وإلى واقع احتلالي يتوسع باستمرار – من عدم ترسيم الحدود مع الفلسطينيين، إلى استمرار احتلال الجولان السوري، إلى مناوشات حدودية مع لبنان، والأكيد أنّ دولة بلا حدود معلنة هي دولة لا تعترف عمليًا بسيادة جيرانها، وتبقي خيار التمدد مفتوحًا ضمن عقيدتها السياسية.
النصوص الدينية لتبرير العدوان
كثيرًا ما يلجأ نتنياهو إلى نصوص التوراة لاستحضار شرعية تاريخية ودينية مزعومة لعدوان دولته على الفلسطينيين وجيرانها، ففي خضم الحرب على غزة في أكتوبر 2023م، خرج نتنياهو في خطاب متلفز ليوظف نبوءات توراتية حرفيًا في سياق المعركة، وقال مخاطبًا الإسرائيليين: "نحن أبناء النور وهم أبناء الظلام، وسوف ينتصر النور على الظلام"، في إشارة إلى نبوءة إشعياء التي يستبشر فيها بزوال الظلمة، ثم أردف مؤكّدًا: "سنحقق نبوءة إشعياء، لن تُسمع بعد الآن عن الخراب في أرضكم، سنكون سببًا في تكريم شعبكم، سنقاتل معًا وسنحقق النصر"، وهكذا وضع نتنياهو العدوان على غزة – وما يرافقه من دمار وقتل – في إطار حرب نبوئية بين «أبناء النور» و«أبناء الظلام» الذين قصد بهم ضمنًا الفلسطينيين وغيرهم من العرب والأعراق في المنطقة.
ولم يكن استدعاؤه لسفر إشعياء عشوائيًا؛ إذ يحتوي هذا السفر على آيات تتحدث عن انتصار بني إسرائيل على الأمم من حولهم، ففي الإصحاح الحادي عشر مثلًا يَرِد: "وينقضون على أكتاف الفلسطينيين غربًا ويغزون أبناء المشرق معًا ويستولون على بلاد أدوم وموآب ويخضع لهم بنو عمون"، وهي نبوءة عن إخضاع الفلسطينيين وجيران إسرائيل تاريخيًا، وكذلك يرد في الإصحاح ذاته نبوءات عن خراب مصر وتجفيف نيلها وعن هزيمة دول المنطقة.
وحين يستشهد نتنياهو بهذه النصوص التوراتية علنًا، فهو يضفي طابعًا دينيًا على مشروعه العدواني ويبرر استمرار العدوان على فلسطين ولبنان وسوريا بأنه تنفيذ لإرادة إلهية تاريخية، وقد انتقدت جهات دينية مسيحية حتى داخل أوروبا هذا التوظيف المبتذل للكتاب المقدس، مؤكدة أن نتنياهو "أساء تفسير نبوءات إشعياء التي لا يمكن فهمها إلا في سياقها التاريخي" وأنه حوّل صراعًا سياسيا إلى حرب عقائدية.
هوس نبوئي أم حسابات سياسية؟
ويظن الكثيرون أن ما يقوم به نتنياهو من فتح جبهات جديدة وتصعيد مستمر يرتبط حصريًا بأزماته السياسية الداخلية، مثل محاولاته الهروب من المحاكمة بالفساد، أو إرضاء ائتلافه اليميني للحفاظ على كرسي الحكم، ورغم أنّ وضعه الداخلي وحساباته المعقدة عوامل حاضرة بقوة في قراراته، إلاً أنّا ليس العامل الأبرز مقارنة بنظرته الأيديولوجية لنفسه وشعبه، فنتنياهو يتصرف وكأنه صاحب رسالة قدرية تتجاوز السياسة اليومية.وقد وصفه مراقبون بأنه يعاني من "جنون العظمة" ويرى نفسه "الملك والقائد المُرسَل المفوَّض بتحقيق النبوءات التاريخية والدينية"، ويمكن القول بأنّ نتنياهو يتقمص دور نبي من أنبياء بني إسرائيل في العهد القديم، يعتقد أنه مكلف بقيادة شعبه «المختار» نحو الخلاص والانتصار على أعدائه، وهو نفسه لم يُخف هذا الشعور، إذ صرّح بأنه مرتبط ب"رؤية تاريخية وروحانية" لنهضة إسرائيل الكبرى؛ مما يوحي بإيمان عميق بأنه يؤدي مهمة مقدسة تتخطى الحسابات الدنيوية المعتادة.
وفي ظل هذه العقلية المهووسة بالتاريخ الديني، يتبنّى نتنياهو وحكومته سياسات إجرامية متوحشة نابعة من اعتقادهم الفوقي بعنصرية شعبهم، فخطاب «شعب الله المختار» حاضر بقوة في اليمين الإسرائيلي الحاكم، ويجري ضمنيًا تصنيف العرب الفلسطينيين وغيرهم كعرق أدنى منزلة؛ لهذا لا يتورع نتنياهو عن ارتكاب أبشع الانتهاكات، من حصار وتجويع وقتل جماعي، معتقدًا أنه يقود حربًا وجودية مقدسة ضد "أعداء إسرائيل" الذين يجب إخضاعهم.
وهذه النظرة الاستعلائية تغذيها نصوص توراتية وأيديولوجيا دينية قومية، وتنعكس في سلوك الاحتلال على الأرض؛ لذا فإن تصعيد نتنياهو الدائم ليس مجرد تكتيك لصرف الأنظار عن أزماته الداخلية، بقدر ما هو تنفيذ لقناعة عقائدية بأنه مكلف إلهيًا بصنع نصر تاريخي مهما كانت الكلفة.
ويهذا يصف محللون نتنياهو بأنّه يتحرك بعقلية ثيولوجية تصبغ القرارات السياسية الإسرائيلية بصبغة توراتية خاصة، جاعلًا الصراع مع الفلسطينيين حربًا دينية يتم فيها تغليب عقيدة الوعد الإلهي على أي اعتبارات سياسية عقلانية.
عرقلة السلام ومفاقمة التوتر
وفي ظل سياسات نتنياهو وحزبه اليميني، تراجعت إلى حد كبير فرص السلام الإقليمي، وارتفعت حدة التوتر بشكل غير مسبوق، فقد دأبت حكومات نتنياهو المتعاقبة على إفراغ اتفاقيات السلام من مضمونها والتهرب من أي التزامات حقيقية، فمنذ اتفاق أوسلو في التسعينيات، لم تقدم إسرائيل بقيادة نتنياهو أي مبادرة سلام جادة؛ بل على العكس، توسّع الاستيطان أضعافًا مضاعفة، وتم سنّ قوانين لضم الأراضي وشرعنة البؤر الاستيطانية، ما نسف حل الدولتين فعليًا.
ومع كل خطوة نحو التسوية، كان نتنياهو إما يماطل ويضع شروطًا تعجيزية أو يشعل جبهة جديدة تصرف الأنظار عن استحقاقات السلام، وقد اتهمته أطراف دولية مرارًا بأنه العقبة الأبرز أمام أي حل، فهو الذي أفشل مبادرة السلام العربية برفضها ضمنيًا، وهو الذي تباهى بإفشال اتفاقيات أوسلو سابقًا، وتحت حكمه تكررت الحروب على غزة وتصاعدت اعتداءات المستوطنين في الضفة.
وحتى بعض حلفاء إسرائيل التقليديين لم يعد بإمكانهم التزام الصمت، محذرين من أن "ادعاءات وأوهام" قادة إسرائيل المتطرفين "تشجّع على استمرار دوامات العنف والصراع" في المنطقة، وقد رأى كثيرون في الداخل والخارج أن سياسة نتنياهو العدوانية تعيد إنتاج دائرة العنف بشكل مستمر: اغتيالات واقتحامات تؤدي إلى انتفاضات وردود فعل، ثم قمع وحصار يولّد المزيد من الغضب، وبدلًا من الاستقرار، باتت المنطقة على صفيح ساخن دائم بسبب غياب أي أفق سياسي وانسداد قنوات التفاوض.
وتتبنى حكومة نتنياهو الحالية –وهي الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل– رسميا مواقف تنسف أسس السلام، فبرنامجها يرفض صراحة إقامة دولة فلسطينية، ويرى في كل الأرض الممتدة من البحر إلى النهر "أرضًا إسرائيلية" غير قابلة للتقسيم، ومع استمرارها في قتل مبادرات السلام، لا عجب أن يتفاقم الاحتقان الإقليمي إلى مستويات خطيرة تهدد بانفجار واسع.
وإلى جانب الفلسطينيين، امتدت جبهة التصعيد الإسرائيلي لتشمل دولًا عربية مجاورة كسوريا ولبنان، فالاعتداءات الإسرائيلية في سوريا –بذريعة ضرب الوجود الإيراني، وحماية الأقليات– أصبحت شبه روتينية، وفي لبنان، يتعمد نتنياهو استفزاز حزب الله وضرب البنية التحتية تارة وتهديد المدنيين تارة أخرى، مما يبقي احتمال الحرب الشاملة قائمًا.
وكل ذلك يؤكد أن سياسة نتنياهو وحزبه اليميني تُعرقل جهود السلام ليس فقط على المسار الفلسطيني-الإسرائيلي بل في المنطقة ككل، وتزيد التوتر الإقليمي إلى حد ينذر بانفلات الأوضاع عن السيطرة.
نتنياهو خطر على إسرائيل نفسها
ولا تقتصر الانتقادات اللاذعة على خصوم إسرائيل الخارجيين؛ بل تأتي أيضًا من داخل البيت الإسرائيلي ذاته، فقد تصاعدت تحذيرات شخصيات أمنية وسياسية بارزة من أن نهج نتنياهو لا يشكل خطرًا على الفلسطينيين فحسب، بل يضرب أسس أمن إسرائيل واستقرارها على المدى البعيد.
وقد أطلق رئيس الوزراء السابق وزعيم المعارضة يائير لابيد مرارًا دعوات صريحة لاستقالة نتنياهو، معتبرًا أنه "يشكل خطرًا على دولة إسرائيل، وخطرًا على مواطنيها، وغير مؤهل للعمل رئيسًا للوزراء"، وهذا الكلام غير مسبوق في حِدّته، إذ يصف رئيس أكبر حزب معارض رئيسَ الحكومة بأنه تهديد وجودي لأمن الدولة.
ولم يقف الأمر عند لابيد؛ فجنرالات ومسؤولون سابقون انضموا لهذا التحذير، حيث صرح نائب رئيس الأركان الأسبق يائير غولان بأن "من ألحق الضرر بأمن إسرائيل بشكل منهجي لا يستحق أن يكون رئيسًا للوزراء" في إشارة واضحة إلى نتنياهو، داعيًا إلى تصعيد الاحتجاجات الشعبية لفرض تنحيه، وصفًا نهج نتنياهو بأنه تقويض لسيادة القانون، مطالبًا برحيله فورًا قبل أن يقود البلاد إلى كارثة أمنية.
وحتى داخل معسكر اليمين ذاته؛ بدأ بعضهم يدركون أن سياسة نتنياهو انتحارية، فعدد من كبار المسؤولين الأمنيين –بمن فيهم رؤساء سابقون للموساد والشاباك– انتقدوا استمرار الاحتلال والاستيطان بلا حل سياسي، مشيرين إلى أنه يهدد مستقبل إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية. وقد حذر رئيس الشاباك رونين بار من أن السياسات الحكومية الحالية "تعرض مستقبل إسرائيل ووجودها للخطر"، وهذه العبارات القاسية من قلب أجهزة الأمن تعكس مخاوف جدية من أن إسرائيل تسير نحو المجهول تحت قيادة نتنياهو، فبدلًا من تحقيق الأمن الموعود، جلبت سياساته عزلة دولية واحتقانًا داخليًا غير مسبوقين، ولم يعد خافيًا أن إطالة أمد هذه القيادة بات خطرًا على إسرائيل قبل أي طرف آخر اقتصاديًا، وأمنيًا، وحتى على صعيد تماسك المجتمع الإسرائيلي الممزق بين معسكري التطرف والديمقراطية.
عزلة في عقر دار الحلفاء
لقد أدت سياسات نتنياهو المتطرفة إلى تنامي العداء لإسرائيل عالميًا ووضعِها في حالة عزلة حتى بين أقرب أصدقائها التاريخيين، فبسبب مشاهد العدوان والتدمير التي تبث يوميًا من غزة والضفة، اهتزت صورة إسرائيل في الغرب بشكل عميق، ولأول مرة نرى تعالي الانتقادات في عواصم اشتهرت بدعمها غير المشروط لإسرائيل، فعلى سبيل المثال، خرج مئات الألوف في مدن أوروبا وأميركا في مظاهرات غاضبة تندد بجرائم الحرب الإسرائيلية، والأهم من ذلك أن دوائر صنع القرار نفسها بدأت تتململ، بريطانيا وفرنسا – وهما من أشد الداعمين تقليديًا لإسرائيل – اتخذتا مؤخرًا منعطفًا تاريخيًا بإعلانهما التوجه رسميًا نحو الاعتراف بدولة فلسطين في المستقبل القريب، وكذلك كندا، الحليف الوثيق لإسرائيل، أعلنت موقفًا مماثلًا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، في كسر واضح للإجماع الغربي التقليدي. وهذه التحولات ما كانت لتحدث لولا القناعة المتنامية لدى تلك الدول بأن حكومة نتنياهو اليمينية أوصلت عملية السلام إلى طريق مسدود وأحرجت حلفاءها أمام شعوبهم، وقد لخّص رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت هذا الواقع المرير بقوله إن إسرائيل في عهد نتنياهو "أصبحت دولة منبوذة" بعدما باتت "في حالة عداء مع بعض من أوثق حلفائها"، فحتى ألمانيا –التي ظلت تاريخيًا من الأكثر دعمًا لإسرائيل– بدأت أوساطها السياسية تضغط لاتخاذ خطوات عقابية ضد حكومة نتنياهو بسبب فظائع الحرب في غزة، في تحول غير مسبوق عن نهج برلين التقليدي الحذر، ولعل أولمرت كان محقًا حين قال إن نتنياهو "ليس له أن يلوم إلا نفسه" في خسارة تعاطف الأصدقاء.
وفي الولايات المتحدة أيضًا –الحليف الأبرز لإسرائيل– تتغير الأجواء وإن ببطء، فعلى مستوى الرأي العام، أظهرت استطلاعات حديثة انقساما غير مسبوق: أغلبية الأمريكيين الآن لا تؤيد حرب إسرائيل على غزة، ونسبة الدعم انخفضت إلى 32 % فقط من مجمل الجمهور الأمريكي، وبينما لا يزال التيار المحافظ الجمهوري مؤيدًا بقدر كبير، فإن الدعم بين الديمقراطيين يكاد يختفي، حيث تشير الأرقام إلى أن 8 % فقط من الديمقراطيين أيدوا أداء إسرائيل في الحرب.
كما تكشف الأرقام أنّ الأجيال الشابة في أمريكا باتت أكثر تعاطفًا مع الفلسطينيين؛ إذ أشار الاستطلاع نفسه إلى أن فقط 6 % من الأميركيين تحت سن 35 لديهم نظرة إيجابية نحو نتنياهو، بل إن أغلبية الأمريكيين إجمالًا أصبح لديهم رأي غير مواتٍ تجاه إسرائيل، وذلك وفق استطلاع مركز بيو في ربيع 2025م، وهذه الأرقام الصادمة تعكس تحولًا جذريًا في نظرة الجمهور الغربي لإسرائيل، بعدما كانت لعقود تتمتع بحصانة أخلاقية وسياسية. ورغم أنّ المؤسسات الرسمية الأمريكية ما تزال في معظمها تدافع عن إسرائيل وتعرقل أي إجراءات عقابية دولية، لكن الفجوة اتسعت بين الشارع وصناع القرار، وحتى بعض الأصوات المؤيدة تقليديًا لإسرائيل داخل واشنطن بدأت ترتفع بالنقد؛ فقد وصف برلمانيون تقدميون ما يجري في غزة بالإبادة، وانتقدوا "الصمت على جرائم الحرب"، ولم يعد مستغربًا أن يُطرح في الكونغرس –ولأول مرة– مشروع قرار لوقف المساعدات العسكرية لإسرائيل، وإن كان قد سقط بالأغلبية، فهو مؤشر على تبدل المزاج ولو جزئيًا.
والأمر لا يتوقف عند أوروبا وأمريكا؛ فعالميًا تضررت سمعة إسرائيل بصورة كبيرة، في الأمم المتحدة، حصدت القرارات الأخيرة التي تنتقد الاحتلال تأييدًا قياسيًا حتى من دول كانت تمتنع سابقًا، والعديد من دول العالم باتت تنظر لإسرائيل كدولة فصل عنصري بشكل علني، حتى داخل أروقة المنظمات اليهودية في الغرب، هناك حديث قلق عن "مستقبل إسرائيل" إذا واصلت هذا النهج الذي يعزلها عن العالم ويؤجج معاداة السامية من جديد
ارتدادات عكسية
لقد راهن نتنياهو طويلًا على سياسة فرض الأمر الواقع واعتقد أن الزمن كفيل بتطبيع الاحتلال في عيون العالم، لكن الوقائع تثبت عكس ذلك؛ فإمعانه في التطرف والقمع أنتج تراجعًا في الدعم الدولي له شخصيًا ولدولته، يقابله تنامٍ ملحوظ في الاعتراف بحقوق الفلسطينيين ودولتهم المنشودة، فخلال العام الأخير فقط، حققت القضية الفلسطينية مكاسب دبلوماسية لم تكن متصورة قبل سنوات: اعترافات أوروبية مرتقبة بدولة فلسطين، وتصويتات برلمانية رمزية تضغط بهذا الاتجاه في دول لطالما تبنت الرواية الإسرائيلية، حيث بدأ العالم يدرك أن لا سلام ولا استقرار دون إنصاف الفلسطينيين، خاصة بعدما اتضح تعنت الحكومة الإسرائيلية الحالية.
وللمفارقة، فإن نهج نتنياهو نفسه هو الذي حفّز هذا التحول، ليتجاوز عدد الدول التي تعترف رسميًا بدولة فلسطين 140 دولة، وفي المحافل الأممية، تمكنت المجموعة العربية بقيادة المملكة من تمرير قرارات مهمة لصالح الفلسطينيين، مثل قرار محكمة العدل الدولية بشأن قانونية الاحتلال، بفضل تأييد دولي أوسع من ذي قبل.
وكل ذلك ترافق مع انحسار شعبية نتنياهو داخليًا؛ فقد أظهرت استطلاعات إسرائيلية حديثة تدهور ثقة الجمهور بقيادته إثر الحرب الأخيرة وإخفاقاته السياسية، مما يشي بأن حتى الشارع الإسرائيلي قد بدأ يدرك كلفة سياساته على المدى الطويل، فبدلًا من تحقيق "إسرائيل عظمى" آمنة ومعترف بها، وجدنا إسرائيل معزولة ومحاصرة بالانتقادات ومهددة بفقدان مشروعيتها الأخلاقية عالميًا، وبدلًا من كسر إرادة الفلسطينيين، زاد التفاف العالم حول حق الفلسطينيين بدولة مستقلة حرة.
سلوك إسرائيل أثبت أنها دولة تنتهج الإبادة العرقية
نتنياهو يهرب من محاكمات الفساد بافتعال الأزمات
طلحة الأنصاري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.