ساحة ترافالغار في العاصمة البريطانية لندن مكتظّة. الأعلام الفلسطينية بالمئات. بالكاد تستطيع اختراق الحشود الهائلة. عددُهم عشرون، ثلاثون ألفاً؟ ليس من السهل التحديد. في الصفوف الخلفية كثير من الأشخاص الذين يبدو عليهم اليأس، كهذا المتسوِّل ذي النظرة التائهة، الذي لم يتوقف عن التصفيق وبجانبه سلّة من القش فيها بعض النقود. وتلك السيّدة العجوز التي لا تكفُّ عن النظر إلى زوجها من دون استيعاب حماسته المبالغة. في الصفوف الأمامية نوعٌ آخر من المتظاهرين. إنّهم الشباب البريطانيون تجمعوا بأعدادٍ تفوق التصوُّر. هنا تقفُ مجموعةٌ ممّن يطلق عليهم الشرقيون صفةَ "غريبي الأطوار". شبّانٌ يصل شعرُهم إلى ركابِهم. وفتياتٌ شعرُهنَّ "سبايكي" ووجوههنَّ مغطّاة بمختلف أنواع الأوشام وال"بيرسينغ". يحملون جميعاً صوراً لآرييل شارون على علب مساحيق التنظيف "آرييل"، كُتِبَ عليها "المطهِّر العرقي"، ويهتفون ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وغير بعيدٍ من هنا، مجموعةٌ أخرى. معظمُهم لا يزال يحمل الحقيبة المدرسية على ظهره. لكنَّ عدّةَ التظاهرة لم تكن غائبة. صورٌ بالمئات للرئيس الأميركي جورج بوش تدعو إلى مقاطعته لأنّه "شركة سيئة"، ويهتفون ضدّ السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. الأعلام الفلسطينية امتزجت في كلِّ مكان بأعلام مختلفة من رايات المجموعات اليسارية إلى رموز مثليي الجنس. بالقرب من المنبر، يمسك عشراتُ الشبانِ اليهود بأيدي شبّانٍ مسلمين، ويرفعونها معاً. على المنبر الخشب، تنوعّ الخطباء. أئمّة المساجد اللندنية، جمعيات مدنية تعنى بحقوق الإنسان الفلسطيني، يهودٌ بريطانيون وإسرائيليون. لكنَّ خطاباتِهم البسيطة كانت تطالب بأمر واحد وبسيط: إعطاء الإنسان الفلسطيني حقوقَه. ببساطة "إنكليزية". بهدوء "إنكليزي". الجميع يصغي. يبدو واضحاً أن هؤلاء الشباب ليسوا هنا لقتل الوقت. صمتُهم يقطّعه من حين إلى آخر، ضجيجُ التصفيق والهتافات المؤيدة لحقوق الإنسان. والشغف بتلك الحقوق واضحٌ في العيون. اللافت أنّه لم تكن هناك أي كاميرا عربية أو أجنبية تنقل ما يجري. في شارع "شارينغ كروس" المجاور، كاد الصف المنتظر أمام شبّاك التذاكر في سينما "الأوديون" يصل إلى الشارع المجاور. بطاقات العرض الأول من الوثائقBitter Waters أو "مياه مرّة" حول أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، نفذت بسرعة. مرّة ثانية، مئاتُ الشبّان والشابات البريطانيين مسمّرو العيون أمام حكايات فلسطينية. هي قصصٌ اعتاد عليها المشاهد العربي واستنزفتها فضائياتُه. قصصٌ تدور في مخيم "برج البراجنة" في ضاحية بيروت. فقرٌ وجوعٌ وفوضى وبطالة ويأس. الحوار الذي جرى بعد عرض الفيلم أدارته المخرجتان. إحداهما لبنانية سعودية تعيش في لندن. والثانية عراقية تعيش في نيويورك. أجوبتهما لم تكن على مستوى توقعات الشباب الحاضر. لكنَّ أسئلة هؤلاء وحدها تظهر أنَّ الشرق الأوسط ليس من آخر اهتماماتهم. "ماذا يقول هؤلاء اللاجئون الفلسطينيون عنّا؟ هل يكرهوننا؟ نحن أنانيون بالنسبة إليهم أليس كذلك؟ هل قالوا لكما كيف يتوقعون أن نساعدهم؟ هل شعرتما أنّ هناك طريقة لإخراجهم من يأسهم؟ هل يستطيعون التمييز بيننا وبين حكومتِنا؟"...لو سمع اللاجئون الفلسطينيون تلك الأسئلة، لوجدوا أنّ هذا التمييز الذي يطالب به الشباب البريطاني أقلَّ صعوبة بكثير. مع حلول الساعة الثامنة في العاصمة البريطانية صالةٌ أخرى امتلأت مقاعدُها بالشباب البريطاني في شارع "توتنهام كورتس رود". هنا تعقد مجلّة "بروسبكت" ندوةً حول السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بعد الحرب على العراق. على المنصّة أربعةُ مشاركين. الصحافي الأميركي مايكل ليند تحدث عمّا وصفه ب"الإمبريالية الأميركية الجديدة". وذكّر بأنَّ الحرب الوقائية كانت تعتبر جريمة حرب خلال محاكمات نورمبرغ. التصفيق حارٌّ. الوزير البريطاني السابق روبرت هارفي أكَّد أنَّ التشدد الإسلامي يتصاعد ضدّ الولاياتالمتحدة. الحربُ على العراق هي بداية مواجهة ثانية، الأولى اندلعت مع اعتداءات الحادي عشر من ايلول سبتمبر الإرهابية. على أميركا أن تربح قلوب شعوب الشرق الأوسط إن أرادت وقفها. التصفيق علا. شيرلي ويليامز، زعيمة الليبراليين الديمقراطيين في مجلس اللوردات، رأت أن الحادي عشر من ايلول كان حجّةً استغلّها المحافظون الجدد في الإدارة الأميركية ليشرعوا في تطبيق برنامجهم المعدّ منذ سنوات طويلة. تأييدُ الحضور لكلامها كان ظاهراً. لكنَّ الشبّان والشابات الحاضرين كانوا ينتظرون المتحدِّثَ الرابع. إنّه فيليب بوبيت، الكاتب والمستشار السابق في البيت الأبيض. مفهوم الحرب الوقائية الأميركية مبرر لأنه اصطحب دخول مفاهيم جديدة على الساحة الدولية. أهمها خطر تنظيم "القاعدة" على الولاياتالمتحدة، وخطر أسلحة الدمار الشامل. انتفض شابٌ في القاعة: "ألا يعكس ما تقوله، سيد بوبيت، الميلَ الأميركي التاريخي إلى تضخيم الأمور وحاجتهم الدائمة إلى وجود عدو ما يعطيهم سبباً للعيش؟ وها قد وجدوه، بعد انهيار الشيطان الأكبر الشيوعي، في العالم الإسلامي؟". وأضافت شابةٌ عشرينية قائلةً: "سيّد بوبيت إذا كان الإسلاميون يشكلون خطراً علينا فلأننا عاملنا العالم العربي بطريقة وحشية والسياسة الأميركية في الشرق الأوسط تمليها إسرائيل. ألاّ تعتقد ذلك؟"... وتوالت ردود الفعل "الموثّقة". اسمُ نعوم تشومسكي وعبارة القانون الدولي تردداً على الألسنة. والانفعال كان الغائب الأكبر... تظاهرة مؤيدة للفلسطينيين، وثائقي عن حياة المخيمات الفلسطينية، ندوة عن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط... يومٌ واحد، بعد ظهر واحد... يخرج المرء منه مدركاً إلى أي مدى يسيطر الشرق الأوسط على اهتمامات الشباب البريطاني...