كتاب صغير واسطوانة مدمجة بعشرين صورة، هذا كل ما يتبقى من معرض الرسام البحريني عباس يوسف الذي أقامه أخيراً في المنامة احتفاء بصديقه الكاتب البحريني هو الآخر أمين صالح. ولا يبدو الحدث استثناء في حياة وثقافة تغلب عليهما الحميمية والعمق والاشتباك كالحياة والثقافة في البحرين. فالحوار بين مبدعي ذلك البلد وان اتخذ بعض الأحيان طابعاً صدامياً غير انه في الكثير من مستوياته انما يعبر عن حيوية وصدق ومحاولة للفهم والتجاوز. غير ان هذا المعرض يجسد على مستوى تجربة الرسام الذي أعرفه حق المعرفة حدثاً استثنائياً، بل وتحولاً خطيراً لطالما كان محور نقاشات صاخبة. فعباس يوسف 1960 الذي درس التاريخ واقتحم عالم الرسم من جهة كونه خطاطاً، ليصبح في ما بعد واحداً من أهم الحفارين رسامي الكرافيك في البحرين، كان يخبئ رسومه المنفذة على الورق بتقنيات المواد المختلفة بعيداً من أعين الآخرين. وكان لا يفتح أبواب كنز أسراره الدفين إلا بتأثير من مزاج خاص. علاقته بتلك الرسوم كانت أشبه باللغز الذي لا يمكن فك طلاسمه. ولو عدنا الى السياق التاريخي لتجربة هذا الرسام لاكتشفنا ان تلك الرسوم كانت تمثل نوعاً من الانفصال، من القطيعة. فمن خلالها يفارق ذاته التي عرف بها، ويفارق على المستوى النفسي رجلاً طالما أحبه وتعلق به، هو صديقه الرسام عبدالجبار الغضبان، معلم فن الحفر الطباعي في البحرين وراعي جمراته الناشئة. ولأن يوسف يشعر بأنه مدين للغضبان بجذوة ناره الأولى التي أيقظت في روحه الإحساس بكونه فناناً، فقد كان يشعر بنوع من الاستياء وهو يرى خيال يديه وهو يجره الى لحظة فراق عاصف. حيث يقف الكرافيك وعبدالجبار الغضبان على الضفة المقابلة، فيما لا يقوى عباس يوسف على رفع يده مودعاً، وفي بلد ساخن كالبحرين، يختلط الاجتماعي فيه بالثقافي، يمكننا تخيل علاقات يخترقها خيط رفيع، غير مرئي لا يمكن تجاوزه إلا في حالتي الجنون أو العصيان. وكما أقدّر فإن عباس يوسف قد اتخذ من أمين صالح الكاتب الذي لطالما كان معجباً به ذريعة للعصيان. عباس يوسف، اليوم، في معرضه "البحر إذ يسهو" هو الآخر. غير الذي عرفه الآخرون، ذاتاً ورسوماً. لقد فارق صنعته، وهو ما أراد قوله الشاعر البحريني قاسم حداد في المقدمة التي خص بها الكتاب. لقد نظف يديه من الأخبار ليغمس أصابعه في أبخرة يطلقها مزيج من المواد، بعضها جاهز انتزع من سباته اليومي والآخر ركّبه الرسام لكي يكون بالنسبة اليه بمثابة المطهر الذي يؤدي به الى عالم مختلف. في روسم عباس يوسف، لا نقرأ نصوصاً، كما لو أن الرسام قد ضللنا باسم أمين صالح. الكاتب المولع بالكلمات، وبالصور أيضاً. وقد تكون صفته، كونه خالق صور هي أساس ولع الرسام بكتاباته وبه. غير ان عباس يوسف لم يكن بمعنى من المعاني، يوماً ما، رسام صور. على العكس من ذلك تماماً. كانت رسومه هي التعبير الأمثل عن فكرة خيانة الصورة. كان الرسام بالنسبة اليه محاولة لتزكية الشكل وفي المقابل فقد كان أمين صالح معنياً بالمعاني على رغم أنه كان الأكثر اكتراثاً بالشكل كما يصفه قاسم حداد. صحيح ان لغته الصافية كانت مثار تأويل دائم غير أنها لم تكن لتجرؤ على القيام بحفرياتها خارج حدود المعنى. كانت كتابات أمين صالح صارمة مثل حكمة، وكان عباس يوسف في ما مضى يرسم كمن يتذكر طقساً. لا ليكرره، بل ليظهر افتتانه به. أمين صالح، كونه، ناثراً استثنائياً، لا بد من أن تكون كتاباته محط اهتمام الرسامين، لما تجلبه معها من صور. غير ان ذلك كله لا يعني عباس يوسف في شيء. فهو لم يكن في يوم من أيامه صانع صور. انه رسام تجريدي، يرى في التجربة الحروفية مأواه ولا يتلفت يميناً أو يساراً، وهو واحد من آخر الحروفيين في الوطن العربي، حيث صارت الحروفية بمثابة ماضٍ، وصار تجار الفن، اليوم، ينبشون في رمادها بحثاً عن جمرة متقدة، وما من جدوى. عباس يوسف لا يقيم علاقات أفقية مع النص الأدبي، كما كان يفعل رسام أجاد هذه التجربة مثل ضياء العزاوي، بل يمخر عباب النص عمودياً، حيث لا شيء يذكر به، لا شيء يعود اليه، فاللوحة كيان خالص، اما أن تكون أو لا تكون، بصرياً بمعزل عما يتشظى في أعماقها من تجليات أدبية. الرسام هنا لا ينكر النص وحسب، بل وينكر أيضاً غاياته التعبيرية، وكما أرى فإن الرسام يهبنا فرصة للتفكير بعلاقة صافية، غير أنها مختلفة عما ألفنا، بين الرسم والأدب. ان عمل الرسام هنا هو أشبه بعمل المنقب الأثاري. النص بالنسبة اليه هو سطح الأرض الذي يتسلل من خلاله الى الأعماق، باحثاً عما يراه منسجماً مع التعبير عن شقائه الشخصي. عباس يوسف هذه المرة هو رسام آخر، يبدأ حكايته مع الرسم بقوة خلاصات تجربة، لا من أجل أن يتمها، بل من أجل أن يمحوها. لوحته هذه المرة لا تتوجه الى نص تعبيري مبهم لتغشاه بجمالياتها. بل تعدم النص على عتبة توددها الشعري الى فكرة الجمال. هذه الفكرة التي تظل محض افتراض. وهي كذلك دائماً خارج قيود الدرس الأكاديمي، حيث تهبها المغامرة هواء نقياً يقف بيننا وبين التعرف عليها بيسر، غير أنني لا أزعم هنا: ان من يرى رسوم عباس يوسف الجديدة لا يتعرف على رسامها. فالرسام الذي انتصر على عاداته أبقى على خيط رفيع يقود الى عالمه القديم. ذلك العالم الذي يضم بين جوانبه مئات اللوحات التي دار بها الرسام بين مختلف العواصم العربية والعالمية، من خلال الخيط يلتفت عباس يوسف الى عالمه القديم كمن يودع "حياة"، ملَّت قدماه من التسكع في دروبها. يلتفت الى الوراء، لكن بغرور الفاتح الذي يرى ان هنالك في الأقاصي ما يستدعيه الى المضي قدماً. لقد انصاع هذا الرسام أخيراً لنداء حريته الداخلية، رساماً يفرض أسلوبه بقوة أدائه المتغير، ولا يستعذب عبودية الأسلوب الذي كرسه سلفاً. ولا ننسى هنا أن نذكر أن فوز الرسام بذهبية بينالي طهران الأخير كان المحطة الأخيرة، أو هكذا يبدو لي، لرحلته بين الحظ والأحبار. هل يقتفي الحروفيون العرب أثار أقدام شيخهم، الرسام العراقي شاكر حسن آل سعيد؟ لطالما أحاطني هذا السؤال بتهكمه المريب، وأنا أراقب التحولات التي تشهدها رسوم الرسامين العرب الذين صاروا ينبذون الحرف خارج لوحاتهم لتنتقل لذائذهم الجمالية الى الجدران أو يطلّون من خلال ثغرة في جدار على العالم كما يفعل آل سعيد نفسه، وهو الذي أراد في مرحلة متأخرة أن يشق الجدار عن كل جهاته، حين رسم لوحاته المزدوجة، والتي ترى من الجهتين، يمكننا القول: ان تجربة الحروفية العربية استلهام الحرف العربي جمالياً والتي كانت بداية السبعينات تبشر بولادة فن عربي الهوية، قد اصطدمت بجدار حين استنفدت مادتها، الحرف كونه بديلاً عن الشخصية، وأيضاً كونه أثراً يقولها، وكان آل سعيد شجاعاً في وصف ما انتهى اليه، كان جريئاً في مرحلة من مراحل الاعتراف. غير ان جرأته الحقيقية تكمن في مضيه الواثق في اختراق هذا المصير بمادته، لقد اتخذ من الجدار مسرحاً شاسعاً لاستعراض موقفه من العالم الخارجي. ومن الرسم أيضاً. لا أحد اليوم يتذكر حروفياته، إلا كونها جزءاً من هذا العالم الذي يظل حيوياً بقدرته على الاقناع بأنه لا يزال قيد التشكل. عباس يوسف لم يخطئ المصير عينه، كونه آخر حروفي يستسلم، ففي هذا المعرض تبدو بلاغة الجدار ماثلة أمام أعيننا وهناك كل التقنيات التي أضاءها آل سعيد بسراجه، وهي تقنيات تفرضها إرادة المواد المختلفة وهي تصنع تجلياتها من خلال تلاقياتها المرحة، ومن المؤكد أن هذا الرسام وقد انتهى الى هذا المزيج من المواد سوف لن تقنعه صيغة واحدة من الصيغ المتعددة التي تطرح فكرة الأسلوب المكرس جانباً. إذ فعل الرسم لذاته في ظل هذا التبدل اللحظوي لحالات الجمال انما يمتلك نوعاً من السحر والحظوة سيقف حائلاً بين الرسام وبين تفكيره في العودة الى بيته الليّن القديم. أنقذ أمين صالح صديقه الرسام عباس يوسف من عبثية سؤال من نوع: وماذا بعد؟ حين صار ذريعة لخروج الرسام من خرافة وهمه الحروفي - لكي يتعرف وهو يستقرئ صفاء اللغة على لمعان وخيال وعبقرية لمواد لطالما لامسها من غير أن يكترث بها.