كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الاسبوع الماضي عن خطة إعلامية اميركية وضعتها وزارة الدفاع بهدف التأثير على الرأي العام وخلق حقائق جديدة قد تكون مُضلِّلة وكاذبة ومُلفّقة. ومع ان التعاطي في شؤون الدعاية ونشر الاشاعات كان محصوراً بوزارة الخارجية والاستخبارات المركزية، الا ان ضعف ادائهما اثناء حرب افغانستان أعطى "البنتاغون" دوراً اضافياً لتجميل صورة الحملة الاميركية. وفي رأي وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ان وسائل الاعلام العربي - من قنوات وصحف واذاعات - ربحت معركة الصور والافكار، في حين فشل الاعلام الاميركي مواكبة النصر العسكري. وعليه قرر مع رئاسة الاركان، إنشاء وحدة خاصة تحمل اسم "مكتب التأثير الاستراتيجي" تنحصر مهمتها في نشر أخبار ومعلومات من خلال "مجموعة ريندون". وتمثّل هذه المجموعة شركة علاقات عامة سبق وقدّمت خدمات استشارية لل"سي اي ايه" ولدولة الكويت اثناء فترة الغزو، وللمؤتمر الوطني العراقي المعارض. تقول مصادر "البنتاغون" ان استخدام طرف ثالث في حملة الاعلام المُسيّس سيبعد تهمة التوجيه الهادف عن الادارة الاميركية، ويعطي مكتب "ريندون" هامشاً واسعاً للتشويه والتمويه. وفي هذا السياق ذكرت "نيويورك تايمز" وجود خلاف في الرأي بين الاجهزة المختصة على اعتبار ان هذا الاسلوب قد يفقد تأثيره الايجابي في حال اكتشف العرب والمسلمون الدعاية الشريرة التي غطّت بها وسائل الاعلام الاميركية الوقائع الصحيحة. عندئذ يصبح هذا الاسلوب عاجزاً عن إحداث نقلة نوعية على مستوى التوقعات الاميركية. خصوصاً وان طريقة التحكّم بتقديم الاخبار ستخضع لإرادة عسكري هو الجنرال سايمون واردن الذي سيتولى الاشراف على تنظيم حملات التضليل المُسمّاة "معلومات مشوّهة سوداء". المثقفون في اوروبا انتقدوا بشدة النهج السياسي الاميركي الجديد لأنه في نظرهم، يحارب الارهاب بشن ارهاب مضاد سيؤدي الى تغيير جذري في طبيعة النظام الديموقراطي. وكتبوا سلسلة مقالات في صحف مختلفة بيّنوا فيها مساوئ التحوّل من مجتمع يحكمه السياسيون الى مجتمع يحكمه العسكريون. وأبرزوا في هذا السياق تجاوزات المحاكم العسكرية في قاعدة "غوانتانامو"، وما يمكن ان تُحدثه الحملات الاعلامية المُضلّلة من تأثير سلبي على الرأي العام العربي والاسلامي. خصوصاً وان نهج الدعاية منقول عن الاعلام النازي الذي أسسه "وزير الدعاية والتنوير الشعبي" جوزيف غوبلز. والطريف ان الوزير رامسفيلد استخدم وصفاً مشابهاً لوصف الوزير غوبلز للتدليل على وظيفة "مكتب التأثير الشعبي". والمعروف ان غوبلز دشّن مهمته في آذار مارس 1939 بخطاب طويل أعلن خلاله القواعد الاساسية لخدمة النظام عبر الاعلام الموجّه. وقال في وصف مروّج الدعاية "انه انسان عظيم الأهمية لكونه يتمتع بقدرة فائقة على سبر أغوار الروح الانسانية". ثم أدخل في نظام التشويش الفكري عبارته الشهيرة: "اكذب… ثم اكذب… ثم اكذب، فلا بد ان يصدّق الناس كذبة واحدة". ويرى المؤرخون ان الحرب الاعلامية، التي شنّها غوبلز كانت أفعل وأقوى من الحرب العسكرية التي شنّها هتلر، بدليل انها تحولت الى نهج متّبع في غالبية الانظمة الديكتاتورية. ولقد تحدث عنها بإسهاب الكاتب روبرت هيرتزشتاين في دراسة ضخمة عنوانها: "الدعاية النازية... او الحرب التي ربحها هتلر". يُستفاد من مراجعة الوثائق المتعلقة بتاريخ الدعاية الموجهة ان الكنيسة الكاثوليكية هي التي أسست هذا النهج الاعلامي خلال القرن السادس عشر، اي اثناء عصر الاصلاح الديني. وبما ان البابا غريغوريس الثالث كان يؤمن بمهمة التبشير، فقد كلّف مجموعة كرادلة بتنفيذ هذه المهمة في سائر أقطار العالم. ثم خلفه البابا غريغوري الخامس عشر 1622 الذي أنشأ لجنة خاصة تشرف على شؤون الإرساليات الخارجية. واستُخدمت كلمة PROPAGANDA للمرة الاولى في معرض الترويج لنشر عقيدة او مبدأ، ولكنها تعرّضت للتأويل والتعديل بحيث أصبحت مرادفة للتضليل والخداع والكذب وغسل الأدمغة. وكان الاصلاحي الانكليزي توماس كرومويل يفاخر بحرصه على كسب معركته الاعلامية اكثر من حرصه على تحقيق نصر عسكري. ومن المؤكد ان حرب الاستقلال في اميركا والثورة الفرنسية، أبرزتا اهمية دور الدعاية وتأثيرها القوي في تحريك الجماهير واقناعها بوجهة نظر ما. الحرب العالمية الاولى 1914 - 1918 شكّلت المسرح السياسي للمعارك الاعلامية الشرسة في موازاة المعارك العسكرية. واكتشف الفريقان المتنازعان انه من الصعب تجاهل الرأي العام كعنصر مؤثر على صانعي سياسة الدولة. وفي ضوء هذا الواقع أنشأت بريطانيا وزارة الاعلام سنة 1917 تحت إشراف القطب الصحافي لورد بيفربروك. كما أسست في الوقت ذاته دائرة خاصة سُمّيت "دائرة الدعاية ضد العدو" بإشراف اللورد نورثكليف. واقتصرت مهمته في حينه على اخضاع الصحف للرقابة الرسمية واستنباط حملات سياسية بواسطة الصحف والافلام والمُلصقات والمنشورات بهدف احداث تحولات كبرى في تفكير الرأي العام. ويبدو ان التدخل المباشر في الحياة السياسية البريطانية خلق تيارات معارضة عقب اكتشاف المواطنين ان الشعارات الوطنية لم تكن اكثر من دعاية مُركّزة لغسل الأدمغة. كتب أدولف هتلر في مؤلفه "كفاحي" ماين كومف يقول ان غاية الدعاية لفت انتباه الجماهير الى بعض الحقائق ومن ثم توظيفها في الحملة العقائدية المرسومة. ويبدو ان الرئيس جورج بوش اتّبع هذه النصيحة في نطاق الحرب الاعلامية التي يشرف على تنفيذها الوزير رامسفيلد. لذلك ارسل أحد أقرب مساعديه كارل روف الى هوليوود حيث اجتمع في فندق "بننسولا" في بيفرلي هيلز، بأربعين مخرجاً ومصوّراً. وأبلغهم رغبة الرئيس في ضرورة انتاج فيلم يروي بطولة الجندي الاميركي في افغانستان وكل مكان. وقال لهم ان الاعلام العربي والاسلامي نجح في امتصاص الوهج الحربي، وانه من المفيد رسم المقاتل الاميركي بصورة المُحرِّر من آفة الارهاب. وقدّم لهم مثلاً على ذلك فيلم "سقوط الصقر الاسود" الذي يتحدث عن مهمة الاميركيين في الصومال، وهو فيلم مثير للجدل صُوّر في المغرب، وركّز مخرجه على إغضاب المشاهد الاميركي وتحريضه على الانتقام من شعب الصومال ومن الاممالمتحدة التي قيّدت تحركات جنوده. واقترح روف على المخرجين ان يكون عنوان الفيلم الجديد: "الله يبارك اميركا". وواضح من العنوان ان غاية الرئيس بوش من وراء انتاج فيلم حربي على نمط افلام "جون واين" إظهار الحروب الاميركية - لا فرق أكانت في الصومال أم في افغانستان أم في العراق أم في ايران - انها حاصلة على بركة الله. اي انها حرب مقدّسة! منذ اقل من شهرين تقريباً زار هنري كيسنجر الحامية البريطانية في "هيرفورد" حيث استقبلته قيادة الوحدة الخاصة "اس. ايه. اس"، وكان بين الحضور ضبّاط ممن قاتلوا في جبال تورا بورا، الامر الذي أضفى على اللقاء طابع الحوار التصادمي بسبب اعتراض البريطانيين على تصرفات رجال "قوات دلتا" الاميركية. وفوجئ الوزير الاميركي السابق بموجة انتقاد استهدفت "قوات دلتا" لأنها عطّلت عملية اعتقال اسامة بن لادن او مقتله. وتحدّث ضابط بريطاني عن الحصار الذي ضربه رجال الوحدة الخاصة حول واد سحيق وذلك بقصد قطع الطريق على الملا عمر وبن لادن. واكد ان أحد المُخبرين قام بدور الدليل في حين تولى الجنود البريطانيون مهمة المطاردة. وبما ان قوات التحالف تخضع في افغانستان لأوامر "قوات دلتا" ، فقد كان من المنطقي ابلاغها بالتحرك. واعرب الضابط البريطاني - وهو يروي تفاصيل العملية - عن استهجانه للتصرف الاميركي، وكيف صدرت الاوامر بالتراجع، وكان من نتيجة التخاذل ان فرّ اسامة بن لادن واختفى. وأنهى الضابط كلامه بتوجيه سؤال الى كيسنجر، وهو يعقب على فشل العملية بالقول ان الاميركيين فضّلوا ان يهرب بن لادن على ان يُعتقل او يُقتل بواسطة جنود دولة اخرى، حتى لو كانت دولة حليفة بامتياز!! وحاول هنري كيسنجر الدفاع عن الموقف الاميركي بالقول ان انخراط "قوات دلتا" في معركة غير محسوبة قد يوقع عدد كبير من الضحايا وهذا ما تحاول القيادة الاميركية ان تتحاشاه نظراً لتجارب دموية سابقة في فيتنام. واخبر الحضور انه كان يتلقى كل مساء - اثناء عمله مديراً للامن القومي، برقية من فيتنام تتحدث عن سقوط اربعمئة جندي. وطالب البريطانيين باستبعاد فكرة التخاذل او التآمر لأن الولاياتالمتحدة، في رأيه، لم تبرأ من مرض فيتنام بعد. ولكن هذه الواقعة المحيّرة طرحت امام القيادة البريطانية اسئلة مقلقة تتعلق بحقيقة الموقف الرسمي الاميركي، وما اذا كانت مسرحية صدام حسين يُعاد عرضها في افغانستان، والدليل ان اسامة بن لادن نجا مرتين من الموت لأن القيادة الاميركية سمحت له بالهرب. وكانت المرّة الاولى في بداية الحرب، بينما حصلت المرّة الثانية في نهايتها. ومثل هذا القصور المُكرّر جدّد السؤال القديم حول الهدف من بقاء نظام صدام حسين وارتباط وجوده وتهديده المتواصل بوجود القوات الأميركية في الخليج. وهذا ما دفع القيادات الاوروبية الى الاعتقاد بأن مواصلة البحث عن اسامة بن لادن وافراد "القاعدة" سيظل المبرّر المثالي لانتشار قوات الولاياتالمتحدة حول حقول النفط في اذربيجان وكازاخستان وبحر قزوين. ومع ان مهمة الحملة الاميركية لا تُعتبر منتهية الا اذا ألقت القبض على الرأس المدبّر للتآمر ضدها، اي اسامة بن لادن… ولكن تحويل الانتباه الى دول محور الشر سيقفل صفحة بن لادن ويفتح صفحة الرئيس صدام حسين. ويبدو ان النزاع الاصلي في افغانستان لن يترك الفرصة متاحة امام انتاج فيلم اعلامي شبيه بفيلم "رامبو" بسبب اعتراض القوى التي ساهمت في تحقيق نصر احتكره الاميركيون. ويتوقع المراقبون ان تشترك روسياوايران وتحالف الشمال في نصب كمين ل"قوات دلتا" يكون اخطر من الكمين الذي نُصب لها في الصومال! الاربعاء الماضي أعلن رامسفيلد انه سيغلق مكتب الاعلام المُخصّص للكذب والتضليل. ولكن الرأي العام العربي لم يصدّق كذبة الكذوب! * كاتب صحافي لبناني.