الجدعان: الاقتصاد العالمي يتجه لهبوط سلِس    توليد الفيديوهات من الصور الثابتة ب"AI"    "كاوست" تتنبأ بزيادة هطول الأمطار بنسبة 33%    شتروف يفوز على الياسيم ويصعد لقبل نهائي بطولة ميونخ للتنس    إحالة 52 ألف مخالف لبعثاتهم الدبلوماسية لترحيلهم    تصاميم ل"العُلا" تعرض في ميلانو    السودان: أطباء ينجحون في توليد إمرأة واستخراج رصاصة من رأسها    برشلونة في مفاوضات مع أولمو لضمه من لايبزج    «حماس» تبحث مغادرة الدوحة.. هل انهارت مفاوضات «هدنة غزة»؟    وظائف للخريجين والخريجات بأمانة المدينة    فيتنام: رفع إنتاج الفحم لمواجهة زيادة الطلب على الطاقة    للمرة الثانية على التوالي النقد الدولي يرفع توقعاته لآفاق الاقتصاد السعودي ليصبح الثاني عالمياً لعام 2025    الصحة العالمية توافق على لقاح ضد الكوليرا لمواجهة النقص العالمي    طقس اليوم: فرصة لهطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة    الحزم يتعاقد مع المدرب صالح المحمدي    حمدالله: تجاوزت موقف المُشجع.. وصفقات الهلال الأفضل    إعفاء "الأهليات" من الحدّ الأدنى للحافلات    إخلاء طبي لمواطنة من كوسوفا    بن دليم الرحيل المُر    بوابة الدرعية تستقبل يوم التراث بفعاليات متنوعة    نجران.. المحطة العاشرة لجولة أطباق المملكة    البنك الدولي: المملكة مركزاً لنشر الإصلاحات الاقتصادية    ماني: إهدار ركلة الجزاء لم يزعجني.. وهذا سر الفوز    "الأمر بالمعروف" في أبها تواصل نشر مضامين حملة "اعتناء"    محافظ جدة يواسي آل السعدي في فقيدتهم    الخريجي يلتقي نائب وزير الخارجية الكولومبي    أسرتا باهبري وباحمدين تتلقيان التعازي في فقيدتهما    رئيس "الغذاء والدواء" يلتقي شركات الأغذية السنغافورية    الوحدة يحسم لقب الدوري السعودي للدرجة الأولى للناشئين    حرس الحدود ينقذ مواطنًا خليجيًا فُقد في صحراء الربع الخالي    الرياض: الجهات الأمنية تباشر واقعة اعتداء شخصين على آخر داخل مركبته    تجمع مكة المكرمة الصحي يحقق انجاز سعودي عالمي في معرض جنيف الدولي للاختراعات 2024    سلام أحادي    اختيار هيئة المحلفين في المحاكمة التاريخية لترامب    أرمينيا تتنازل عن أراضٍ حدودية في صفقة كبيرة مع أذربيجان    حائل.. المنطقة السعودية الأولى في تطعيمات الإنفلونزا الموسمية    نوادر الطيور    المرور بالشمالية يضبط قائد مركبة ظهر في محتوى مرئي يرتكب مخالفة التفحيط    التعريف بإكسبو الرياض ومنصات التعليم الإلكتروني السعودية في معرض تونس للكتاب    وفاة الممثل المصري صلاح السعدني    مدرب الفيحاء: ساديو ماني سر فوز النصر    أمير عسير يتفقد مراكز وقرى شمال أبها ويلتقي بأهالي قرية آل الشاعر ببلحمّر    ضيوف الرحمن يخدمهم كل الوطن    وزارة الخارجية تعرب عن أسف المملكة لفشل مجلس الأمن الدولي    بطاقة معايدة أدبية    اكتشاف خندق وسور بجدة يعود تاريخهما إلى القرن 12 و13 الهجري    إخلاص العبادة لله تشرح الصدور    أفضل أدوية القلوب القاسية كثرة ذكر الله    مساعد وزير الدفاع يزور باكستان ويلتقي عددًا من المسؤولين    وزير الثقافة يزور الجناح السعودي في بينالي البندقية للفنون ويلتقي نظيره الإيطالي    السديري يفتتح الجناح السعودي المشارك في معرض جنيف الدولي للاختراعات 49    توقعات الأمطار تمتد إلى 6 مناطق    تخلَّص من الاكتئاب والنسيان بالروائح الجميلة    غاز الضحك !    أمير الباحة: القيادة حريصة على تنفيذ مشروعات ترفع مستوى الخدمات    محافظ جدة يشيد بالخطط الأمنية    أمير منطقة الرياض يرعى الحفل الختامي لمبادرة "أخذ الفتوى من مصادرها المعتمدة"    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على محمد بن معمر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحليل المافيا الإيطالية كظاهرة أو ... تاريخ تاريخها
نشر في الحياة يوم 12 - 08 - 2001


Salvatore Lupo.
Histoire de la Mafia.
تاريخ المافيا.
Flammarion, Paris.
2001.
400 pages.
للمافيا تاريخ وتاريخ تاريخ.
تاريخ المافيا مليء بالتفاصيل اللامتناهية عن الأشخاص والوقائع، لكنه على صخبه كتيم وغير ناطق.
في المقابل فإن تاريخ تاريخ المافيا غني بالدلالات وبخصوبة التفاسير المتناقضة والمتكاملة في آن.
ماذا نقصد بتاريخ التاريخ؟
انه التاريخ الذي يتخذ موضوعاً له لا المافيا بما هي كذلك، بل الدراسات التاريخية التي كتبت عن الظاهرة المافيوزية منذ تبلورها الأول في نحو العام 1860 الى اليوم الحاضر.
فتاريخ التاريخ هو نوع من تاريخ مقارن يسلط الضوء على الدلالة الايديولوجية والابستمولوجية معاً للقراءات التفسيرية - المختلفة الى حد التناقض - للظاهرة المفايوزية من حيث هي ظاهرة تاريخية أصلاً.
لقد فرض مصطلح "المافيا" نفسه على الحقل التداولي للغة في ايطاليا منذ أن عممت استعماله من المستوى المحلي باليرمو في صقلية الى المستوى القومي فرقة مسرحية جوالة مثلت في العام 1863 رواية كتبها باللهجة الصقلية مدير الفرقة المذكورة - ويدعى جوزيبي ريزوتو - وكان عنوانها "مافيوزي الحبس". فهذه المسرحية الهزلية التي عرفت نجاحاً شعبياً كاسحاً ومثلت أكثر من ألفي مرة بين عامي 1863 و1866 كانت تصور حياة المساجين في سجن باليرمو وتركز على انقسامهم الى طبقتين تستغل واحدتهما الأخرى على نحو يشبه الى حد بعيد العلاقة بين "الفتوات" و"الحرافيش" في الحكايات الشعبية المصرية.
فالمافيوزيون كانوا يفرضون قانونهم الخاص على سائر المساجين ويثقلون كاهلهم بالاتاوات وبأعمال السخرة، مستغلين في ذلك علاقة التواطؤ التي كانت تربط بين "جمعيتهم السرية" وبين بعض حراس السجن. ولم يكن بين هاتين الفئتين من المساجين أي فارق في الأصل الاجتماعي أو في القوة العضلية أو العقلية، بل كان المافيوزيون يستمدون كل سلطتهم من كونهم يرتبطون بتنظيم خاص.
وهذا "الانتماء الى تنظيم سري" سيكون العلامة الفارقة ومصدر القوة والامتياز لكل من سينتمي لاحقاً الى "الجمعية المحترمة" العاملة دوماً، سواء في السجن أو خارجه، عند التخوم الفاصلة ما بين الشرعية واللاشرعية.
ولئن تكن مسرحية "مافيوزي الحبس" هي التي أشاعت تعبير "المافيا"، فإن الخلاف سرعان ما نشب بين المؤرخين حول الأصل الاشتقاقي لهذه الكلمة الصقلية التي ما كانت تستعمل من قبل إلا في باليرمو وضواحيها.
وكان هذا الخلاف حول الأصل الاشتقاقي يعكس بذاته نوعاً من صراع ايديولوجي يرتبط باشكالات الهوية القومية لايطاليا في حقبة بناء الوحدة الايطالية في الستينات والسبعينات من القرن التاسع عشر. فقد ذهب أكثر من مؤرخ، لا سيما من الشمال الايطالي الأكثر ارتباطاً بالحداثة الأوروبية من الجنوب، الى أن أصل تلك الكلمة "الرجيمة" عربي، والى انه يمثل رسالة من الموروث السامي في الجسم الايطالي، وهو الموروث الذي "يفسر" العقلية الخاصة والتخلف المزمن للجنوب الايطالي من جراء الاحتلال الفينيقي لصقلية في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، والاحتلال العربي في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر بعد الميلاد.
وهذه النزعة العرقية في تفسير الظاهرة المافيوزية وجدت اكثر أنصارها حماسة في شخص سيزار لومبروزو، مؤسس "مدرسة الانتروبولوجيا الاجرامية" في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. فقد اصدر هذا الطبيب وعالم الاجرام الايطالي المشهور في عام 1876 كتاباً أصاب شهرة عالمية تحت عنوان "الانسان المجرم"، وفيه درس البنية التشريحية لاقحاف 689 مجرماً، وانتهى الى نتيجة تفسر النشاط الاجرامي بالفطرة الولادية والحتمية الوراثية العرقية والمناخية على حد سواء.
وفي ما يتعلق بالمافيا تحديداً خلص لومبروزو الى القول بالحرف الواحد: "ان المافيا هي طبعة صقلية من الجمعيات السرية القديمة، ولعلها أقوى ما تكون ارتباطاً بالطبع الباطني المميز للعرق السامي".
وبدوره ميز الفريدو نيقوفورو في كتابه الصادر عام 1898 تحت عنوان "ايطاليا البربرية والمعاصرة" بين نوعين من الاجرام: الاجرام الذكي والحديث والمتمدين الذي يعتمد على الحيلة، سمة المجتمعات الشمالية، والاجرام العنيف، الغريزي والفظ والبدائي، سمة الصقليين والساردينيين وسائر سكان الجنوب الايطالي. وطبقاً لتحليله فإن النسبة العالية للاجرام في جزيرتي صقلية وساردينيا تجد تفسيرها في الطابع العرقي والجغرافي المغلق لهاتين الجزيرتين وفي موروث سكانهما من "الخلايا العصبية ذات النزوع الفطري الى الفعل الدموي".
وضداً على دعاوى مدرسة الانتروبولوجيا الاجرامية هذه تصدى نابوليون كولاجاني، وهو صقلي جمهوري ويساري التوجه، لقراءة ظاهرة المافيا من منظور الاضطهاد الاجتماعي وسوء الادارة الحكومية، لا من منظور الحتمية البيولوجية أو الجغرافية. ففي كتاب اصدره عام 1900 تحت عنوان "في مملكة المافيا" لاحظ ان المافيا في صقلية لا تختلف في بنيتها الاجرامية عن ظاهرة القرصنة أو قطع الطرق في اقاليم أخرى من ايطاليا مثل البييدمونت أولومبارديا أو دول البابوية. والى مثل هذا الرأي ذهب أيضاً غايتانو موسكا، في كتاب أصدره عام 1901 تحت عنوان "ما المافيا؟"، مؤكداً ان "روح المافيا" ليست سمة خاصة بجزيرة صقلية، بل هي منتشرة أيضاً، وان في شكل أقل كثافة، في ايطاليا الوسطى والشمالية.
والقاسم المشترك بين هذين الباحثين توكيدهما على دور العوامل الاقتصادية والسياسية - الاجتماعية في تكوين ظاهرة المافيا، واعتبارهما إياها تعبيراً من تعابير "المسألة الجنوبية" برمتها، أي مسألة تخلف الجنوب الذي بقي زراعياً واقطاعياً بسبب اهمال السلطات المركزية التي اعطت الاولوية في التصنيع ولتحديث لأقاليم الشمال. وبحسب توصيف ليوبولدو فرانشيتي، الذي قدم الى جزيرة صقلية في اطار لجنة تحقيق برلمانية، فان المافيا رسابة "قروسطية". ومن دون ان تكون افرازاً لأية حتمية عرقية او بيولوجية مزعومة فانها تعبر عن تقصير تاريخي مزدوج من جانب النخبة المحلية والقومية معاً.
فالنخبة المحلية، اي الطبقة السائدة الصقلية التي تتألف في غالبيتها من ملاك اقطاعيين ونبلاء ارض، رفضت الانفتاح على رياح الحداثة التي هبّت من الشمال الصناعي مع تحقق الوحدة الايطالية، وسعت الى الحفاظ على امتيازاتها القروسطية، وحماية املاكها بالاعتماد على ظاهرة "الاستزلام"، اي استئجار عملاء من اوساط الاجرام ليكونوا لها بمثابة "شرطة خاصة". اما تقصير النخبة القومية فيتمثل في ضعف السلطة العامة المركزية وتهاونها في التمسك بالمثل الاعلى السياسي والاجتماعي للدولة الايطالية الموحدة وميلها، لاسباب انتهازية، الى التواطؤ مع النخبة المحلية، وامتناعها عن مد سلطة الشرعية القومية الى صقلية والمناطق "الخصوصية" الاخرى من الجنوب الايطالي.
والواقع انه ابتداء من مطلع القرن العشرين، ومع اكتساح المادية التاريخية لساحة الدراسات لاجتماعية، التزم اكثر المؤرخين الايطاليين بتأويل المافيا على انها "افراز من الاقطاعية"، سواء كان المقصود بالاقطاعية نمطاً بعينه من الاقتصاد الزراعي القائم على الملكية الكبيرة للارض ام كان المقصود بها ديمومة اشكال محلية وخصوصية من السلطة مستقلة عن السلطة المركزية التحديثية ومشدودة الى بنية اجتماعية واخلاقية قروسطية.
وعلى هذا النحو اكد اميليو سيرين في دراسته التاريخية الكلاسيكية عن "الرأسمالية في الريف" 1947 ان المافيا هي "رسابة عنيدة من رسابات علاقات الانتاج والنمط الاجتماعي ما قبل الرأسمالي في الارياف الصقلية".
وذهب باحث آخر، هو سلفاتور رومانو الى ان المافيا ليست مجرد "رسابة" بل افراز ورد فعل لطبقة اجتماعية جديدة هي "البورجوازية الزراعية". وهي طبقة هجينة ما كان لها ان ترى النور الا في صقلية والجنوب الايطالي عموماً حيث تخلخلت القاعدة الاجتماعية لنظام الاقطاع الزراعي من دون ان تخلي مكانها لعلاقات المجتمع الصناعي وقيمه.
والى رأي قريب من هذا ذهب الباحث الاجتماعي الالماني هينر هس في دراسته الصادرة عام 1970 عن المافيا التي رأى فيها تعبيراً مأزوماً عن التحول الرأسمالي للارياف الايطالية، في زمن فقد النظام الاقطاعي المحلي قدراً كبيراً من مشروعيته من دون ان تتأكد بما فيه الكفاية، في الوقت نفسه، مشروعية الدولة الممركزة. وعليه فان المافيا هي نتيجة لوضعية انتقالية ناجمة عن ا زدراع مؤسسات النظام الليبرالي الحديث في نسيج مجتمع اقطاعي تقليدي.
وعلى حد تعبير الباحث الاجتماعي الاميركي بول شنايدر في دراسته عن "الثقافة والاقتصاد السياسي في غربي صقلية" 1976 فان المافيا هي تعبير عن سيرورة التحديث من دون تنمية التي شهدتها صقلية في عصر اندماجها بالنظام الرأسمالي العالمي.
اما الباحثة الفرنسية الايطالية الاصل ماري آن بونوشي فتؤكد في دراستها عن "تاريخ المافيا" 1994 على العلاقة الجدلية بين الدولة والمافيا. فالمافيا هي نتاج لضعف الدولة الوحدوية، وبقدر ما تكسر المافيا احتكار الدولة للعنف الشرعي فانها تمثل دولة داخل الدولة. وهذا التطاول على سلطة الدولة قد يتخذ احياناً، ومن جراء ضعف الدولة، طابع التواطوء فتغدو الدولة نفسها مافيوزية، وتغدو المافيا نفسها ذات سلطة سياسية، ومثل هذا التواطؤ عرفته ايطاليا في عهد الديموقراطية المسيحية ممثلة برمزها لتاريخي الكبير جوليو اندريوتي الذي شغل منصب وزير ورئيس وزارة لعشرات المرات والذي كادت تنتهي حياته السياسية في السجن بتهمة التعاون مع المافيا والاستعانة بخدماتها.
وقد نستطيع من خلال هذا العرض للدراسات التاريخية المشتركة عن المافيا ان نخلص الى القول ان المافيا قد كفت على هذا النحو عن ان تكون ظاهرة انتروبولوجية متعالية على قانون الزمن لتغدو محض ظاهرة تاريخية. ولقد كان القاضي جيوفاني فالكونه قد عرّفها بأنها "ظاهرة انسانية، وككل الظاهرات الانسانية فان لها بداية ومساراً ولا بد ان تكون لها نهاية". ولقد تصور القاضي فالكونه انه هو الذي سيكتب، بالاعتماد على قوة القانون وشرعية الدولة، نهاية المافيا. لكن الأخيرة، التي يبدو انها لم تستوف بعد أَجَل حياتها، هي التي افلحت في ان تضع نهاية لحياته باغتياله عام 1992.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.